2
لهذا تُعدّ عِلل المهنة أمرًا مُخيفًا – الفصل الثاني
ما إن جلست أمَانـــغ أخيرًا في مقعدها حتى أطلقت زفيرًا طويلًا.
ما زالت عاجزة عن استيعاب موضعها بدقّة، ولا عن فهم طبيعة هذا العالم الروائي أصلًا.
الأحداث…أليست تتسارع على نحوٍ مبالغ فيه؟
رمقت أمانــغ، من طرف خفي، الحسناء هواجونغ ميو-هي الجالسة قبالتها مباشرة.
هواجونغ ميو-هِــي…من تكون بالضبط؟
“ما أذكره يقينًا أنها ظهرت مرورًا عابرًا في الفصل الأول فحسب. كانت واحدةً من قلائل الحسناوات اللواتي يحيطن بالإمبراطور”.
إذن لا سبيل لمعرفة حقيقتها على وجه الدقّة.
يا لِعالمٍ غيرِ ودود! لماذا يُلقي بي في هذه الورطة؟
كم من الأعمال قرأتُها بتأنٍ وتدقيق، ثم أجد نفسي مطروحةً داخل رواية لم أطالع منها سوى الفصل الأول، وفي قصرٍ إمبراطوري تحديدًا!
“استفيقي يا أنَا..لا يجوز أن ألفت الانتباه ولو قليلًا.”
الجميع هنا منشغلون باحتقار أمانــغ وازدرائها.
مجرد تذكّر الإهانة التي تلقتها قبل قليل يكفي ليرجف جسدها بلا إرادة.
“وخاصة تلك الإمبراطورة…”
المرأة المتلألئة بثوبٍ من حريرٍ فاخر، المتعالية كأن العالم بأسره أدنى منها… الإمبراطورة سوريونغ آه.
“منذ المقدّمة وشرّها ظاهرٌ لا يخفى.”
ليست أقل من زوجةِ طاغية.
في قصرٍ إمبراطوري لا يُستغرب فيه المكر ولا الدسائس، أن تكون الإمبراطورة يعني أمرًا واحدًا: أنها الفائزة التي صعدت فوق أجساد الآخرين.
وللحفاظ على هذا العرش، تقصي كل من يزعجها بلا شفقة، حتى لو كان من نسل الإمبراطور نفسه.
“إن اهتمامكم بنا، بي وبإبني، يغمرنا سرورًا. لا نعلم كيف نفي هذه النعمة التي تهطل كالبحر شكرًا.”
“أليس كل هذا بفضل عطف جلالة الإمبراطور؟”
“بفضل هذه الدروس ينمو ريانغ يومًا بعد يوم. ألا يصبح طفلًا ذكيًا يشبه جلالته؟”
ها قد بدأت..حفلة تملّق الحسناوات للإمبراطور.
أما الإمبراطور مو-جِي فكان يختبئ خلف قناع اللامبالاة، ينظر بعيدًا..لكن أذنيه منصتتان بكل وضوح.
“كل شيءٍ فيه ظاهرٌ كالشمس.”
كيف، في موقفٍ خطيرٍ كهذا، تكاد الضحكة تفلت منها بلا وعي؟
غرست أمــانغ أظافرها في فخذها لكبح نفسها.
“أليس كلّ الأحفاد أبناء قصر جايوم؟ فكيف تتأكدين إذن يا إلبيــــن؟”
“آ…أجل، بالطبع. سأضع ذلك في قلبي، يا مولاتي.”
قصر جايوم… مقرّ الإمبراطورة.
والإمبراطورة لم تُرزق بطفلٍ واحد منذ دخولها القصر؛ كُلما حملت، أسقطت حملها دون استثناء.
‘ياللحوَار الدموي!.’
كدت أمــانغ تطلق فواقًا من شدّة الضحك المكبوت.
أن تسمع هذه الحوارات التي كانت مجرد نصوصٍ مكتوبة أمام عينيها، تتحوّل الآن إلى واقعٍ حي..أمر يثير الدوار.
وشعرت بالامتنان لأن هذه الكلمات لم تُوجَّه إليها شخصيًا.
“الإمبراطورة لا تزال لم تتخلَّ عن عادتها في تكدير الجو”
“أعتذر من قلبي، يا جلالة الإمبراطور”
تأفّف الإمبراطور مو-جي بلسانه، وكأن كل شيء في الكون لا يعنيه. إذا كان الأمر كذلك، فلماذا يعقد هذهِ الجلسات من الأساس؟.
