1
تلك التي اعتادت العملَ الإضافي باحتراف، أصبحت أميرة؟
في القصر الإمبراطوري الهادئ، تطل فتاةٌ صغيرة من فوق شجرة، تُخرج رأسها بحذرٍ وتلصص.
أما الجواري اللواتي يحطن بالشجرة من أسفل، فقد شحبن وجوههن وهن يدُسن الأرض بأقدامهن في هلع.
“يا صاحبة السموّ الأميرة! أرجوكِ انزلي فورًا! ألم تعاهدي الخادمة الوضيعة؟ قلتِ إنكِ ستكونين مطيعةً اليوم فقط!”
“ها! متى قلتُ ذلك؟ لقد هززتُ رأسي فقط، ولم أنطق بكلمةٍ كهذه قطّ!”
عشر سنواتٍ هي عمرها، لكنها تبدو للناظر كأنها في السابعة. جلست الأميرة الصغيرة الحجم على قمة الشجرة العارية، وشبّت شفتيها غضبًا.
“لن أنزل أبدًا!”
“لماذا تفعلين هذا يا صاحبة السموّ؟ ألا يبحث جلالة الإمبراطور عنكِ وحدكِ دون سائر الناس؟ رغم أن لديهِ أبناءً كثيرين تحت لوائه، فإنه لم يُدلّل أحدًا كما يُدلّلكِ أنتِ!”
“أنا أكرهُ ذَلِك!”
أرجوكم…إتركوني وشأني!
كانت الأميرة عنيدةً لا تُقاوم. تُرجف ذراعيها وساقيها الصغيرتين الرقيقتين، وتصرّ على البقاء حيث هي.
“ما هذا الضــجيج؟.”
“جلالة الإمبراطور!”
“أكنتنّ واقفاتٍ تتفرجن فقط على ابنتي الغالية وهي تتسلق إلى هذا الارتفاع؟”
“ليس الأمر كذلك، جلالتك، بل إن صاحبة السموّ الأميرة…كانت تستعد للذهاب إليك، ثم بدأت فجأةً بتسلق الشجرة…”
لم يكن بإمكان الجارية الوضيعة أن تقول أكثر من ذلك مهما حدث.
فالرجل الواقف أمامهن هو الطاغية الأشهر في العصر، الذي ذبح حتى والدتها بيديهِ. أما الفتاة التي تسلقت الشجرة فهي الأميرة أمَانـــغ، موضوع حنانه الوحيد.
انحنت الجارية بشدة، وأغمضت عينيها بقوة، ثم رمت بنفسها ساجدةً أمام الإمبراطور.
“أقتلنِــــي رجاءً يا جلالة الإمبراطور!!”
“حسنًا، إن كان هذا ما تتمنين..”
ارتسمت ابتسامةٌ على شفتي الإمبراطور. للحظة، خُيّل للجميع أن رائحة الدم تنبعث من جفنيه الأبيضين الرفيعين.
تقدم حارسُه المخلص، وشهر سيفه أمام عيني الجارية مباشرة.
أغمضت الجارية عينيها بقوة. آه…إذًا سأموت هكذا باطلاً. عقابًا لأنني لم أعتنِ بالأمِيرة كما ينبغي…
“توقـــــــف!!”
في تلك اللحظة، انشقّ الصمت بصوتٍ جاء من أعلى الشجرة.
قامت الأميرة واقفةً فجأةً على قمة الشجرة، عيناها تلمعان غضبًا حادًا كالسكين.
بهاتين العينين، حدّقت في والدها مباشرة.
“أمَانـــغ. إن نزلتِ بهدوءٍ وجمال، سأترك هذهِ الجارية على قيد الحياة. أنتِ أيضًا لا تُرِيدين موتها، أليس كذلك؟”
أيها الوغــــــد…
كادت كلمةٌ بذيئة تنفلت من شفتيها الصغيرتين الشبيهتين بحبات الكرز.
“هاه…حسناً، سأنـــزِل..”
“سارعوا بإحضار صاحبة السموّ الأميرة!”
“لا، لا داعي لأن تصعدوا إليّ.”
بأمر الإمبراطور، هرع أربعة أو خمسة من الحراس المقربين وحاصرُوا أسفل الشجرة، مستعدين لأن يبذلوا أجسادهم دروعًا إن سقطت الأميرة ولو خطوة واحدة.
إنها الأميرة التي يغدق عليها الإمبراطور حنانه. لَو خُدشَ جسدها الياقوتِـي ولو بخدشٍ واحد، فربما تُعلَّق رقابهم غدًا على أسوار العاصمة.
