الأول من سبتمبر.
كانت شمس الظهيرة الصفراء الساطعة تزيّن السماء. ومع توافد المبتدئين المتحمسين، الذين يحلمون بأن يصبحوا فرسانًا، من كل حدبٍ وصوب، اصطفّت على جانبي الشارع الرئيسي أكشاكٌ متنوعة نادرًا ما شوهدت من قبل في إقطاعية الماركيز.
ومع الازدياد الملحوظ في دخول الغرباء، ازدهرت النُزُل والحانات على غير العادة وامتلأت عن آخرها.
“فيوو. من أين جاء كل هؤلاء؟”
أطلقت أداماس صفيرًا وهي تتأمل الناس بسرور.
المهرجان الوحيد في مانو. اليوم الأول من سبتمبر. يومٌ واحدٌ فقط، لكن جميع سكان مانو يضعون همومهم جانبًا، ويأكلون ويشربون ويمرحون.
و راحت أداماس تحرّك عينيها بسرعةٍ و تمسح مطاعم الشارع بنظراتها.
“فطائر الفول الأخضر، موافق. شطيرة لحم الضأن، موافق. يجب أن أجرّبها! الآن! حالاً!”
“أتمنى لو تضعين نصف هذا التركيز في عملكِ كمحكّمة.”
سقط هذا التعليق الخفيف فوق رأس أداماس وهي منهمكةٌ في إعداد قائمة الطعام. و كان المتحدث سافيروس.
“سأؤدي عملي كمحكّمةٍ على أكمل وجهٍ أيضًا.”
أخرجت أداماس لسانها قليلًا وقطّبت حاجبيه. فمدّ سافيروس إصبعه ولمس جبينها المتجعد بخفة،
“أنتِ بخيرٍ حقًا، أليس كذلك؟”
حدّق سافيروس في خاتم الزمرد الذي ترتديه أداماس.
“آه….ولماذا تذكر هذا الآن؟”
ابتسمت أداماس بلا مبالاةٍ ورفع يدها تربت على رأس سافيروس. فانسلّ الشعر الأسود الناعم بسلاسة بين أصابعها.
وفي تلك اللحظة تحديدًا، ناداه أحد فرسان الكتيبة الذين كانوا يجهّزون ساحة المبارزة من مسافة تقارب عشرة أمتار.
“أيها القائد، هل لديكَ دقيقة؟”
“آه، سأذهب. سأعود حالًا.”
وهي تراقب ظهر سافيروس المسرع، شعرت أداماس لأول مرة بإحساسٍ غريب.
‘متى كبر إلى هذا الحد؟’
قبضت أداماس يدها بصمتٍ، وهي تحاول جاهدةً أن تنسى ملمس قمة الرأس المستديرة التي لم تكن لتصل إليها لولا أنه انحنى، وإحساس خصلات الشعر الناعمة التي مرّت بين أصابعها.
***
“ما الأمر يا كايرن؟”
“واو، أتشعل النار في صدر العازب العجوز! في هذا المكان المفتوح على مصراعيه؟ تمارس استعراضات حبٍ بكل جرأة! كنتُ أعلم أنكَ لا تبالي بنظرات الناس، لكن مهلاً، لماذا تحجب مجال رؤيتي؟ هل ساتآكل إن نظرت؟ ها؟ هل ستتسخ؟”
نظر سافيروس إلى كايرن، الذي كان يمازحه وهو يرمق أداماس من فوق كتفه، وهزّ رأسه نافيًا.
“كفى مزاحًا. ما الأمر؟ هل هناك مشكلةٌ في سير المبارزة؟”
كان كايرن من فرسان إقطاعية الماركيز السابقين، وتولى هذه المرة دور مقدّم بطولة المبارزة.
“بخصوص كلمة الافتتاح، هل ستلقيها بنفسكَ أيها القائد؟ بما أن سعادة الماركيز قد غادر.”
“….لا. لنتجاوزها. لا أحب الإطالة بما لا داعي له.”
قال سافيروس ذلك وهو يرفع بصره إلى السماء. و كان الطقس حارًا على نحوٍ غير معتاد.
و الماركيز، الذي أصيب بدوار شديد تحت شمس الظهيرة الحارقة، عاد قبل نصف ساعةٍ إلى القصر في حالة قريبة من الإغماء.
