كانت أداماس تراقب سافيروس من على مسافة خطوةٍ واحدة، حينها لاحظت أمرًا غريبًا.
كان أهل إقطاعية الماركيز، كلما مرّ سافيروس، لا ينحنون تحيةً أمامه، بل يطأطئون رؤوسهم نحوه جانبًا أو إلى الخلف.
يبدو أنهم خجولون جدًا. لكن، لسببٍ ما، شعرت أنها تفهم ذلك.
كان سافيروس رجلًا ذا هيبة. و كانت تحيط به هالةٌ تجعل الاقتراب منه أمرًا صعبًا.
‘ومع ذلك، لماذا يبدو لي هشًّا إلى هذا الحد؟ أهو لأنني أعرف تاريخه القصير العمر؟’
رجلٌ يتخلى عن نفسه أولًا عند لحظة الخطر….أليس هذا قدر بطلٍ تعيسٍ نموذجي؟
أن تعجز عن إزاحة عينيكَ قلقًا، هذا ما كانت أداماس تشعر به وهي تراقب سافيروس هذه الأيام.
‘ها؟ انتظري لحظة….’
“سيد سافيروس، لماذا استمعتَ إلى كلامي في ذلك الوقت؟”
“عمّ تتحدث؟ أيّ وقت؟”
“عندما رأيتني لأول مرة. كنتَ متأكدًا أنه لا توجد امرأةٌ مثلي في مانو، فلماذا رافقتني حتى جزيرة بارانتو؟”
لماذا قررتَ أن تحمي الخلفية من أجلي، وأنا شخصٌ تراه للمرة الأولى؟
“لأنك كنتِ تحملين ذلك الخاتم.”
قال سافيروس ذلك وهو يومئ بذقنه نحو يد أداماس.
“خاتم الزمرد؟”
“نعم.كنت واثقًا حينها أن من سرق خاتمي هو عائلة أونيكس.”
“وما علاقة ذلك؟”
تنهد سافيروس بعمق.
“ظننتكِ شخصًا على صلةٍ بعائلة أونيكس.”
“وما زلتُ لا أفهم، لماذا؟”
“لأنكِ، في هذه الحالة، من أهل مانو أيضًا.وما دمتِ كذلك، فلا يتغير كوني يجب أن أحميكِ.”
‘يعني، حتى وهو يظنني قريبةً لتلك العائلة المنحوسة، أراد حمايتي لأنني من مانو؟’
هاه.ما خطبه هذا؟هل يستمتع بالفطرة بالتضحية بنفسه؟
“على كل حال، ما قصة ذلك الخاتم فعلًا؟”
“كم مرةً قلتُ لك.إنه من متعلقات والدي.”
وهي تتجنب عيني سافيروس، أخذت أداماس تدير خاتم الزمرد في إصبعها ببطء.
“هكذا إذاً.فهمت.”
“هذا كل شيء؟”
“خاتم الزمرد رمزٌ لأسرة الماركيز، لكنه ليس واحدًا فريدًا.يقال إن كل فرد من العائلة يحصل على واحد عند ولادته.وفوق ذلك، أنتِ تشبهين الماركيز كثيرًا.خصوصًا عيناكِ الخضراوان.”
قال سافيروس وهو يشير إلى عيني أداماس.
‘طبيعيٌ أن أشبهه.فالماركيز يشبه أبي أصلًا. كما أن لون عيني ورثته عن والدي.’
“أنا لا أعرف جيدًا علاقات القرابة داخل عائلة الماركيز.وبما أن الماركيز لا يبدو أنه يعرفكِ، فأنتِ على الأرجح……”
عضّ سافيروس شفته ونظر إلى الجبال البعيدة.
ومن منظره فهمت. كان يشك في أنني قد أكون الابنة غير الشرعية للماركيز السابق.
‘هل بدوتُ له كـ”امرأةً تحمل متعلقات أبيها الحقيقي، التي ورثتها من والدها بالتبني عند وفاته، وجاءت إلى الإقطاعية حاملةً سر ميلادها”؟’
أرادا أن تقول لا، لكن لا توجد طريقةٌ لإثبات ذلك.ولو قالت أنها جئت من المستقبل، فلن تحصل إلا على لقب مجنونة.
