مرَّ أسبوعٌ منذ أن تركها والدها عند بوابة الجبل، وبينما كانت لونا تلعن حظها كل خطوة، لم تكن تعلم أن هذه الرحلة التي بدت عقابًا ستصبح يومًا ما بداية كل شيء.
كانت القرية عند سفح الجبل بسيطة، صغيرة إلى حد السأم، تشبه اللوحات الزيتية التي يبيعها الفنانون في معارض المدينة لكن بدون أي لمسة سحرية.
فقط تراب، بيوت من الحجر، ودجاجات تركض كأنها في سباق.
منذ أن وصلت إلى منزل جدتها، صارت حياتها سلسلة من الأعمال الشاقة والمهام الغريبة.
“انهضي يا كسلانة، الشمس فوق رأسك!” كانت جدتها تصرخ كل صباح، بصوت حاد كمنبه.
لونا، التي لم تستيقظ قبل العاشرة منذ سنوات، صارت تستيقظ على صوت جردل ماء يُسكب على وجهها.
حدث هذا مرتين حتى قررت أنها تفضل الاستيقاظ من تلقاء نفسها.
كان أول عمل أوكلته لها جدتها هو حلب الماعز.
“هل تمزحين؟ أنا؟ ألمس هذا الكائن؟”
“هذا الكائن اسمه روزيتا، وهي أكثر فائدة منك بثلاث مرات.”
في المرة الأولى، عضتها روزيتا. في الثانية، رفستها. في الثالثة، حسنا لا اظن انكم تريدون ان تعرفوا ماذا حدث .
ثم جاء وقت جمع البيض.
“فقط خذيه من تحت الدجاجات. بسيط.”
بسيط؟ الدجاجات كنَّ وحوشًا بأجنحة.
واحدة منهن لاحقتها عبر الحقل وكأنها تحمل ثأرًا شخصيًا.
أما غسل الملابس، فكان يتم في حوض حجري قرب النهر.
“لونا، اكشطي هذا البقعة جيدًا.”
“جدتي، هذا دم، هل كنا نغسل ملابس مصاص دماء؟”
ضحكت الجدة، لكنها لم تجب.
أما نزولها إلى القرية فكان فصلًا من فصول المعاناة.
في البداية، ظنت أنها ستكوّن صداقات، تشتري بعض الحلوى أو تسرق شبكة الواي فاي من متجر البقالة.
لكن سرعان ما اكتشفت الحقيقة.
“هل أنتِ حفيدة روز؟” سألتها امرأة خمسينية بنظارات سميكة.
“نعم، للأسف.”
“آه، إذًا أنتِ تلك الفتاة من المدينة صاحبة الشتائم .”
كان الأمر منتشرًا أكثر مما توقعت. إحدى النساء طلبت منها التوقيع على بيضة نيئة كـ”تذكار من الفضيحة”، وأخرى سألتها إن كانت تؤلف الشتائم بنفسها أو تستعين بمصادر.
وفي السوق، اختلفت مع أحد البائعين بسبب سعر التفاح.
“هذا كثير على ثلاثة تفاحات.”
“وهذا قليل على سمعتك.”
أرادت أن تقذف التفاح في وجهه، لكنها كانت جائعة.
ليلاً، كانت تطلق العنان لغضبها وهي مستلقية على السرير الضيق في غرفة صغيرة تفوح منها رائحة خشب قديم وشيح. كانت تهمس لنفسها:
“سأرجع غدا لا يهمني نلت كفايتي “
ثم تغفو.
في صباح رمادي آخر، استيقظت لونا على صوت الدجاج وصوت الجدة وهي تجرّ شيئًا ثقيلًا في المطبخ.
تمددت قليلًا، ثم غطّت رأسها بالوسادة كأنها تحاول إقناع نفسها بأن اليوم لن يبدأ إذا لم تنهض. لكن الأصوات المرتفعة، ورائحة الحطب والدخان، كانت دائمًا أقوى من إرادتها.
نزعت الغطاء بتأفف، واتجهت إلى المطبخ حافية، وشعرها الفوضوي يشهد على معركتها الليلة الماضية مع النوم.
“صباح الخير، جدتي.”
رفعت الجدة رأسها من فوق قدر نحاسي كبير، وقالت بنبرة لا تخلو من السخرية:
“أوه، آنسة المدينة استيقظت. كنت أظن أنك ستقضين النهار في السرير تنتظرين خدمة فندقية.”
زفرت لونا، وسحبت كرسيًا وجلست.
“جدة… فكرت بالأمر. أعتقد أنني سأعود إلى المنزل. نلت كفايتي من الأشغال الشاقة والهواء النقي.”