من مظهره يبدو كمن يجمع الجميع في مكانٍ واحد ليُطلق عليهم لعبة موتٍ جماعية.
“لولا أنهم أبناؤه لما فعل”
مهما كان موضوع المحاضرة، يكفي أن أجيب بإجاباتٍ معقولةٍ نسبيًا.
قد يكون هذا الجسد لأميرة أمَانـــغ في العاشرة، لكن من في داخله هي ‘هَان إنــغ أون’ في الخامسة والعشرين.
إنسانةٌ تلقت اثني عشر عامًا من التعليم الإلزامي، ثم حشَتْ في رأسها أربع سنواتٍ من نظريات علم النفس، وهي الآن مستشارةٌ نفسية.
‘تعَالَ أيها السؤال، أيًّا كان، سأصيبك.’
لكن…ماذا لو أجبتُ ببراعـةٍ مفرطة فألفتُ الانتباه؟، إذًا…سأجيب باعتدالٍ يليق بطفلةٍ في العاشرة.
“محاضرة اليوم ليست بيننا فقط. يا يو ناي غوان، أدخِل الضيف فورًا”
فجأةً هبّت همهمةٌ عارمة في القاعة. إرتجفت الحسناوات، وشحب وجوه الأحفاد الذين كانوا منكمشين إلى جانبهن.
رفعت إحدى الحسناوات يدها بسرعة، وهي ترتجف كأوراق الحور.
“ألَمْ…ألم تكن دائمًا بيننا فقط؟”
“يا سو مي رن، أهذا قرار جلالته، فكيف تعترضين؟”
“لكن…يَا مولاتي هواجونغ…”
“أليس من الأفضل للأحفاد أن تتغير المحاضرة قليلًا وتضيف لهم الجديد؟”
لماذا يرتعدون هكذا؟ ما الذي في هذه المحاضرة؟.
جالت أمَانـــغ بنظرها على الوجوه المكفهرة.
الوحيدتان اللتان حافظتا على هدوئهما هما هواجونغ والإمبراطورة فقط.
‘هــل سيدخل مليون قاتلٍ حالما يُفتح الباب؟ ثم يُعطون الأحفاد سيوفًا بحجة اختبار شجاعتهم؟’
هزّت أمَانـــغ رأسها لتطرد الفكرة، وقشعريرة مرت في ظهرها.
ثم فُتح الباب أخيرًا.
ومن وسطه تقدم بخطى ثابتة…
ليس قاتلًا، ولا شخصًا يوحي بالخطر.
‘طفل؟…’
يبدو في عمر أمَانـــغ تقريبًا.
على الرغم من اعتدال قامته ونظرة عينيه الذكيتين، فإن قصر قامته الظريف هو ما يلفت النظر أولًا. وكان يبدو، من الوهلة الأولى، أنه ابنُ عائلةٍ ثرية.
ركع الصبي أمام الإمبراطور مو-جِي وأدّى التحية على أكمل وجه.
“الوضيع كوم جين يسجد لجلالة الإمبراطور.”
صوتٌ طفولي لم يبلغ بعد مرحلة تغيّر الصوت.
وخفتَت همهمة الحسناوات في لحظة.
‘كُل هذا الذعر مِن طفلٍ صغير؟.’
شعرت أمَانـــغ بالإحباط قليلًا.
لا…بَل بالــــكثِير من الإحباط.
كان كوم جين يبدو غنيًّا مترفًا، لكنه لم يكن يشبه الأحفاد الإمبراطوريين على الإطلاق. كَان يفوح منه عبقُ وزيرٍ من وزراء البلاط ينعم بحبّ الإمبراطور وتفضيله.
هل يُعقل؟…
‘أتُراه يُربّيه ليكون خائنًا ومكّارًا؟’
لا، مستحيل.
بالغت أمَانـــغ في تصديق خيالها..
مهما بلغ طغيان الإمبراطور في هذا العالم، هل يعقل أن يُقدم على فعلٍ دنيء تجاه طفلٍ صغير كهذا؟..
“من اليوم فصاعدًا، سيشاركنا هذا الصبيّ المحاضرات. إنني أحبّه إلى حدّ أنني أشتهي أن أورّثه عرشي.”