استنشقت الأميرة نفسًا عميقًا، ثم قفزت من أعلى الشجرة دون أدنى حذر أو تردد.
أما الحراس أسفل الشجرة فتخبطوا في بعضهم بعضًا في فوضى عارمة، يصطدمون ويسقطون وهم يحاولون التقاطها.
هبطت الأميرة على الأرض بثباتٍ تام، ثم نفضت تنورتها بقوة.
نفضت التراب عن كفّيها الصغيرتين بمهارةٍ وسلاسة.
“الأميرة دائمًا ما تتجاوز حدود الخيال.”
“وبنت مَنْ تكون حتى لا تفعل؟ بالطبع هذا متوقع”
“وهذا أيضًا يروق لي”
“لماذا تبحــــث عنِي دائمًا؟”
“لأنكِ تهزّين هذا القلب”.
رفع الإمبراطور الأميرة الصغيرة بين ذراعيه فجأة.
في وجه هذا التصرف المفاجئ، راحت الأميرة تلوي جسدها في كل اتجاه محاولةً الإفلات.
لكن الخصم رجلٌ بالغ قوي البنية؛ مهما ركلت أو ضربت، فإن مقاومتها لم تكن أكثر من لعبة طفل.
“أمَانـــغ، بأي نوعٍ من الاستشارات ستُمتعين أذنيّ اليوم؟”
“لا أستطيع أن أفعل ذلك بلا مقابل، يلزمني أجر”.
“أجر؟”
“أوفِ لي أمنيةً واحدة”.
مرّت يد الإمبراطور الكبيرة على شعر الأميرة بلطف.
فعضّت الأميرة تلك الأصابع بقوة.
“يا صاحبة السموّ!”
“لقد كبرت ابنتي أمَانـــغ إلى هذا الحدّ!”
“جلالتك!!..”
“لا بأس، لا تقلقي. كم يمكن أن تؤلمني عضّة طِفلة صغيرة؟”
ضحك الإمبراطور ضحكةً عالية، ثم أنزل الأميرة برفق.
ثني ركبةً واحدةً، فتساوى مستوى عينيه بعينيها.
ذلك أن الأميرة كانت أبطأ نموًّا بكثير من أترابها، فبدت كطفلةٍ لم تكتمل بعد.
“حسنًا، ما هِي أمنيتك؟”
“أدخلوا إليّ بيدونغ. عندها فقط سأنهي الجلسة”
وضعت الأميرة يديها على خصرها بكل فخرٍ ووقار.
وهي أول من مدّت يدها للمصافحة بالإمبراطور.
فابتسم الإمبراطور موجي ابتسامةً عريضة، وأمسك بيدها الصغيرة بكل سرور.
** *
كيف انتهى بي الأمر إلى هذا الحد؟
بدأتُ أستعيد الذكريات ببطء.
الإمبراطور مو-جي، الطاغية الذي اشتهر بأنه ذبح والدته وإخوته بيديهِ، وابنته الصغرى المشاغبة الفاسدة، الأميرة أمَانـــغ.
« تلك الابنة الصغــــرى للطاغية فاسدةٌ تمامًا » كان هذا عنوان رواية ويب شهيرة.
“كيف… كيف صرتُ أنا…”
شعرت إنغ-أون بأن رأسها يوشك أن ينفجر من الألم.
ألم يكن آخر ما تذكره أنها كانت في مترو الأنفاق بعد انتهاء الدوام أمس؟
كانت منهكةً من التعب، تغفو وتستيقظ مراتٍ ومرات، وتلك كانت آخر ذكرى لها.
“في النهاية تورطتُ في روايةٍ خيالِية…”
إنغ-أون، التي بلغت هذا العام الخامسة والعشرين، تخرجت من قسم علم النفس في جامعة مدتها أربع سنوات، ولم يمضِ على عملها مستشارةً نفسيةً في المركز الوطني أكثر من أسبوع واحد.
ثم…تجســـــدت مِن جدِيد.
وليس في أي جسد، بل في جسد الابنة الصغرى للطاغية.
“هل مُت مِن قبلْ؟..”
كلما حاولت أن تستذكر، شعرت وكأن شخصًا ما قد اقتلع ذاكرتها من جذورها، فيعتصر رأسها ألمٌ حاد.
إنغ-أون… لا، أمَانـــغ… كانت الآن أميرةً في العاشرة من عمرها.
في الرواية الأصلية، كانت أمَانـــغ لا تُمسك الإبرة لتطرز، ولا تتعلم آداب السلوك، بل تقضي أيامها تتسلق الأشجار وتمارس الباركـــور بجنون.
