8
دانغ— دانغ— دانغ.
دوّى صوت الجرس بصخبٍ من برج الأجراس.
المنطقة التجارية المزدهرة في إقطاعية الماركيز تخلّت عن هدوء المساء كله، وغرقت في ضجيجٍ عارم وصخبٍ فوضوي، على عكس ما كانت عليه تمامًا حين مرّا بها أداماس وسافيروس في الفجر الباكر.
“الجميع، تحلّوا بالهدوء وأخلوا المكان فورًا!”
بين الناس المرتبكين والباعة الجوالين الذين كانوا يطوون بسطاتهم على عجل، أخذ الحراس يصرخون موجهين تعليمات الإخلاء.
“واااااه.”
“آآآآآآك!”
“أوخ، لا تدفعوا! آآه، دستَ على قدمي! قدمي يا عم!”
إنه جحيمٌ متواصلٌ طوال اليوم.
كانت أداماس تتمايل متخبطةً وقد جرفتها أمواج البشر من كل جانب.
‘لا، ما الذي يحدث بالضبط حتى صار الجميع هكذا.…؟’
وبينما كانت تَدفع من هنا وهناك، رفعت أداماس رأسها بصعوبة، فامتلأت عيناها بشكلٍ قاتمٍ داكن. حدّقت فيه ثم فركت عينيها مرارًا.
“هذا….غير معقول.”
كتلةٌ هائلة يبلغ ارتفاعها نحو ثلاثة أمتار، صُنعت من طينٍ أسود كثيف.
جسدٌ عملاقٌ ينفث وهجًا أحمر خافتًا بين خيوط الغروب الآفل، وكان شيءٌ ما يلمع بخفةٍ على جبهته.
“هاهاهاها. لا تقل لي أن هذا هو الشيء الذي قال سافيروس أنه يعبر الصحراء؟”
‘يا لسوء الحظ اللعين الذي يلازم هذه الإقطاعية.’
خرجت الشتائم من فمها تلقائيًا.
“واو، حقًا. إقطاعية ماركيز ملعونة! كأن مصيرها أن تهلك مهما كان!”
ذلك الشيء الذي لم يكن يُرى إلا في كتب السحر المدرسية، كان الآن ماثلًا أمام عيني أداماس.
وحشٌ مجهول عبر الصحراء….إنه غولِم.
“يا للسماء، ثلاثة غولِماتٍ دفعة واحدة؟ أين سافيروس؟”
حتى وهي تُدفع بين الناس، أخذت أداماس تلتفت حولها باحثةً عن سافيروس.
وجدته أخيرًا تحت برج الأجراس مباشرة. و كان سافيروس يشهر بسيفه ويركّز ذهنه بالكامل.
ومن نصل السيف بدأت هالةٌ زرقاء، كسرابٍ خفيف، تتصاعد ببطء حتى غلّفت السيف الطويل النحيل.
‘نصل الأورا!’
صار ظهر السيف أكثر سُمكًا بمرتين، وامتدّ النصل إلى أكثر من ضعف طوله.
“كما توقعت، سيّد السيف يبقى سيّد السيف.”
أصغر سيّد سيف غير رسمي في إمبراطورية فرانسيس. كانت عبقرية مانو سافيروس تتلألأ في تلك اللحظة.
رفع سافيروس سيفه المغلف بالحدّة الزرقاء، وانقضّ كالسهم نحو الغولِم.
كواااك— بواك—
بدويٍّ هائل، انفصل عنق الغولِم. ومن دون أن يضيّع لحظة، اندفع سافيروس نحو الغولِم الثاني، فباشر الغولِم الآخر بدوره هجومه عليه.
وإذ شاهدت أداماس سافيروس يعاني تحت هجومٍ مركزٍ من غولِمين، عضّت على شفتيها.
“هياااه!”
كان يهاجم مطلقًا صيحةً مدوية، لكن يبدو أن الوقت لم يسعفه للتركيز، فلم تكن حدّة سيفه بقوة الضربة الأولى.
ومع ازدياد هياج الغولِمان ودمار المدينة من حوله، قبضت أداماس على يدها بقوة.
يجب أن أساعد سافيروس بأي طريقة….
“أوه! لا تدفعوني!”
لم تستطع الاقتراب. فالحشود التي تحاول الابتعاد قدر الإمكان عن الغولِمان كانت تدفعها للخلف بدلًا من أن تتركها يتقدم.
“آآه! آه، قدمي!”
‘يجب أن أصل إلى هناك.’
حتى لو لم أستطع القضاء على الغولِم، يكفي أن أشتّت انتباهه قليلًا، وساعتها سيتمكن سافيروس من قطع عنقه بسهولة.
“أرجوكم، لا تدفعوا!”
“تنحّوا جميعًا!”
صرخات المتعثرين والساقطين، وبكاء الأطفال المنادين على أمهاتهم، ترددت في كل مكانٍ في آنٍ واحد.
وفي تلك اللحظة، مرّ بجانب أذن أداماس هدير ريحٍ عاتية، ثم هبّت من خلفها موجة حرارةٍ ساخنة— هووف.