وضعت الجدة الملعقة الخشبية جانبًا، ومسحت يديها بمريولها ثم نظرت إليها نظرة طويلة صامتة.
“عودتك؟ لمنزل والدك؟”
هزّت لونا رأسها.
“نعم. أعني، أنا فتاة مدينة، ولست معتادة على… هذا كله.”
ضحكت الجدة، ضحكة خشنة :
“إن عدتِ، سيطردك والدك مجددًا. وهذه المرة، لن يكون لديك مكان آخر سوى هذا الجبل. إلى الأبد.”
اتسعت عينا لونا.
“إلى الأبد؟!”
“إلى أن تتزوجي راعيًا من هنا أو تصبحي أنتِ الراعية.”
شعرت لونا بقشعريرة، وأغمضت عينيها للحظة. لا شيء أسوأ من أن تصبح الحياة نفسها نوعًا من القصص التي تكرهها.
وهكذا، استسلمت لليوم.
قضت ساعاتها في غسل البطانيات يدويًا، ثم نقل أكوام الحطب من السقيفة إلى الداخل، ثم محاولة ترتيب خزانة الملابس التي كانت تبدو وكأنها تفتح على بعد آخر.
وعندما نزلت عصرًا إلى القرية لشراء الملح، اصطدمت مرة أخرى بجارتهم العجوز التي كانت تضع حذاءً خشبيًا بحجم صخرة وتصر على أنها سرقت منها زهرة عباد شمس من الحقل.
“أقسم لكِ، لم ألمس عباد الشمس!”
“كذابة! رأيتك تنظرين إليها يوم الثلاثاء!”
“النظر مسموح به، أليس كذلك؟ لا يُعد جريمة!”
“كل من ينظر، يسرق!”
عادتا تتشاجران في منتصف الطريق، حتى خرج حلاق القرية ليطلب منهما أن “يأخذا الموضوع إلى المسرح إن كانتا تصران على التمثيل بهذا الحماس.”
في المساء، وبعد عشاء من الحساء والخبز اليابس، جلست لونا تمسّد ذراعيها المتعبتين.
اقتربت الجدة فجأة وقالت:
“انهضي.”
نظرت إليها بارتياب.
“لماذا؟ لا تخبريني أننا سننظف شيئًا الآن.”
لم ترد الجدة، بل أضاءت فانوسًا وأشارت لها أن تتبعها.
بلا حماس، جرّت قدميها خلفها إلى باب صغير خلف المطبخ، فتحته الجدة بمفتاح قديم، وأشعلت الضوء.
نزلتا عبر درجات خشبية تؤدي إلى قبو بارد. الجو رطب، والغبار يملأ المكان. لكن ما إن أُضيئت الأنوار حتى اتسعت عينا لونا.
كان المكان ممتلئًا بالأغراض القديمة: حقائب جلدية، مرايا بإطارات مذهبة، علب معدنية، وأكوام من الكتب والصناديق.
“ما كل هذا؟”
قالت الجدة وهي تمشي ببساطة وسط الذكريات:
“هذا تاريخ العائلة. بعضه لي، بعضه لأمي، وبعضه لجدتي.”
بدأت لونا تتجول، تفتح علبة هنا، وتتأمل صورة هناك. توقفت فجأة عند صندوق خشبي مزخرف بنقوش دقيقة.
“ما هذا؟”
فتحت الغطاء، فوجدت داخله مجموعة شرائط فيديو سوداء، مرتبة بعناية، مع جهاز قديم لتشغيلها.
اقتربت الجدة، نظرت إلى الشرائط وابتسمت:
“أوه، هذا! مسلسل تلفزيوني قديم. أعطتني إياه أمي عندما كنت في سنك. قصة حب كلاسيكية، بالأسود والأبيض، عن فتى وفتاة تحديا العالم لأجل حبهما.”
لمعت عينا لونا.
“مسموح لي بمشاهدته؟”
“طبعًا. الجهاز يعمل، والتلفاز الصغير هناك. خذيهما إلى غرفتك إن أردتِ.”
حملت لونا الشريط الأول بين يديها كمن عثر على كنز.
“وأخيرًا… شيء يُشبهني في هذا المكان.”
ضحكت الجدة:
“حتى لو كان من القرن الماضي؟”
“خاصة لأنه من القرن الماضي.”
وهكذا، في نهاية يوم طويل، صعدت لونا إلى غرفتها وهي تحتضن المسلسل كأنه خريطة نجاة…
في صباح اليوم التالي، استيقظت لونا على غير عادتها بحماسة غريبة. للمرة الأولى منذ أن وطأت قدماها منزل جدتها في أعالي الجبل، شعرت وكأن في هذا المكان سببًا للاستيقاظ.