باختصار، أميرةٌ بمستوى صعوبة تربيتها خمس نجوم كاملة.
“بِماذَا سأستفاد لو تجسدتُ فِي جسد طفلة كهذه؟”
على أي حال، والدها طاغية، فلن يطول عمرها كثيرًا على الأرجح. بَل أن والدتها الحقيقية ماتت منذ سنوات، أليس كذلك؟. حقًا، أميرةٌ لا تملك أدنى قوة أو سند.
تنهدت أمَانـــغ تنهيدةً عميقة.
“صاحبة السموّ، هل أصبتِ بسعال؟”
“ماذا يَا مربيتي؟ “
“يبدو أن النوم لم يفارق عينيكِ بعد. هيا، استعدي بسرعة”.
“نستعد؟ لمَاذا بالضبط؟”
“يا إلهي! هل نسيتِ في هذه اللحظة القصيرة؟ اليوم هو ذلك اليوم النادر الذي يحدث مرةً واحدة في السنة، يوم يجمع فيه جلالة الإمبراطور أبناءه ويحاضرهم!”
“محا…محاضرة؟”
لم يُذكر شيءٌ من هذا القبيل في الرواية.
بالطبع، لم تكن إنغ-أون قد قرأت سوى الحلقة الأولى فقط. كَانت غارقةً في جلسات الاستشارة لعشرات الأشخاص وكتابة التقارير، فلم يبقَ لها وقتٌ للاعتناء بنفسها حتى.
وفي ذلك اليوم بالذات، كان الأمر نفسه: بقيت حتى ساعة متأخرة لإنهاء التقارير المتراكمة، وغادرت العمل بعد الثامنة مساءً. وأمام محطة المترو، وهي تترنح من التعب، بدأت تقرأ رواية ويب كأن سحرًا قد جذبها إليها.
ثم اختفـــــى كل شيء من ذاكرتها…
“جلالة الإمبراطور شخصٌ يصعب الاقتراب منه، لكن حبه لأبنائه يفوق الجميع في مملكة هايوِيل. اغتنمي هذه الفرصة لتحظي بكامل حنانه، وتصبحي الكنز المحبوب في القصر كله!”
“هل من الضروري حقًا أن أصبح ‘الكنز المحبوب؟'”
“أليس من الأفضل أن تكوني كذلك إن استطعتِ؟”
“أنا بالفعل أبدو لطيفةً بما يكفي بالتسبةِ لِي”
خدودٌ ناعمةٌ ممتلئة، ملامح وجهٍ مستديرة تمامًا، وجسدٌ أقوى مما كانت تتوقع.
حقًا، الأميرة التي تطمح لأن تصير نينجا مختلفةٌ في كل شيء.
“ثقي بي فقط! سأجعلكِ أجمل أميرة في كل مملكة هايوِيل!”
“آه…حسنًا…”
ثقيلٌ جدًا. بل ثقيلٌ جدًا على قلبِهـــا.
رفعت أمَانـــغ زاويتي فمها بصعوبة، محاولةً استيعاب الوضع.
لنُرَتـــب الأمور:
لا تتذكر شيئًا عن يوم أمس، لكنها الآن داخل جسد الأميرة أمَانـــغ.
أمَانـــغ هي أميرةٌ نادرة تسعى لأن تكون نينجا، لا تطيع أحدًا على الإطلاق، وهي مصدر إزعاج القصر بأكمله.
“كيف يعقل أن أنتقل إلى رواية ويب لم أقرأ منها سوى الفصل الأول؟”
أين ذهبت كل تلك الروايات التي قرأتها مراتٍ ومرات؟ لمَ انتقلتُ تحديدًا إلى تلك التي تصفحتها للحظات فقط؟ يَا للحظ العاثر!
“سأعيش بهدوء. سأتجنب لفت الانتباه تمامًا”
والدتها ماتت منذ زمن، ووالدِها طاغية العصر الأشهر.
مجرد التفكير في هذهِ العائلة يجعل رأسها يؤلمها.
لكي تبقى على قيد الحياة في مثل هذا البيت، هناك قاعدة واحدة فقط: أن تعيش في صمتٍ تام، بعيدةً عن الأنظار.
“لقد عشتُ طوال حياتي دون أن يلاحظني أحد، فسيكون ذلك ممكنًا بالتأكيد!”
استنشقت أمَانـــغ نفسًا عميقًا. شعرت أن كل شيء سيسير على ما يرام.
…إلى أن جاءت الجواري متحمساتٍ إلى أقصى حد، حاملاتٍ ثيابًا تلمع لمجرد النظر إليها.
