6
كَان طلابُ تخصصِ علمِ النفس يمارسون دورَ المستشارين بين أقرانهم في أيام الدراسة، أو كانوا ينشطون في نادٍ للاستشارة يراكمون فيه شتّى الخبرات. على الأقل، كان رفاقُ أمَانــغ كذلك.
‘أنا لا أهتم أساسًا بقصص الآخرين!’
دائمًا ما يوجد استثناء. شخصٌ بارد الإحساس، هادئ، ومع ذلك يعرف أسرار الناس أكثر مما ينبغي. شخصٌ يُشاد بفمه المغلق، رغم أن ذاكرته السيئة هي ما تجعلُه ينسى تلك الأسرار.
هذا ما كانت عليه “أمَانــغ” حين تستيقظ فيها “يَـونغ”.
‘هُم من يأتون إليّ طلبًا للمشورة، ثم يضجون بالشكوى!’
ورغم أنها تسمع منهم أدقَّ أسرارهم دون قصد، لم يكن ذلك سوى عبء يعذّبها. لكن هل بوسعها أن تقول لمن يبكي بحرقة وهو يفضفض: “لحظة، توقّف!!” لم يكن أمامها سوى الإصغاء.
“أنا…؟ أتقصدني تلك الصبية؟”
وها هو المشهد يتكرر مجددًا.
والأسوأ أن الطرف المقابل هذه المرة…طَاغيةٌ مجنون اعتاد سفك الدماء!
حدّقت أمَانـــغ إلى مو-جِــي بعينيْن صافيتين.
أمالت رأسها قليلًا محافظةً على نظرة.
“لا أفهم شيئًا.”
لو كان شخصًا آخر، لانخدع بها بسهولة.
لو كان ‘شخصًا’ آخر.
“ألم تقولي في مجلس الوعظ: ‘يا للأسف، لا بدّ أن أبي قد عانى كثيرًا؟.’ هل عليّ أن أتساءل إن كنتُ قد سمعت خطأ؟”
“لا…أنت على صواب..”
صرخت أمَانـــغ في داخلها.
‘هذا ليس مجرّد ورطة…هذا هلاك محقق!’
كان بريقُ عيني مو-جِــي الأحمرتين يتلألأ اليوم على نحوٍ غريب.
فلونُ الدم الذي تراءى في حدقتيه جعل أمَانـــغ تبتلع ريقها.
“إن أخطأتُ خطوة واحدة، قد يقيمون جنازتي قبل غروب الشمس.”
لا يملك سيفًا، لكن يكفيه أن ينطق أمرًا إمبراطوريًا ليفعل ما يشاء.
ميونغ كانت مجرّد وصيفة، ويمكن إبعادها بطريقة أو بأخرى، أما هو… فهو الإمبراطور.
طاغيةٌ شرس خبيث!.
يا خالق السماوات والأرض…أيُّ محنةٍ هذه التي تُنزَل بي وأنا لم أرتكب سوءًا في حياتي؟
‘هَل أنا قارئةُ أفكار؟ كيف لي أن أعرف حالتك الذهنية؟!’
ما إن تقول: “تخصصي علم النفس”، حتى تتلألأ أعين الناس.
ثم تسمعي السؤال ذاته للمرّة الألف: ” هَل تستطيعين معرفة ما أفكر به؟”
والآن والدي يظن أن علم النفس = قراءة أفكار.
حبست أمَانـــغ أنفاسها حتى لا تفلت منها ضحكة يائسة.
يُقال: «حتى لو دخل المرء عرين الأسد، يخرج سالمًا إن تمالك نفسه.» وقد تعلّمت الكثير نظريًا، ومارست أكثر عمليًا.
بل وأجرت جلسات استشارة قصيرة مع مراجعِين حقيقيين!.
“أحتاج إلى اختبار.”
ومع قلّة المعلومات حول مو-جِــي، قررت أن تفعل ما تستطيع. فاختارت اختبارًا بسيطًا لا يحتاج إلى قائمة أسئلة طويلة.
“اختبار إكمال الجمل.”
لنجرب.
قد ينجح، وقد لا ينجح.