ما اخترق الهواء المهتز وعبر أمام عيني أداماس لم يكن سوى النار.
شهاااك— كواانغ—
اندفعت ألسنة اللهب نحو أسفل قدمي الغولِم. و لم يفوّت سافيروس تلك اللحظة الخاطفة.
وبنصل الأورا الأزرق، قطع عنق الغولِم الذي تباطأت حركته. فانفجر رأس الغولِم بانفجارٍ مكتوم، كألعابٍ نارية، وتناثرت ذرات التراب عاليًا في الهواء.
دفع سافيروس الأرض بكل ما أوتي من قوة وقفز، ثم قطع بلا تردد عنق الغولِم الأخير.
كانت حركاته المتتابعة سلسةً كجريان الماء، حتى أن أداماس ظلّت تحدّق مذهولةً في المشهد.
كوكوكونغ—
لم يستغرق سقوط رؤوس الغولِمات الثلاثة حتى عشر دقائق.
وفي مواجهة قتال سيّد سيف تراه للمرة الأولى في حياتها، فقدت أداماس إدراكها من شدة الانبهار.
سيفٌ حاد يشقّ الريح، ونصل أورا أزرق متلألئ، جعلا قلبها يخفق دون إرادة.
‘واو….يبدو أنني أحبّ سادة السيوف فعلًا.’
رفع سافيروس نظره ببطء من رؤوس الغولِمات المحطمة، واتجهت عيناه نحو أداماس….أو بالأحرى إلى الجهة الواقعة خلفها.
آه، صحيح….كان هناك حريقٌ من الخلف، أليس كذلك؟
وعند اتجاه نظر سافيروس، أدارت أداماس رأسها بسرعة. وفي الجهة التي استدارت إليها، كانت تقف ساحرةٌ ترتدي رداءً أحمر قانيًا.
‘هل تبلغ الأربعين من عمرها؟’
شعرٌ بلون ورديٍ داكن، وعينان باللون نفسه. كانت امرأةً فاتنة على نحوٍ لافت، ذات ملامح باردة وجليدية.
كانت عينا سافيروس، وهو ينظر إلى تلك الساحرة، باردتين. لم تكن نظرة من يرى منقذًا أو حليفًا.
دانغ— دانغ—
دوّى جرس البرج مرةً أخرى. و الناس الذين كانوا يخلون المكان، والذين اختبأوا هنا وهناك، اندفعوا دفعةً واحدة عائدين إلى منازلهم.
قام الحراس وفرسان بيت الماركيز بإزالة بقايا الغولِم. و اقتربوا من سافيروس، و سلّموه شيئًا ما وتبادلوا معه بضع كلمات.
مستغلةً الفوضى العابرة، شقّت أداماس طريقها بين الناس واقتربت من سافيروس.
يبدو أن المواجهة كانت عنيفةً فعلًا، إذ كان وجه سافيروس مبللًا بالعرق تمامًا.
فأطلقت أداماس نسمةً باردة باتجاه وجهه.
“آسفة. كل ما أستطيع فعله من السحر لا يتجاوز هذا.”
داعبت الريح الخفيفة خصلات شعر سافيروس الأمامية. نسيمٌ ليطفئ الحرارة، مرّ فوق وجهه.
“……هذا كافٍ.”
كانت تريد أن تكون عونًا له، لكنها لم تستطع أن تفعل شيئًا يُذكر.
“ما بكِ؟ لماذا هذا التعبير؟ هل أُصبتِ في مكانٍ ما، أداماس؟”
“لا. لا شيء. يبدو أن الغبار دخل عيني.”
“يبدو أن الحراس سيتكفلون بالباقي. لنعد.”
لفّ سافيروس ذراعه حول كتفها.
“هاه؟ آه.”
وقد انحنى قليلًا وضمّ أداماس بإحكام، ثم غادرت سافيروس المكان.
من دون أن يلقي حتى نظرةً واحدة على الساحرة ذات الشعر والعينين الورديتين التي كانت تحدّق بهما.
“أمم….سافيروس؟”
كانت اليد التي تمسك بكتفها ترتجف. وكان يعضّ على شفتيه بقوةٍ حتى كاد الدم يسيل.
سافيروس الذي لم يوجّه حتى كلمة شكر لمن ساعده. والساحرة التي لم تُبدِ أي اكتراثٍ به.
آه، هكذا إذاً.
كانت أداماس تعرف تلك الساحرة. وكانت تظن أنها تفهم الآن سبب تجاهل سافيروس لها.
العائلة الوحيدة التي تستخدم السحر في مانو.
إنها سيدة بيت كوراندوم، الذي يحكم فعليًا إقطاعية ماركيز مانو إلى جانب أونيكس.
كانت ساحرة كوراندوم.
***
كان ذلك وقت بزوغ الفجر.
“لورد سافيروس، ألا يمكننا البقاء قليلًا قبل الرحيل؟ جرح كتفكَ، ثم إنكَ أفرطتَ في القتال ضد الغولِم.”
“لا أستطيع أن أكون عبئًا أكثر من هذا.”
“لا أظن أن الماركيز سيفكر بالأمر بهذه الطريقة.”