“أونيكس روميل يراقبنا من مكانٍ ما.”
“طبيعي، فحفيدُه يشارك هذه المرة.”
قبل عامين، وبعد أن انتزع سافيروس منه منصب المحكّم، لم يعد أونيكس روميل يظهر رسميًا في بطولة المبارزة.
لكن هذه المرة كانت مختلفة. لأن حفيده، أونيكس هافن، يشارك في هذه البطولة. و لا شك أنه يراقب النتائج متخفيًا كجرذ.
ومع تقليص حجم مهرجان الحصاد بما يتناسب مع أوضاع الإقطاعية، أقيمت بطولة المبارزة في يومٍ واحدٍ فقط.
ومع ذلك، ظلّت بطولةٌ تجمع هذا العدد من الناس دليلًا قاطعًا على أنها الحدث الأرفع شأنًا في الإقطاعية.
فتح سافيروس قبضته اليسرى ثم أغلقها بلا وعي.
كان هناك شيءٌ بالغ الأهمية، سلّمه له الماركيز مانو هيدينايت بنفسه وهو على شفير الإغماء.
“إذًا لنلغي كلمة الافتتاح، والتنظيم لكَ. لكن قدّم المحكّمين. هناك امرأةٌ ستتولى التحكيم بدل كورندم. اسمها مانو أداماس، ومن العاصمة فرانسيسكو.…”
“آه،هذه الأمور نمرّ عليها مرور الكرام، بسرعة. اتركوها لي. أنا كايرن. خمس سنواتٍ كاملة وأنا أقدّم بطولة المبارزة. ثق بي!”
ابتسم كايرن وهو ينفخ صدره بثقة، و بوجه يوحي حتى بالابتذال.
“آه،حقًا؟ حسنًا….مفهوم.”
هل يمكن الوثوق به فعلًا؟ كما يقول، خبرته خمس سنوات. لا يمكن أن يرتكب خطأً في مناسبة بهذه الأهمية….أليس كذلك؟
***
تحت برج الجرس المركزي في إقطاعية الماركيز، بدأ أخيرًا الحدث الرئيسي لمهرجان الحصاد: بطولة المبارزة.
ورغم الحر الخانق، تجمّع عددٌ هائل من الناس كالسحب المتراكمة. فاليوم هو يوم ولادة فرسانٍ جدد.
منصةٌ دائرية شُيّدت بخلط القش اليابس مع طمي نهر بارانغ، ثم رُصّت بإحكام. ارتفاعها خمسة سنتيمترات فقط، لكنها كانت كافيةً للفصل بين المتحدّي والمتفرّج.
وكان أول من وطئ المنصة التي يتمنى الجميع الوقوف عليها هو كايرن.
“حسنًا! الآن تبدأ بطولة المبارزة التي انتظرتموها جميعًا! هيا، تصفيق! نعم، في هذه البطولة لدينا رجالٌ رائعون، قد تنقصهم الوسامة قليلًا مقارنةً بي، قليلًا جدًا فقط! آه، وبالطبع لدينا أيضًا عددٌ لا بأس به من المبارِزات الممتازات. هيا، لا تدفعوا! وقبل أن نبدأ، دعونا نقدّم لجنة التحكيم! إن لم يكن التصفيق عاليًا فلن أقدّمهم!”
‘يا له من لسان يدور بسرعةٍ مرعبة!’
لم تُستخدم أيّ تعويذة تضخيم للصوت، ومع ذلك وصل صوتٌ عالٍ وواضح للغاية. فأضاءت عينا أداماس إعجابًا ببلاغة كايرن الصادقة.
و في الحقيقة،كانت أداماس تحاول إخفاء توترها متعمدةً صرف نظرها إلى مكانٍ آخر.
“هل أنتِ متوترة؟”
“نعم….قليلًا.”
‘هل من المعقول فعلًا أن يكون محكّم بطولة مانو هي أنا؟’
وكما هو الحال مع وجود سافيروس، كان هذا المكان مشهدًا تاريخيًا لم تعرفه إلا من الكتب. وها هي أداماس تقف في قلبه.
“لا تتوتري. أنا هنا.”
قال سافيروس ذلك بهدوء، ومدّ يده إلى أداماس.