“على أن يجيب جلالتكم عن أسئلة الصبية…بلا استثناء!”
“وما هذه الحيلة الجديدة؟”
“أيُّ رجلٍ كانَ حُب ماما؟”
لم يكن طبق الضيافة قد وصل بعد، لكن جلسة الاستشارة الثانية كانت قد بدأت.
جلس مو-جِــي على حافة السرير، يداعب ما بجانب الوسادة.
لم يُجب.
“جلالتك؟.”
“وما شأنكِ بأن تسألي عن ذلك؟”
أخفت أمَانـــغ قبضتيها داخل أكمامها.
تماسكي.
تماسكي حقًا.
‘ألم تكن أنت من جاء راغبًا في الاستشارة، أيها اللعين؟!’
كانت قبضتاها ترتجفان، لكنها ابتسمت رغم كل شيء.
ابتسامةٌ اتسعت حتى انحنى طرفا عينيها، ثم انتقت كلماتها بعناية.
“الصبية تشعر بالفضول تجاه كل ما يتعلق بأبينا الإمبراطور! فهلا أخبرتموها، نعم؟”
وفِي النهاية، استسلم الرجل…
‘ما هذا العناء الذي أجرّه على نفسي في هذا العمر؟.’
فكرت في كل قصص الآباء الذين يذوبون أمام طفلة مدللة؛ كثير من الدلال والرجاء يفلّ أقسى قلب.
حتى أكثر الرجال برودًا يبتسم أمام هذا المشهد.
أمَانـــغ تجاوزت كل حيائها تنتظر ردّ مو-جِــي.
“أنتِ مُخَادعة، لا تقومِي بمثل هذهِ الألاعِيب”
“عفوًا؟.”
“اطلبي بأدب، هيا.”
لكن الخصم لم يكن سهلًا.
أسند ذقنه إلى طرف السرير ونظر إليها بلا مبالاة.
كأنما ينتظر استفزازًا أقوى.
‘هذه لا تنطلي عليه..’
عادةً ما كانوا يرضخون في هذا الموضع.
كلما عرفته أكثر، بدا أكثر غرابة.
جلست أمَانـــغ على ركبتيها وقالت بوقار
“رجاءً…حدثنِي عن ماما.”
عندها فقط ارتسمت ابتسامة راضية على شفتي مو-جِــي.
وأشار لها بإصبعه.
‘هل يستدعيني كما يُستدعى الجرو؟’
نهضت أمَانـــغ واقتربت منه.
وحين التقت نظراتهما، مال مو-جِــي نحو أذنها وهمس برفق:
“لا يمكنني أن أقول.”
أطلق جوابًا لا يُصدَّق، ثم انفجر ضاحكًا.
‘هل أقتله فعلًا؟؟؟’
بهذه الدرجة من التعنّت، يحقّ لها قيادة ثورة لإسقاطه دون ذنب!
ضغطت أمَانـــغ أسنانها.
‘تماسكي. أنتِ الآن أميرة. حافظي على هيبتك..’
لم تكن ترغب في أن تُقطع رقبتها.
وحان وقتُ عرض ما تبقّى من مهارات الحياة الاجتماعية التي تعلمتها.
“كيف كانت موبي؟”
“موبي؟”
“أتحدث عن هوا جونغ بي.”
ارتجّ بصر مو-جِــي للحظة.
عاد بعدها لجموده المتعالي، لكن أمَانـــغ رأت تلك الارتعاشة جيدًا.
‘هذا هــــــو!’
كم من متعجرف يخفي خلف كبريائه فجوةً واحدةً على الأقل.
قاسٍ تجاه أبيه، لكن ضعيفٌ حدَّ الانكسار أمام ذكرى محظية راحلة.
“هذا مغرٍ…جدًا.”
لو كانت تشاهد هذا في طريق العودة من العمل، لابتلعت الفصول كلها دفعة واحدة.
المشكلة أن الموضوع…واقعها الشخصي.
هزّت أمَانـــغ رأسها لتستعيد تركيزها.