لم يكن أمامها سوى أن تبتسم بوقاحة و تتجاوز الأمر.
في الحقيقة، كان لدى أداماس سببٌ واضح يجعلها تتمسك بالبقاء إلى جانب سافيروس، ولو بهذه الطريقة.
مهما قيل عن كآبتها أو غير ذلك، فهذا الرجل، على حد علمها، هو الأقوى في هذه الإقطاعية.
“أنتَ تُسرع في المشي مجددًا.تمهّل.أنا لا أعرف الطريق، أتعلم؟”
‘نعم.وما المشكلة إن كان سيئ الحظ قليلًا؟ إنه حبل حياتي، وحبل حياة الإقطاعية كلها.’
فاحت رائحة ماء خفيفة.كان بيتًا خشبيًا بجوار جدول صغير، أحد فروع نهر باران، يمر بالقرب من المنزل.
‘آه….إذاً كان مكانًا حقيقيًا.’
كانت أداماس قد رأت بيت سافيروس من قبل.كان منظرًا معلقًا داخل إطار على جدار بيتها في طفولتها.
‘ظننتها مجرد لوحة طبيعية معلقة، لكن لم تكن كذلك.’
لكن شكله….
“من يراه يظنه بيت صياد.”
كان كبيرًا بما يكفي لرجلٍ واحد، لكن مهما يكن، لم يكن بيتًا يليق بقائد فرسان إقطاعية الماركيز.
“كيف عرفتِ؟يقال أن عائلة من الصيادين كانت تعيش هنا سابقًا.ثم تركوا البيت ورحلوا.”
“يا للهول.”
“كما توقعت، هناك شيء ما. أنتِ لستِ عادية.”
“اسمع، أليس من الممكن أن الماركيز لا يدفع لكَ راتب قائد الفرسان أصلًا؟”
“إنه مجرد عيشٍ متقشف.”
تمتم سافيروس متجنبًا نظرة أداماس.
“حسنًا.فلنعتبره كذلك.تفضل وعرّفني على البيت، أيها السيد سافيروس.”
قالت أداماس ذلك وهي تمد ظهر يدها بحركةٍ مسرحية.
“لا تتصرفين كآنسةٍ إلا في مثل هذه اللحظات.”
فابتسم سافيروس بخفة، ثم أمسك ظهر يد أداماس بهدوء.
فتح الباب المتهالك، وقاد أداماس إلى طاولة الطعام، ثم جمع مصابيح الزيت في أرجاء البيت وأشعلها.
كان البيت مريحًا على غير المتوقع. وبالتأكيد لم يكن ضيقًا لاثنين.
مررت أداماس يدها على الطاولة مسحًا.وبمجرد أن رآها، تحدّث سافيروس على عجل،
“آه، فيالـ-الأصل، كان المكان نظيفاً.”
هل تقصد أنه يكون أنظف من هذا عادة؟
بصراحة، كان أنظف بكثيرٍ من غرفتها هي. فغرفة أداماس كانت مليئةً بكل أنواع الأطروحات والكتب المتعلقة بالسحر، متناثرةً هنا وهناك….مع الغبار.
“أنا أعيش عادةً بنظامٍ ونظافة شديدين. أكرّس نفسي لحماية إقطاعية الماركيز، وغالبًا ما أركز على أمر الغوليمات. لكن فجأة هاجمت مملكة روفيانا….”
معركةٌ تحدث لأول مرة منذ خمسين عامًا. ورغم أن الجيش كان قد شُكِّل على عجل، إلا أنهم قاتلوا بهذا القدر، ما يعني أن النصر كان كاسحًا بالفعل.
ومع ذلك، أولئك التابعون لمانو اختاروا منذ الصباح أن يمسكوا عليه الزلات.
“في الحقيقة، لا أفهم لماذا هاجمتنا روفيانا. خمسون عامًا من الهدوء، ثم فجأة.…”
وهو يضع الماء في إبريق قصديرٍ مشوّه، راح سافيروس يتذمر.
وحين همّ بهدوء أن يشعل النار باستخدام حجر الصوان، أوقفته أداماس ولوّحت بيدها، ثم استدعت كرةً نار صغيرة وأشعلت الموقد.
