5
في البدءِ، وُجِدَ فرويد، والدُ علمِ النفس.
قسَّم الوعي إلى: الأنا والأنا الأعلى والهو..
[مِيسا: الواعي أو الأنا ودة المسؤول عن الإدراك المباشر للأفكار والمشاعر، و ما قبل الواعي أو الأنا الأعلى الي بيحتوي على ذكريات يمكن استرجاعها بسهولة، و اللاواعي أو الهو دة مستودع الرغبات المكبوتة والمخاوف والذكريات المؤلمة.]
ومنذ ذلك الحين، ظلّ أحفادُه من علماء النفس يعانون من ذلك.
مدّةً طويلةً جدًّا.
“لا أتذكّر شيئًا.”
حدّقت أمَانـــغ في مِيُــونغ الجالسة أمامها، تحديقًا ينفذ إلى داخل الروح.
لم تعتَد ممِيُــونغ على هذا النوع من التعامل، فانكمشت كتفَاها بخفوت.
كانت مِيُــونغ دائمًا راكعةً إلى جانب سيّدتها، فالمُحظيّةُ في القصر تولدُ مُلزَمةً بخدمة سيدتها منذ لحظة دخولها. وما يجري الآن هو أعظم ما لقيته من معاملة منذ دخولها القصر.
“مولاتي الأميرة، لا، تلك الفتاة…!”
“أنا سأتولّى الأمر.”
العلاج النفسي يقوم أصلًا على علاقةٍ أفقية بين المستشار وصاحب المشكلة. وجود أيّ تراتبية يمنع العلاج من أن يتمّ على نحوٍ صحيح.
لذلك اضطُرّت نان للابتعاد قليلًا وهي تراقب الاثنتين من بُعد. فلو تجرّأت هذه المُحظيّة على فعل أيّة حماقة تجاه أمَانـــغ، فستكون رقبتها هي الثمن.
“يمكنني فعلها.”
اقتربت أمَانـــغ من الطاولة وجلسـت تمامًا بمحاذاتها.
وضعت كفّيها فوقها طبيعيًّا، وانحنت ناحيـة ممِيُــونغ.
“إذًا…ما مشكلتكِ؟”
“ذ-ذلك يا مولاتي الأميرة…الأمر وما فيه أنّ…”
“ما فيه أنّ؟”
“ألا ترين أنّ السيدة سو مي رن كانت في الأصل مُحظيّة؟”
“هذا صحيح.”
“كنتُ واحدة من مُحظيّات قصر جا يوم، لكنني الآن أُكلّفت بخدمة السيدة سو مي رن.
لا أحدٌ يسعى لإلحاق الأذى بسو مي رن، غير أنّ…”
بدت شفتا مِيُــونغ وكأنهما تتشقّقان من الجفاف.
هل يجوز لها قولُ مثل هذا أمام أمـيرة صغيرة؟.
لكن تلك النظرة الذكيّة في عيني أمَانـــغ أوحت لها بأنّ هذه الصغيرة قادرة على حلّ عقدتها.
بعد تردّدٍ قصير، ارتمت مِيُــونغ ساجدةً على الأرض.
“أنا دائمًا خائِفة! وأستميح جلالتكِ عذرًا…ليس خوفي على سيدتي، بل على نفسي. لديّ أختٌ لم تتزوج بعد، وجدّةٌ طريحة الفراش. ولو أُصيبت السيدة سو مي رن سوءٌ ما، فستُقطع رقبتي!”
إن تورّطت السيّدة في مؤامـــرة، تُدفن مُحظيّاتها معها أحياء.
أو يتعرّضن لتعذيبٍ بشع في سبيل التستّر على خطأ سيدتهنّ.
وفي رياح الدم التي تهبّ داخل القصر الإمبراطوري، يختفي المُحظيّات بلا أثر.
هذه هي معاناة كل مُحظيّة.
لكن المشكلة هـــــــــــي…
‘إنها تقلق بشأن شيءٍ لم يحدث أصلًا.’
لم تكن سو مي رن متورّطة في أي مؤامرة، ولا حياتها في خطر.
والإمبراطورة لم تكن تُعير وجود سو مـــــــــــــي رن أي اهتمام.