قالهـــــــا حقًا!.
مدّت أمــانغ يدها لتناول الشاي، فانفلت منها فواقٌ حادّ ومتتابع.
يا لجنون هذا الرجل…
في هذه القاعة بالذات تجلس عشرات الزوجات والأبناء للإمبراطور مو-جي. ومنذ القدم، كان العرش يُورَّث لأصحاب الدم واللحم، لا لغريبٍ. لكن مو-جي نطق بكلماتٍ لا تُصدَّق: أن يُورّث العرش لمن لا تربطه بهِ صلة دم!.
أما نظرات الإمبراطورة فقد انحدرت نحو كوم جين كأنها شفرات.
“جلالة الإمبراطور، أرجوك فلتسترجع كلامك، الوضيع لا يطمع إلا في أن يرث منصب والده في خدمة جلالتك، لا أكثر..”
“لقد كانت مجىد مُزحة.”
بكلمةٍ واحدة، شحب وجه الجميع.
كانَ مو-جي يعلم ذلك جيدًا.
كَان يعلم أن استمالة هذا الصبي الصغير لصالحه أمرٌ في غاية السهولة، خصوصًا في هذا القصر. يكفِــي أن يُلقي له فريسةً واحدة حتى ينقضّ الجميع عليها.
“لكن…منصب وليّ العهد ليس بالضرورة…”
ابتلعت أمَانـــغ ريقها بصعوبة.
طفلٌ صغير، لكن لا أثر للبراءة الطفولية على محيّاه؛ كان يشبه وزيرًا ناضجًا يحاول جاهدًا كتم مشاعره، فيما يرتجف جسده ارتجافًا خفيفًا يكاد لا يُلحظ.
إنه خائف…
كمن يدخل عيادة الاستشارة وقد بلغ آخر حدود اليأس.
كيف يمكن وصف هذا الشعور؟
“ليس من الضروري أن يكون وليّ العهد من الأحفاد، أليس كذلك؟ إن استطاع أيٌّ كان أن يحاكيني، فأنا مستعدٌّ لأن أمنحه العرش…هذا الكرسيّ اليشميّ.”
بمعنى آخر: الدم الجاري في عروقكم لا يساوي شيئًا.
كان هدف الحسناوات اللواتي يملكن أبناءً واضحًا وضوح الشمس:
أن يعتلي أبناؤهنّ العرش، ليصبحن هنّ الإمبراطورات الأمهات. وحتى لو بقيت الإمبراطورة الحالية جاثمةً كالصخرة، فسينجين على الأقل بحياتهنّ.
القشعريرة لم تغادرنـــي.
كنتُ قد عقدت العزم على ألا ألفت الأنظار مطلقًا، لكن أن أبقى صامتةً أمام هذا الطفل المسكين..
ذلك خرقٌ صارخ لأخلاقيات المستشار النفسي.
في النهاية، نهضت أمَانـــغ من مقعدها، مثقلةً بثقل ثيابها المتكدّسة. لَم يحاول أحدٌ منعها، فقد ظنّ الجميع أنها تريد الهرب من القاعة.
لكن خطوات أمَانـــغ كانت تتجه مباشرةً نحو كوم جين.
“تفضّل”
“صاحبة السموّ الأميرة أمَانـــغ…”
“فلتجلِس معي”
الأميرة التي لا تعرف شيئًا اسمه “الآداب”، حفيدةٌ مكروهة من القصر الذي ماتت سيدته منذ زمنٍ بعيد، تلك الطفلة التي تتسلّق الأشجار بجسدها كلّما ثارت، وتفعل ما يخرج عن المألوف دائمًا، أمَانـــغ.
أن تمدّ يدها إلى كوم جين في هذا الجوّ الجليديّ لم يكن أمرًا يثير الدهشة على الإطلاق.
‘أنا أميرةٌ مكروهة على أيةِ حال…’
أمَانـــغ لم تكن تعرف هذه القصة.
لا هذا العالم، ولا الأشخاص الجالسين هنا.
إذا لم يكن في رأسها شيءٌ تعرفه، فلا خيار أمامها سوى أن تواجه الأمور بنفسها.
المبدأ الأول: “يجب على المستشار أن يُقيّم حالة المُسترشِد أولًا وقبل كلّ شيء”
‘سأسير على طريقتي!’