فجأة، قال. بالنسبة لمن تعرّض للهجوم، نعم، كان الأمر مفاجئًا، لكن بالنسبة لمن هاجم، لم يكن كذلك.
ومع ذلك، لم يكن لدى أداماس أدنى رغبة في إخبار سافيروس بهذه الحقيقة.
ليس فقط لأنه لا يمكنها شرح مصدر هذه المعلومة، بل لأن السبب ذاته كان….رومانسيًا أسطوريًا. ولي عهد روفيانا، سبينيل.
بسبب حبه، انهارت هدنةٌ دامت أكثر من خمسين عامًا، وقُتل عددٌ لا يُحصى من سكان إقطاعية الماركيز.
لم تستطع أداماس أن تقول هذا لسافيروس. فاكتفت بالمراوغة.
“أظن أن لا أحد يستطيع فهم ما يجري داخل روفيانا الآن.”
“لكننا بحاجةٍ إلى المال، على أي حال.”
“هاه؟كنا نتحدث عن روفيانا، أليس كذلك؟حتى أننا كنا نتحدث عن الغوليمات!”
“….…”
“لا تنظر إليّ بهذه الطريقة.”
“بأي طريقة؟”
“بتلك النظرة التي تقول: ماذا أفعل بهذه المرأة الغبية.”
“أنتِ حادّة الملاحظة فعلًا.”
ابتسم سافيروس ابتسامةً مائلة، ثم سكب ماءً دافئًا من الإبريق في كوبٍ متشقق، ودفعه نحو أداماس.
“أداماس. سأقولها مرةً أخرى. إقطاعية الماركيز بحاجةٍ إلى المال.”
“كم؟وأين بالضبط؟”
“لنُعيد بناء السور الجنوبي.”
“لكن الجنوب كله صحراء، أتعصف الرياح الرملية إلى هذا الحد؟”
“تقولين هذا بعد أن رأيتِ الغولم بعينيكِ أمس؟”
“هذا ما لا أفهمه.لماذا تأتي الغولمات من الصحراء أصلًا؟”
صحراء غلايف، الواقعة جنوب إقطاعية الماركيز. مكان خاوٍ، بلا حياة.
“لا يوجد في الصحراء أي شيء أصلًا. القيام بأعمالٍ هندسية بلا داعٍ هكذا سيؤدي إلى الهلا-”
توقفت أداماس عن الكلام. ففي تلك اللحظة، خطر في بالها أمرٌ واحد.
إحدى أولى وأكبر المشكلات التي تُذكر دائمًا كسببٍ لسقوط إقطاعية مانو. أعمالٌ هندسية مفرطة، بلا سبب مفهوم.
“انتظر….لا تقل أن سبب تلك الأعمال العبثية هو الغولم؟”
“ماذا تقولين؟نحن نبني السور بالطبع بسبب الغوليمات.”
“هذا مستحيل! الغوليمات ليست وحوشًا تتولد طبيعيًا. لا بد لها من صانع.”
كان من البديهي أن الغوليمات لا يمكن أن تأتي من الصحراء. فصحراء غلايف لم يسكنها البشر أصلًا.
“أليست قصةً معروفة؟ إشاعةٌ تقول أن ساحرًا مجنونًا بنى زنزانةً تحت الأرض في الصحراء، ويصنع فيها الغوليمات.”
قال سافيروس ذلك بصوت ٍمنخفض.
وبكل تأكيد، كانت تلك إشاعةً تسمعها أداماس لأول مرة.
“ولماذا يفعل شيئًا كهذا؟”
“قلت لكِ، لأنه مجنون. كيف لي أن أعرف السبب؟”
“ومنذ متى تنتشر هذه الإشاعة؟”
“لا أعلم. ربما منذ مئة عام.”
“ولهذا تبنون سورًا؟لمنع غوليماتٍ قادمة من الصحراء؟ أليس الأولى استكشاف الصحراء؟ ليس بناء سور، بل القبض على ذلك الساحر المجنون!”
فتنهد سافيروس بعمقٍ قبل أن يجيب.
“لقد أُجري التحقيق. كاريندوم تولى الأمر.”