‘كَانت مجرد مرّة واحدة من الحظوة.’
فقد رُفّعت إلى رتبة “ميـن” قبل عامين، ومنذ ذلك الحين لم يبحث الإمبراطور عنها. نزوةٌ عابرة. وجودٌ غير مُهدِّد بتاتًا. وما دامت بلا أبناء، فهي مجرد محظيّة من ذوات المقام المتدني بالنسبة للإمبراطورة.
“هل فقدتِ نومكِ أو شهيّتكِ مؤخرًا؟”
“لم يحدث ذلك يا مولاتي.”
“لكنّ دموعكِ لا تتوقف؟”
“أشعر بضيقٍ في الصدر، وحزنٍ شديد…كأنني سأُعدم غدًا.”
أسندت أمَانـــغ ذقنها إلى يدها وغاصت في التفكير. كثيرٌ من تشخيصات المرض خطرت ببالها، لكنها لم تجزم بشيء. فهذا في النهاية استشارةٌ فحسب.
“هذه بداية ظهور القلق..اجتاحكِ فجأة، وهذه الأعراض أوّلية.”
سبق أن رأت مثل هذه الحالات.
أشخاص يُحاصرهم القلق دفعةً واحدة.
وكلّ شيءٍ يبدأ من الماضي.
“لو عرفتُ أسبابه، ستستريح.”
وصلت إلى قرارها.
فالعلاج حوارٌ لا ينتهي بين المستشار والعميل، ليس بالضرورة أن يكون دقيقًا ولا بالغ الجدية.
ابتسمت أمَانـــغ، رافعةً طرفي شفتيها.
“هل تفكرين في القدوم إلى قصر يورنــغ؟”
“مولاتي!!”
“ما المشكلة؟ أحبّ أن يكون لديّ الكثير من المُحظيّات!”
خوفُ المُحظيّات من عفوية طفلةٍ في العاشرة كان يكفي لجعل القلوب ترتجف. خصوصًا نان التي خشيت أن ينقلب الأمر على الأميرة. فمهما كانت مِيُــونغ مُحظيّة، فسيّدتها هي سو مي رن.
لم تُبالِ أمَانـــغ، بل ضحكت ببلاهة طفولية.
“ك-كيف يمكنني ذلك؟ أرجو سحب كلامكِ يا مولاتي.”
“لماذا؟ أنتِ تبكين عند سو مي رن. وتشعرين بالقلق.”
“هذا…!”
نهضت أمَانـــغ ببطءٍ واقتربت من مِيُــونغ وجلست بجانبها. رفعت يدها تغطّي بها شفتيها، ثم همست في أذنها:
“أم أنكِ…ارتكبتِ ما قد يعرّض حياتكِ للخطر؟..”
ارتجف بصر مِيُــونغ. وفي حدقاتها المرتجّة انعكست صورة الأميرة: طاهرة، بريئة، تُرعب القلوب دون أن تدري.
“مولاتي! لا يمكنُكِ إكمال الحديث!”
لو لم تتدخّل نان، لما انتهت الجلسة.
رفعت أمَانـــغ رأسها إلى نان التي احتضنتها. وفي عيني نان ظهرت صورة أمَانـــغ صغيرةً للغاية.
“لا يجوز إيذاء مُحظيّة لا تنتمي إلى قصر يورنــغ. إنها ترتجف، ألا ترين؟”
في الحقيقة…هذا من تأثير المواجهة النفسية التي استخدمتها أمَانـــغ، لا أكثر. لكنها بلعت تعليقها.
‘كانت تلك مواجهة، وقد تحتمل مثل هذه النتائج.’
فالعلاج لا ينتهي دائمًا بالضحك. أحيانًا يجب على المستشار دفع العميل لرؤية أعماقه.
خصوصًا محظيّة تُخفي قصتها بإحكام كهذه.
‘ربما كنتُ قاسية قليلًا…’
في هذا المكان، حياة المُحظيّة لا تختلف عن حياة حشرةٍ صغيرة. يومٌ واحد قد يمحوها من الوجود.
هزّت أمَانـــغ كتفيها بخفّة.