“لا ذكريات لدي عن والدتي الحية. كيف كانت؟”
“…”
“يبدو أنّ الشخص الوحيد الذي يمكن أن أتخذها أمًّا لي هي جلالة الإمبراطورة، أليس كذلك؟ لقد تجاوزتُ حدودي.”
“كانت فراشة.”
“عفوًا؟..”
“كانت فراشة.”
كان الجواب غير متوقع.
أيعقل أن يكون لهذا الطاغية أيضًا جانب من الوفاء؟
رمشت أمَانـــغ بعينيها بدهشة.
“شخص يحوم حولك دائمًا، ولا يمكنك الإمساك به… امرأة تدفعك لأن تكون لها زهرة.”
شعرت وكأنها استمعت لتصريحٍ غارقٍ في الرومانسية.
إنه الحب، بلا أدنى شك.
مهما قلبت المعنى رأسًا على عقب، ومهما دُحرجت المعاني أمامها، فهُوَىً عارم من نوعٍ يبعث القشعريرة في أطرافها.
“هل أحببتَ والدتي؟”
عاد ذلك البريق الحاد إلى عيني مو-جِــي. سؤالٌ واحد فقط، ومع ذلك تغيرت نظرته إلى قسوة مفاجئة.
ما الذي ارتكبته بحق السماء؟
أيّ رجل يحدّق بطفلة صغيرة وجميلة بهذا الشكل المرعب؟ ارتعش عمودها الفقري من نظرتِه.
“حب؟ وهل يُعقَل مثل هذا؟ ما زلتِ صغيرة يا أمَانـــغ.”
“صاحبة السموّ تبلغ العاشرة.”
“ولهذا..هل تريدين من أباكِ أن يعلّمكِ؟”
انسابت يد مو-جِــي بهدوء لتطوّق كتفيها الصغيرين.
مرّ كفّه الكبيرة على خدّها برفق، ثم أخذ إبهامه يلامس أنفها برقة قبل أن ينزلق نحو أسفل عينيها.
وحين اقترب إصبعه بما يكفي ليمسّ مقلتها، جفّ ريق أمَانـــغ تمامًا.
“يا صاحب الجلالة.”
“جاءت الضيافة.”
دوّى صوت وضع صينية الحلويات على الطاولة.
نهض مو-جِــي ليُلقي نظرة على ما قُدّم، بينما لم تستطع أمَانـــغ النهوض.
ارتجفت ساقاها بشدة..
ماذا حـدث منذ قليل؟..
رأت كل شيء بوضوح تام؛ الإبهام كان متجهًا نحو عينها مباشرة.
لم يكن هناك شك: كادت أن تفقد عينًا.
هل كان يحاول إخافتها فحسب؟
لو كانت طفلة عادية لانهارت باكية، لكنه امتحان… امتحان موجّه لها.
ولو تصرفت كأي طفلة، لفقد مو-جِــي اهتمامه بها.
كانت قد تعهّدت أن تعيش بهدوء… ويبدو أن الهدوء أصبح مستحيلًا.
“أمَانـــغ، ما الذي تفعلينه؟ ألن تأتِي؟ تبدو الضيافة شهية.”
ما التصرف الأنسب الآن؟..
أي طفلة أخرى كانت سترتجف خوفًا، وجهها شاحب، وركبتاها تصطكّان.
إذًا..عكس ذلك تمامًا.
لا يجب أن تظهر عليها أي علامة خوف. مثل أولئك الأشخاص الذين يحاولون إخضاع كل ما حولهم، لو رآها منكسرة لزاد طغيانه.
ابتسمت أمَانـــغ بخفة وجلست أمامه.
“جلالتك، مذاق الكيمكوول المُحَلّى رائع. لِمَ لا تتفضّل بتذوقه؟”
لم يكن على وجهها أي أثر للرُهبة.
هل يُعدّ هذا ثباتًا؟ أم تهورًا فادحًا؟.
احتسى مو-جِــي رشفة من الشاي، ثم تناول قطعة من الحلوى ووضع الكأس جانبًا.
“حسنًا، كَيف هِي حالتِي؟ هل أنا في حالةٍ بالغة السوء كما قالت الأميرة؟”
هذا الرجل..عنِيــد بشكل مُدهش.