“يا إلهي! صاحبة السموّ الأميرة تبدو كدميةٍ حقيقية!”
“أليس هذا مبالغًا فيه قليلًا؟”
“في مملكة هايويل، هذا لا يُعدّ شيئًا على الإطلاق!”
“حقًا؟”
كانت أمَانـــغ ترتدي من الثياب ضعف حجم جسدها، فتمايلت كالبطّة وهي تمشي.
وبمساعدة الجواري، وصلت أخيرًا إلى قاعة الوليمة.
ما إن فُتح الباب حتى رأت الإمبراطور جالسًا، ومعه حشدٌ من الحسناوات والأبناء يملأون المقاعد.
“هل تأخرتُ عن الوقت؟”
كانت الثياب تثقل كتفيها وتضغط على عنقها، فالجسد الصغير لا يحتمل كل تلك الطبقات.
خطت خطوةً واحدة ببطء، ثم دخلت متمايلةً في توازنٍ هشّ.
وحالما أرادت أن تسجد أمام الإمبراطور، تعثّرت بذيل ثوبها وسقطت أرضًا بقوة.
“صاحبة السموّ!”
صرخات الجواري، وهنّ يهرعن إليها، وفي الأثناء صوتُ ضحكةٍ ساخرةٍ واضحة.
رفعت أمَانـــغ رأسها ببطء.
كان الإمبراطور ذو العينين الحادتين يبتسم ابتسامةً تهكمية.
“يضحك؟”
طفلةٌ في العاشرة تسقط فحسب، فيضحك؟
استندت إلى الجواري ونظرت حولها. عشرات الحسناوات جالساتٌ في مجالسهنّ، ولم تقم واحدةٌ منهنّ لمساعدتها.
“يبدو أن الأميرة أمَانـــغ جاءت ملفوفةً بقشرة حلوى”
“لا عجب، فقد ربّتها الجواري دون أمّ. والطفلة تحتاج إلى يد أمّها أشدّ الاحتياج”
“لهذا تأخّرت إذن، لأنه لا يوجد بالقرب منها بالغٌ صالح”
“كيف للجواري وحدهنّ أن يقمن مقام الأم؟”
تهامست اثنتان من الحسناوات في الجهة اليسرى بصوتٍ يسمعه كلّ من في القاعة.
ولم يتخذ الإمبراطور ولا الإمبراطورة أي إجراء. بل إن الإمبراطورة راحت ترشف شايها كأنها لا تسمع شيئًا.
لماذا لا تُخطئ الظنون الحزينة أبدًا؟..
“آه…إذًا هكذا كان الأمر”
هذا هو سبب تمرّد الأميرة أمَانـــغ.
كان عليها أن تتسلّق الأشجار، وأن تُصبح مشكلة القصر، ولو بالقوة، كي تلفت الانتباه إليها.
لأن الجميع يكرهون الأميرة أمَانـــغ.
‘ولماذا؟…’
إنها أميرةٌ لا تشكّل أي تهديد. ابنة الإمبراطور الصغرى، لكنها تعيش كأنها مختفية.
اتسعت عيناها فجأة. آه… لهذا السبب بالذات.
لأنها أميرةٌ بلا ظهرٍ ولا قوة، فلا عقاب يترتب على إيذائها.
“لقد أتعبتُ حقًا…أميرةٌ مكروهة”
حاولت أمَانـــغ أن تنهض بجهد، لكن ساقيها ارتجفتا فسقطت جالسةً من جديد.
“أمَانـــغ”
في تلك اللحظة، هبّت رائحةٌ قويةٌ من العطر الفاخر.
“صاحبة السموّ، إنها سموّ الحسناء هواجونغ”
“هواجونغ؟”
مدّت الحسناء ميو-هي يدها إلى أمَانـــغ، مبتسمةً ابتسامةً مشرقةً خاليةً من أي شرّ.
“قفِــــي”
أمسكت أمَانـــغ يدها كأنها مسحورةٌ ونهضت.
فالتفتت إليها الجواري والحسناوات الأخريات بنظراتٍ جانبيةٍ مليئةٍ بالحقد. وظل الإمبراطور والإمبراطورة جالسين في مكانهما، غير مباليين تمامًا.
Chapters
Comments
- 2 - لهذا تُعدّ عِلل المهنة أمرًا مُخيفًا منذ ساعة واحدة
- 1 - تِلك التِي إعتدات العمل الإضافي بإجترَاف، أصبحت أمِــيرة؟. منذ ساعة واحدة
التعليقات لهذا الفصل " 1"