رفعت مِيُــونغ رأسها أخيرًا، والدموع تفيض من عينيها وتحرق خدّيها.
“حين كنتُ في قصر جا يوم…كنتُ ابنةَ أسرةٍ شديدة الفقر. دفعنِي أبِي للعمل في القصر ليستمتع بأموال المقامرة. ولأن للمراتب شأنًا، فقد تجرّأ البعض على إيذائي لأنني من أصلٍ وضيع، وعلى إيذاء السيدة التي كُنت أخدمها…الإمبراطورة حاليًّا. لم أفعل شيئًا سوى أن أشهد على ما فعلوه بها.”
“ثم؟”
“وحين نالت سو مي رن الحظوة وأصبحت ‘ميـن’، اختارتني خادمتها. ارتعبت. فجميع المُحظيّات اللواتي آذَيْنها سابقًا…الإمبراطورة قضت عليهنّ…!”
وضعت مِيُــونغ كفّها على فمها، كأنها رأت ما لا يجوز رؤيته. وأغمضت عينيها بشدّة.
‘إنها تشعر بالذنب تجاه سو مي رن..’
في إمكان المرء ألا يَعزو كلَّ بواعث القلق إلى الشعور بالذنب، غير أنّ الأمر كان العكس بالنسبة لـ مِيُــونغ.
شعورٌ بالذنب لأنها سكتت عن الظلم، وخوفٌ ينهشها من أن تلقى المصير ذاته الذي لاقته باقي الجواري، وأن تُزهق روحها قبل أوانها…هذا كلّه صنع قلقها.
مني أعلنت السبب بلسانها من غير مواربة.
ربما كانت هواجونغ تخشى أن يصل ما جرى في قصر جا يوم إلى مسامع الإمبراطور، لذا قطعت دابر الأمر. أرادت أن تُسكت سو مي رن قبل أن تنطق. كانت هواجونغ امرأةً أشدَّ رُعبًا مما ظنّت أمَانـــغ. مثل جدارٍ شاهق يسدُّ الأفق. يكفي أن تُبغِضك فتهلك…هكذا بدا الأمر.
“كيف تُقال ‘كريمة’ على هواجونغ ميو-هِــي؟”
شدّت أمَانـــغ على كلمة كريمة.
“مولاتي…رغبة الحياة تغلبني. ما العمل؟”
كانت مِيُــونغ قد زحفت حتى كادت تمسّ قدمي نان.
نان، التي كانت تحتضن أمَانـــغ، أدارت ظهرها كمن يحمي كنزًا.
“أنزلِيني!.”
“ولكن يا مولاتي—!”
“قلتُ أنزليني.”
لم تجد نان بُدًّا من إنزالها.
وما إن لامست قدما أمَانـــغ الأرض حتى اعتدلت، واقفةً بثباتٍ يليق بحفيدات السماء.
وأول ما فعلته أن وضعت يدها على رأس مني.
“لِمَ تقلقين بشأن ما لم يقع بعد؟”
“عفوًا؟…”
“هل قالت لكِ سو مي رن إنها ستقتلك؟”
“لا، مولاتي. بل تعاملني بلطف.”
“إذًا؟..”
“!..”
“لَو كانت تريد التخلّص منكِ لطرحتكِ خارجًا منذ أول يوم.”
القلق يلتهم الوعي.
يشوّش الفكر، يلسع العقل، يدفع صاحبه إلى أسوأ الاحتمالات.
وما إن يتضخّم حتى يبتلع الذات نفسها.
حتى هنا كان الكلام نظريًا. شيءٌ حفظته أمَانـــغ عن ظهر قلب في سنوات دراستها.
“عُودي الآن، واسجدي لها إن شئت. وقولي لها: شكرًا لأنكِ قبلتِ خادمةً وضيعة مثلي.”
جثت أمَانـــغ حتى صارت في مستوى عينَي مِيُــونغ. وعينا مِيُــونغ ترفّان، وشفَتاها تنفرجان ببطء.
“سأعمل بنصيحة مولاتي. سأجتهد أكثر في خدمة سو مي رن! مولاتي…مولاتي فضلُك في عنقي!”