إمبراطور دولة كاملة تضايقه جملة ألقتها طفلة في العاشرة، فيعمد بنفسه إلى سؤالها عنها!.
أدركت أمَانـــغ أن ما حدث قبل قليل كان كله مجرد محاولة لبثّ الخوف فيها.
وكأن لسان حاله يقول: إن تجرّأتِ على إطلاق لسانك عبثًا، فسوف تفقدين عينك.
حدّقت أمَانـــغ في فنجان الشاي المتصاعد بخاره، ثم ابتسمت بخفة.
“جلالتك، مرة واحدة لا تكفي لإخافة هذا القلب. أنا لستُ في عجلةٍ من أمري، فخذ وقتك كما تشاء.”
“هكذا إذاً؟ يبدو أن عليّ زيارة قصر ينَيُـونغ غون مرة كل أسبوع. ما دام أطباء البلاط عجزوا عن تشخيص مرضي، فَلِمَ لا تساعدني الأميرة في العثور عليه؟”
لم تكن قد وعدته يومًا بأنها ستكشف علّته!.
أهذا الرجل حقًا هو الإمبراطور؟.
أحسّت بأن مستقبل البلاد بات على كفّ عفريت. لو كانت تملك القوة الكافية، لقامت بثورة في الحال. لكن هذا الجسد الصغير الواهن بالكاد يحتمل الوقوف، وكأنه سيتحطم من نسمة ريح.
لا بد من تقوية هذا الجسد..
إن أرادت أن تنمو مراهقةً بصحة سليمة ونفس ثابتة.
تذكّرت أمَانـــغ الجسد المنحوس الذي عانته سابقًا، والمفاصل التي كانت تصدر صريرًا. أيقنت أن الجسد القوي ثروة أغلى من شباب عشرة أشخاص.
“لنتراهن إذًا. سأمنحكِ ثلاث فرص. إن عجزتِ خلالها عن استنباط ما أعانيه…”
أزاح مو-جِــي الطاولة جانبًا، ثم مدّ ذراعيه وضمّ أمَانـــغ إلى صدره.
رفعت رأسها وهي تجلس على ركبتيه.
“فإنّ وصيفة قصر ينَيُـونغ غون ستختفي دون أن يشعر بها فأر ولا طائر.”
توقّف نظر أمَانـــغ عند نان.
وما إن نهض مو-جِــي واقفًا، حتى سقطت الأميرة على الأرض كما هي.
“مولاتي!”
نان التي لم تدرك شيئًا مما جرى أمسكت بأكتاف أمَانـــغ بقلق.
مرّ بصر مو-جِــي البارد فوق الأميرة للحظة، ثم غادر قصر ينَيُـونغ غون.
ثلاث فرص…وثمن الخسارة هو حياة نان.
كان ذلك إعلانًا بأنه ينوي سلب أمَانـــغ كل شيء. وأنه سيقيّدها داخل هذا القصر، كي لا تنهض مجددًا.
حتى إن ابتلعتها مؤامرات القصر، فهو لن يحرّك ساكنًا.
انخفض رأس أمَانـــغ وارتجفت كتفاها.
التفتت ببطء نحو نان.
فالنتيجة قد حُسمت منذ الآن!
كانت أمَانـــغ تبتسم…إبتسامة واسعة.
Chapters
Comments
- 7 - العدوّ يُواجه تحت شجرة التفاح منذ ساعتين
- 6 - المتخصّص في علم النفس ليس قارئَ أفكار منذ 6 ساعات
- 5 - لماذا تُنزلون بي مثل هذه المحنة؟ منذ يوم واحد
- 4 - لماذا جئت إلى منزلي؟ جئت لأجل الاستشارة منذ يومين
- 3 - بدَاية الاستشارة: بناء الألفة منذ يومين
- 2 - لهذا تُعدّ عِلل المهنة أمرًا مُخيفًا 2025-11-28
- 1 - تِلك التِي إعتدات العمل الإضافي بإجترَاف، أصبحت أمِــيرة؟. 2025-11-28
التعليقات لهذا الفصل " 6"