‘أنت تحملتَ مثل هذا الضغط منذ كنتَ أصغر بكثير، أليس كذلك؟’
فابتلعت أداماس الكلمات التي عجزت عن النطق بها، وأمسكت بيد سافيروس.
“وأنا أيضًا بجانبكَ، يا سافيروس.”
“….نعم.”
وبأيدٍ مشدودة يرتدي أصحابها الخاتم نفسه، صعد الاثنان إلى المنصة وسط تصفيقٍ مدوٍّ.
“والآن، هؤلاء هم محكّمو بطولة المبارزة! الجوهرة السوداء لمانو، وأصغر سيّد سيف في الإمبراطورية! رئيسي البارد الصارم! مانو سافيروس!”
‘بارد؟ من قال ذلك؟ على أي حال، أغلقوا فمه هذا!’
تجهّم وجه سافيروس أمام هذا التعريف المفعم بالآراء الشخصية لكايرن.
“و لنتابع مع محكّمةٍ أخرى! بطلة مانو من فيلق فران، الذي يعرفها الجميع! سيّدة الصعق، مانو أداماس! هيا أيها السادة، كفّوا عن النظرات المريبة. للأسف، الإشاعة صحيحة،لديها شريك. آه آه، انظروا إلى ذلك الخاتم.”
وأشار كايرن بنبرةٍ باكية إلى خاتمي الزمرد في يدي أداماس وسافيروس.
في الواقع،كان خاتم سافيروس الحقيقي على الأرجح مكدّسًا بالغبار في أحد أدراج أونيكس روميل. أما الخاتم الذي يرتديه اليوم، فقد أعطاه له الماركيز سرًا قبل عودته إلى القصر.
ولوّح سافيروس بيده نحو سكان الإقطاعية، مرتديًا خاتم الزمرد المطابق لخاتم أداماس.
وبدون أن تتأخر، لوّحت أداماس هي الأخرى بحماسٍ لا يقل عنه. لأن الهتاف المدوي الذي أطلقه عدد لا يُحصى من أهل مانو كان…..ممتعًا، بل في الحقيقة ممتعًا جدًا.
وبسبب الطقس الحار، كان معظم المتفرجين يحملون أكواب مشروباتٍ خفيفة، ويتدافعون ليحظوا بمكانٍ أقرب لمشاهدة البطولة. في ساحةٍ دائرية مفتوحة من كل الجهات.
وبينما كانت آثار أقدام المشاركين تظهر وتختفي مرارًا،
لم يتبقَّ في البطولة سوى أربعة فرسانٍ محتملين.
وكانت أسماء الأربعة في نصف النهائي غير متوقعةٍ جميعًا.
“بصراحة، خروج أونيكس هافن كان مفاجئًا.”
قال سافيروس ذلك بصوتٍ مرتفع على غير عادته، من تحت المظلة الزرقاء الداكنة المخصصة للمحكّمين.
كان أونيكس هافن، الحفيد الأكبر لأونيكس روميل، أحد أبرز المرشحين للفوز. ومع ذلك، أُقصي قبل قليلٍ في ربع النهائي، على يد مبارزةٍ ملثمة مجهولة.
“صحيح. كنتُ أظن أن أونيكس هافن يتفوّق من حيث البنية والوقفة.”
“المبارزة المقنّعة قرأت كل تحركاته.”
“أوه؟ هل يعني ذلك أنها أقوى منه؟”
“لا.”
قال سافيروس ذلك بحزم.
“بل بدا وكأنها تعرف مسبقًا أي هجومٍ سيشنّه.”
“هل يمكن أن يكونا يعرفان بعضهما؟”
“على الأرجح.”
أومأ سافيروس برأسه بقوة.
“أما أنا، فقد فاجأني ذلك المرتزق من الفئة B، كوتشيرو. بدا قويًا جدًا،لكنه لم يُظهر شيئًا.”
“فهو أمام مبارز الرمح الأعور.”
“نعم. وأخيرًا، ها هما يلتقيان! المبارز المقنّع ومبارز الرمح الأعور.”
“مواجهةٌ مثيرة.”
نصف نهائي بطولة المبارزة. المواجهة الأولى كانت بين المبارزة المقنّعة تينا، التي أقصت حفيد روميل، وبين مبارز الرمح الأعور ستيفان، الذي هزم المرتزق كوتشيرو من الفئة B.