وأمسكت بيد أمَانـــغ بقوة. فاضطرت أمَانـــغ إلى سحب يدها برفق، وقد شعرت ببعض الحرج.
نجحت…؟
كانت تحفظ تلك النظريات حفظًا، لكنّها لم تتوقع أن تنجح بهذه السهولة في تطبيقها على أرض الواقع.
أيُّ مستشارٍ جديدٍ أحمق يستخدم ‘المواجهة المباشرة’ مَع أوّل مُراجِعٍ يدخل عليه؟
إذا لم يكن متمكّنًا، فالأَولى أن يتراجع بدل أن يُلقي بنفسه إلى التهلكة.
“إن كان شكرك صادقًا، فاحملي معك شيئًا لذيذًا حين تعودين في المرة المقبلة.”
“سأُهديكِ كل ما أملك!”
وقد انقشعت سحابة القلق تمامًا عن وجه مِيُــونغ، فبدت خفيفة الوِزر. ماضيها كان يُمسك بكاحلها حتّى اللحظة. لكن من الآن فصاعدًا، ستخدم سو مي رن بإخلاصٍ لا يشوبه تردّد.
وهذا أصلح لسو مي رن نفسها.
وفوق ذلك، ربحت أمَانـــغ معلومة جديدة: اسم سو مي رن الحقيقي هو سوسِـل، وأنها بلا سندٍ عائليّ يعضدها.
على أيّ حال، انتهت الجلسة الأولى نهايةً موفّقة.
** *
هذا ما ظنّته فقط.
بعد ثلاثة أيام، لم تستطع أمَانـــغ أن تصدّق ما رأته أمامها.
“إلى متى ستظلين واقفة هكذا بلا حراك؟ جاء والدُكِ ولم تقدّمي له حتى الشاي.”
“لِـ…لِمَ جئتُم؟”
“كالعادة يا أمَانـــغ، لا أدب عندك.”
مو-جِــي دخل إلى ينَيُـونغ غون بكل ما أوتي من صلف، وجلس كأن القصر ملكٌ له.
ملامحه توحي بأن الدنيا بأسرها تُثقله، كأنّ كل شيء مُتعب.
أمَانـــغ رمشت بعينيها مرتين ثم اندفعت إلى أحضان نان.
“أرجوك! لا تقتلني!”
صرخت صرخةً كادت تُزيح سقف ينَيُـونغ غون. مو-جِــي صمت لحظة، ثم ضحك ضحكة مدوّية. وتقدّم رجل كان يقف خلفه ويداه خلف ظهره.
“لا يوجد شيء لا تقولينه لأبيك، يا فتَاة.”
“آه!”
“لقد ربتُّ على جبينكِ فقط.”
ونقر مو-جِــي إصبعَه على جبين أمَانـــغ. فصرخت من جديد وكأن السماء تسقط فوقها. وبينهما، وقفت نان بابتسامة محرَجة.
“سأُحضر الضيافة حالًا.”
ثم أفلتت أمَانـــغ بخفّة واختفت من المشهد.
‘لا تذهبِـــــي يا نان!’
لكن أصابع أمَانـــغ الحزينة لم تلحق بها.
أمام ذلك الطاغية، عضّت أمَانـــغ شفتَيها بقوة.
“يبدو أنك تدركين ما أعانيه وما أندم عليه. حسنًا، فلتُصغِي إلى. ما تقييمكِ لحالي؟ ما حال مو-جِــي في رأيك؟”
مـــاذا؟…
يا للجنون.
كان فخًــا.
Chapters
Comments
- 5 - لماذا تُنزلون بي مثل هذه المحنة؟ منذ 15 ساعة
- 4 - لماذا جئت إلى منزلي؟ جئت لأجل الاستشارة منذ يوم واحد
- 3 - بدَاية الاستشارة: بناء الألفة منذ يوم واحد
- 2 - لهذا تُعدّ عِلل المهنة أمرًا مُخيفًا 2025-11-28
- 1 - تِلك التِي إعتدات العمل الإضافي بإجترَاف، أصبحت أمِــيرة؟. 2025-11-28
التعليقات لهذا الفصل " 5"