بالطبع، كانت مجرد نظرية، ولم تُطبّقها عمليًا سوى مرتين أو ثلاث. لكِنها مارستها آلاف المرات في أيام الجامعة.
قراءة قلوب الناس؟ شيءٌ تُجيده كالأشباح!.
في تلك اللحظة بالذات،
“يا للأميرة من جريئةٍ حقًا!”
دوّى ضحكٌ عالٍ مرح في القاعة. كَان وجه مو-جِي، الذي ظلّ جامدًا طوال الوقت، يبتسم ابتسامةً عريضة.
‘ما هذا؟ هل جنّ أخيرًا؟’
تلك العينان… عينا وحشٍ لمح فريسةً شهية.
‘هل سيأكلني؟ في يومي الأول بعد التجسّد؟.’
نهض مو-جي من مجلسه بهدوءٍ مُخيف، واقترب بخطى بطيئة. انتزع سيفًا من خاصرة أحد الحراس، وسحبه خلفه على الأرض. سيفٌ يساوي حجم جسد أمــانغ تقريبًا.
‘لا ترتجفي. إن طعنني فسيكون ذلك عقوقًا صارخًا.’
رأت أمــانغ أمثال هذا السلوك مراتٍ لا تُحصى؛ أناسًا يتصرّفون كوحوش يسعون لإغراق الآخرين في الرعب، بينما قلوبهم في الحقيقة هشّة ورقيقة. يائسون، متوسّلون أحيانًا، وأنانيون دائمًا.
مرّ طرف السيف على كتف أمــانغ.
قشعريرةٌ حادّة اندفعت في جسدها. سالت قطرة دمٍ واحدة من خدشٍ دقيق على بشرتها.
ثم رفع نصله نحو ذقن أمــانغ، دافعًا إيّاها للنظر إلى الأعلى.
“أمــانغ… ألا تخافين مني أنا؟”
نظرت أمــانغ مباشرةً في حدقتي مو-جي.
كان في العينين صدقٌ لا يُخطئ.
الكلمات يمكن اختلاقها، أمّا النظرات فلا، تلك يستحيل إخفاؤها.
يبدو…حزينًا…
فمه يبتسم ببرود، لكن ما وراء الحدقتين كان هاويةً عميقة تحمل حزنًا دفينًا.
“إذن هذا الرجل…”
الرجل الذي قتل أمّه بيده من أجل عرشٍ فقط. عِندما غرز طرف السيف في قلب والدته، لم يكن صائبًا. كَان فقط يحدّق في الدماء المتجمعة تحت قدميه ويبتسم ابتسامةً شيطانية.
‘غارقٌ في وحدةٍ مريعة’
لم تشعر أمَانـــغ بألم الجرح السطحي في جلدها.
كان فهم مشاعر الرجل الواقف أمامها حاملًا السيف أهمّ بكثير.
ما الكلمة التي يحتاجها هذا الرجل أكثر من أيّ شيء الآن؟.
كلمةٌ قوية تُخترق دفاعاته النفسية..
“نعم يا جلالة! الأميرة أمَانـــغ لا تزال طفلةً صغيرة. من الطبيعي ألّا تميّز الصواب من الخطأ في هذا السنّ!”
“تكلّمي فورًا! أم تريدين أن أقطع عنقك؟”
اندفعت هواجونغ إلى الأمام، لكن الجواري حالوا دونها. وأغمضت عينيها بقوة، غير قادرةٍ على تحمل رؤية هذا المشهد الوحشيّ بعينين مفتوحتين.
خصمهم مجرد طِفلة في العاشرةِ من عُمرِها!.
غاص النصل أعمق قليلًا في عنق أمــانغ. وتساقطت قطرات الدم على طول حدّه.
ثم خرج من فم أمــانغ كلامٌ لم يكن أحدٌ ليتوقعه:
“آه… لقد كان أبي الإمبراطور يعانِـــي كثيرًا، أليس كذلك؟.”
كلامٌ غير متوقع على الإطلاق.
Chapters
Comments
- 2 - لهذا تُعدّ عِلل المهنة أمرًا مُخيفًا منذ ساعة واحدة
- 1 - تِلك التِي إعتدات العمل الإضافي بإجترَاف، أصبحت أمِــيرة؟. منذ ساعة واحدة
التعليقات لهذا الفصل " 2"