“سافيروس، انظر إلى ذلك المبارز. كلما نظرتُ إليه بدا أكثر وسامة. أظن طوله لا يقل عن مئة وتسعين سنتيمترًا. آه! لقد ازداد الحجم الذي يشغله الوسيمون في هذا العالم!”
عند كلمات أداماس، تجعد جبين سافيروس بشدة.
“أ….أنا أيضًا يمكنني أن أصل إلى هذا الطول.”
“نعم، نعم. روس ما زال في سنّ النمو.”
صفع سافيروس بلا رحمةٍ يد أداماس التي كانت تمتد لتمسيد شعره. وبينما كانت أداماس تضحك وهي تنظر إلى سافيروس، لمحت فوق كتفه وسيمًا آخر.
“أظن أن هذين الاثنين شقيقان، أليس كذلك يا سافيروس؟”
حوّل سافيروس نظره إلى الجهة التي أشارت إليها إصبع أداماس. و عند طرف الإصبع ظهر رجلٌ يملك شعرًا أشقر فوضويًا مطابقًا لمبارز الرمح، يتكئ على سيفه كأنه عصا.
“نعم.”
“ليس وسيمًا أشقر واحدًا، بل اثنان!”
“أرجوكِ، ركّزي على عملكِ كمحكّمة.”
“مهلًا، لماذا تحجب الرؤية؟ دعني أنظر قليلًا.”
وقف سافيروس متعمدًا أمام أداماس ليحجب عنها المشهد، بينما كانت أداماس تدفعه باستمرار محاولةً التفرج على الوسيمين.
وبينما كانا على تلك الحال، بدأ من حولهما يتهامسون.
“يا إلهي، يبدوان وكأنهما يُظلان بعضهما عن الشمس.”
“يا للروعة، كم هذا رومانسي!”
و غير مدركين لسوء الفهم الذي يحيط بهما، استمر أداماس وسافيروس في المشاكسة لبعض الوقت.
“أداماس، لا تتعلقي بالغرباء بلا داعٍ. قد يكونون جواسيس من مملكة لوبيانا.”
“هيا، لو كان وسيمو الصفوة يُستخدمون علنًا لقلتُ نعم. لكن هل رأيتَ جاسوسًا بهذا البريق؟ إن كان الأمر كذلك، فتلك المبارزة المقنّعة هناك هي الأكثر ريبة. أليست هي الجاسوس الحقيقي؟”
“عند دخولهم الإقطاعية خضعوا جميعًا لفحص الهوية. إلا إذا كان هناك من تعمّد الخداع. لكن.…”
“لكن ماذا؟”
“خلال فترة مهرجان الحصاد، لم يُسجَّل أي شخصٍ وافد يُشتبه في كونه تلك المبارزة المقنّعة.”
“ماذا؟ إذًا هذا خطير!”
قالت أداماس ذلك بدهشة.
“همم….ربما. و ربما لا.”
فأجاب سافيروس ببرودٍ وهو يحك ذقنه.
ومن بين الجمهور الصاخب،دخل فارسان مبتدئان إلى الساحة.
وعلى عكس نبرته اللامبالية، كان نظر سافيروس المثبت على المبارزة المقنّعة عميقًا ومظلمًا.
ما هذا؟ هل بين المبارزة المقنّعة وسافيروس قصةً ما؟
مالت أداماس برأسها متحيرةً، ثم ركّزت بصرها إلى الأمام.
“والآن، نبدأ أول مواجهةٍ في نصف النهائي!”
“واااه!”
ومع تصاعد الحماس، قفز الأطفال فرحًا على غير العادة. بينما راح كايرن، مقدم بطولة المبارزة، يرفع صوته ليشعل حماس الجمهور.
وعلى عكس الضجيج المحيط،كان المتنافسان في غاية الحذر.
مسحت أداماس العرق المنساب على جبينه، وفتحت عينيها على اتساعهما. فقد كان قلبها يخفق بعنف، كأنه طبل حرب.
_____________________
يانه بعد هي تحمست؟😂
وناسه وهم يغازلون بعض عادي بس واضح اداماس توها بس تشوفه بطلها الي اصغر منها بسنتين 😭
شسمه كايرن ذاه ونيس بعد يضحك
المهم اداماس وش لبست؟ مفروض تتكشخ شوي ولا؟
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 16"