“….…”
“وهنا تكمن المشكلة.حتى بعد التحقيق، قالوا أنهم لا يعرفون شيئًا. الغوليمات تستمر في الظهور. وسكان الإقطاعية يعيشون في خوفٍ دائم.”
إذًا لهذا كان ينظر بتلك الحدة إلى ساحر كاريندوم.
“ومع ذلك، لقد ساعدوا في القضاء على الغوليم.”
“لأن الغوليم الثاني كان متجهًا إلى مقر إقامة كاريندوم الخاص.”
“……هذا أسوأ مما توقعت.”
“هل أخبركِ بما هو أسوأ؟”
تابع سافيروس كلامه بوجهٍ يكاد يبكي.
“أونيكس روميل هو من يقود مشروع بناء السور. القوى العاملة تُساق من فلاحي الإقطاعية، لكن كل مواد البناء المستخدمة تأتي من جبال ومناجم عائلة أونيكس. وثمنها كله يُسجل ديونًا على عاتق بيت الماركيز. والأسوأ أن المبلغ يزداد يومًا بعد يوم. أظن أننا لن نستطيع سداده.”
“هذا خطرٌ حقيقي.”
كانت هناك مسألة نفوذٍ داخل الإقطاعية.
فالأمر لا يتعلق فقط ببناء السور بأموال أونيكس، بل بإظهار من هو الحاكم الحقيقي في نظر الفلاحين والأقنان.
“إن اكتمل السور على هذا النحو، فسيغدو السور الجنوبي رمزًا لعائلة أونيكس.”
“أي أن من بنى السور من أجل السكان لن يكون الماركيز، بل أونيكس.”
“بالضبط.”
ضربةٌ حاسمة تغيّر علاقاتٍ متجذرة، والحل الأكثر يقينًا لكسر هذا الوضع.
“لهذا يا أداماس، إقطاعية الماركيز بحاجةٍ إلى المال.”
المال. نعم، في الوقت الحالي، المال هو كل ما نحتاجه.
“حسنًا يا سافيروس.ما هي المنتجات المحلية هنا؟”
“قمح الشتاء، وفول الصحراء.”
قمح وفول. وكيف يُبنى سورٌ بهذا؟
ثم تابعت أداماس الأسألة،
“وكم تنتجون؟”
“كنا ننتج ما يكفي للعيش.”
ليس “ننتج”، بل “كنا ننتج”.
“يعني أن الإنتاج لم يعد كما كان؟”
“كلما نسينا الأمر، عاثت الغوليمات فسادًا. حتى الزراعة بطمأنينة باتت صعبة. ونزوح السكان مقلق.”
“تقصد أن الناس يفرّون من الإقطاعية؟”
“نعم.حتى حين اقترحتُ نشر فرسان لمنع نزوحهم، لم يستطع الماركيز فعل ذلك.قلبه ألين مما ينبغي.”
قال سافيروس ذلك وهو يضغط على أسنانه.
“علينا أن نبني السور في أسرع وقت.”
نعم، بهذا الشكل، سيصبح بقاء الإقطاعية نفسه مهددًا.
فهزّت أداماس رأسها بقوة لتوقف أفكارها.
لو كان الحل سهلًا، لما وصلت الإقطاعية إلى هذا الحد.فالماركيز الذي رأته، وكذلك سافيروس أمامها، ليسا أغبياء.
“دعنا نفكر بهدوء.أظن أنه من الأفضل أن نرتاح أولًا. أنتَ تحديدًا، عدتَ لتوك من ساحة المعركة.”
“صحيح. وأنتِ أيضًا، ارتاحي.”
“إذًا، أين غرفتي؟”
“استخدمي الغرفة الداخلية.هي الغرفة التي أستعملها عادةً.”
الغرفة التي يستعملها؟ لا تقل.…!
“تقصد أننا سنستخدم الغرفة نفسها؟!”
______________________
امسكي افكارس يابنت😭😭 ماقال حتى بروح معس! ضحكتت
كان يناقشون شي جدي و واو ورايع بس احي فصلات اداماس😂
المهم يارب سافيروس يوقع اول تكفوووووووون
Dana
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 9"