“ولهذا لا ترغبين في الذهاب معي؟”
“نعم. بالطبع.”
ردّت أداماس بثقة.
“ماذا؟ ولماذا؟”
“أيًّا كان منزلكَ، فلن يكون أفضل من قصر الماركيز، أليس كذلك؟”
في الحقيقة، كانت أداماس قد سألت هيدينايت مسبقًا إن كان هناك مكانٌ شاغر لخادمة مقيمة. وقد ظنّ هيدينايت أن الأمر مزحة ثقيلة ولم يأخذه على محمل الجد.
لكن بالمقابل، قال لها هيدينايت أنها تستطيع البقاء في قصر الماركيز ما شاءت إن كان منزل سافيروس غير مريحٍ لها.
“لا، الآن بعد أن فكرت بالأمر، هذا غريب. لماذا عليّ أن أذهب إلى منزلكَ أصلًا؟ الماركيز قال إن بإمكاني البقاء في القصر!”
“لا يمكن السماح لشخصٍ مجهول الهوية بالبقاء إلى جانب الماركيز.”
“هل تعتبرني شخصًا خطيرًا؟”
“وما رأيكِ أنتِ؟”
“يا هذا!”
هل كان ذلك إقرارًا؟ أم تجاهلًا؟
إن كان إقرارًا فذلك مزعج، وإن كان تجاهلًا ساخرًا فهو جرحٌ للكرامة.
والمثير للدهشة أن سافيروس جمع الأمرين معًا.
“يبدو أنكَ تسمع كثيرًا أنكَ شخصٌ ثقيل الظل، أليس كذلك؟”
و واصل سافيروس طريقه بصمتٍ، غير مكترثٍ لمشاعر أداماس أو حديثها.
هزّت أداماس رأسها يميناً ويساراً، ثم تبعته من الخلف.
“لورد سافيروس، قصر الماركيز واسعٌ جدًا ويقيم فيه عددٌ كبيرٌ من الخدم، فلماذا تصرّ على الخروج والعيش منفصلًا؟”
فتنفّس سافيروس بعمق،
“ألم أكن أكرر ذلك طوال الوقت؟ لا أستطيع أن أكون عبئًا. لماذا لا تصغين لكلامي وتصرّين على طرح الأسئلة؟”
“لأنني لا أفهم.”
لم يكن ليراهم عبئًا أبدًا. بل إن الماركيز نفسه كان قد ودّعهما وهو يطلب منهما البقاء قليلًا، بل ودعاهما لزيارته كثيرًا.
“فقط، اتبعيني بصمت. المكان لن يكون ضيقًا لشخصين.”
“آه، إذاً كنتَ تريد أن تبقى معي وحدنا؟ رجلٌ وامرأة في بيت واحد. يا إلهي! هل أصبحنا مخطوبين الآن أيضًا؟”
غمزت أداماس بعينها وتعلّقت بذراع سافيروس.
عندها، ومن دون أن يتغيّر لون وجهه قيد أنملة، رفع سافيروس يده بهدوءٍ ووضعها على سيفه.
“هيه، توقف. أوقف الحركة التي تنوي فعلها حالًا.”
فسحبت أداماس يدها بسرعةٍ من جسده.
“ألا يمكن أن تحدث مثل هذه الأمور حين تكونين وحدكِ مع مبارز؟”
“لا! لا تجعل الأجواء مرعبةً فجأة. ارفعي يدكَ عن السيف فورًا!”
“……أنتِ بطيئة. أسرعي في المشي.”
“ومن قال أنني أريد المشي ببطء؟ أنتَ من يجب أن يبطئ قليلًا.”
“تسك، يبدو أن حمْلكِ سيكون أسرع.”
“أوه، ستفعل؟ أيمكنني أن أُحمَل على ظهر خطيبي قليلًا؟”
قفزت أداماس نحو كتف سافيروس وكأنها تتعلّق به، فدفعها سافيروس بيده ببرودٍ وكأنه منزعج.
“خطيبي….هل أنتَ خجول؟ قلت لكَ احملني!”
“إلى متى ستستمرين في ترديد تلك العبارة السخيفة؟”
“ولمَ؟ أتشعر بالحرج؟ مع أنكَ تقدّمت بطلبٍ أنيق للخطبة، فلماذا تتصرّف هكذا؟ هم؟”
أطبق سافيروس شفتيه بإحكام، وتجاوز أداماس مسرعًا إلى الأمام.
“حسنًا، فهمت. لن أضايقكَ. تقدّم. هيا! إلى بيتنا!”
“……بيتنا.”
أومأ سافيروس برأسه لهذا بهدوء، وواصل السير.
ببطءٍ شديد، كي تتمكّن أداماس من اللحاق به دون عناء.
__________________
يالحنيه قاعد يتحرك شوي شوي عشانها😭🤏🏻
هواشاتهم تضحك ولا كأنهم قبل شوي تو بغوا ينقلبون
حتى سافيروس نسى انه قالها لاتطلعين؟ وناسه
انفدا علاقتهم ياناس😔🤏🏻
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 8"