ارتدت ملابسها بسرعة وربطت شعرها بعقدة غير متقنة، ثم خرجت نحو الحديقة الخلفية حيث تنتظرها مهام الحفر والكنس ونقل الأخشاب.
كانت الأغصان المتيبسة تتكسر تحت قدميها، وذراعاها تحترقان من التعب، لكن في عينيها بريق لم يكن موجودًا من قبل. كانت تعد الساعات والدقائق للانتهاء والعودة إلى غرفتها. جدتها راقبتها بصمت، حاجباها مرفوعان قليلاً بدهشة من هذا التغيير المفاجئ، لكنها لم تعلق.
مع حلول العصر، وبعد أن غسلت يديها من بقايا التراب وأزالت العرق عن جبهتها، ركضت لونا إلى غرفتها الصغيرة.
سحبت الستائر، ونفضت الغبار عن الطاولة، ورتبت الوسائد بشكل دائري حول المشغل والتلفاز القديم. ألقت نظرة أخيرة على الجو العام، ثم ابتسمت برضا.
لكن سهرتها لن تكتمل دون شيء يرافق مشاهدتها. أمسكت بحقيبتها ونزلت من التل في اتجاه القرية. الحقول كانت صامتة في هذه الساعة، والطيور تعشش بهدوء. في المتجر الوحيد المفتوح، تبادلت بعض الكلمات الساخرة مع العجوز التي تملك المكان، واشترت بعض الوجبات الخفيفة: فشار، بسكويت بالشوكولا، وزجاجة عصير توت.
عادت وهي تحمل الأكياس بإحكام وكأنها تحمل كنزًا، ثم أغلقت باب الغرفة بإحكام وجلست أمام التلفاز. بيد مرتعشة من الترقب، وضعت الشريط الأول في المشغل وضغطت على زر التشغيل.
ظلت تحدق بالشاشة للحظات، متوقعة ظهور الأبيض والأسود والخطوط الأفقية المعتادة في التسجيلات القديمة.
لكنها صُدمت. الصورة ملونة، زاهية، والوجوه واضحة، التفاصيل مذهلة، والجودة عالية كما لو أنها صُورت بالأمس.
رفعت حاجبها، وأمالت رأسها ببطء. “غريب… جدتي قالت إنه مسلسل من القرن الماضي.” لكنها لم تهتم، فالمشهد الافتتاحي شدّها بقوة: قلعة على رأس جبل يطل على بحر من الضباب، والرايات الحمراء ترفرف في السماء.
بدأت القصة.
كان البطل سايلس، رجل طويل القامة، بعيون حمراء باردة وصوت رخيم، هو رئيس منظمة سرية من المرتزقة، يديرها من الظلال لكنه أيضًا دوق إحدى الدوقيات العظمى في الإمبراطورية.
خلف قسوته الواضحة، ماضٍ دموي وغامض. يرافقه دائمًا ذراعه الأيمن، أليكس، قائد الجيش الإمبراطوري، رجل نبيل بخجل طفولي وعينين عسليتين تعكسان طيبة نادرة.
في الحلقة الأولى، يتم استدعاؤهم لحضور مأدبة في قصر الإمبراطور، حيث تظهر البطلة: أنستازيا، ابنة أحد المستشارين للامبراطور، شابة ذكية، جريئة، ذات حضور خاطف.
من اللحظة الأولى، يقع كل من سايلس وأليكس في حبها، لكن سايلس لا يتردد، يتقدم منها مباشرة ويطلب منها الرقصة الأولى. الموسيقى تبدأ، والأنظار تتجه إليهم، فيما يقف أليكس في الزاوية، مبتسمًا بشحوب.
تابعت لونا الحلقات، واحدة تلو الأخرى، وقد نسيت الزمن. المشهد ينساب بسلاسة، ومع كل لحظة، تتعلق أكثر بشخصية أليكس. كان دومًا بجانب أنستازيا، يساعدها حين يتجاهلها سايلس، يعزيها حين تكون حزينة، يضحك حين تحكي نكاتها التافهة، ويقف خلفها دون أن يطالب بشيء. كان الحبيب الصامت، الذي أحب بصدق لكنه خسر.
مرت حلقات كثيرة، مشاهد من الخيانات، حروب في أطراف الإمبراطورية، مؤامرات من النبلاء. سايلس وأنستازيا كانا معًا، ثم يفترقان بسبب كبريائه، يتركها في لحظة ضعف، ويغيب لعامٍ كامل. في هذا الوقت، يبقى أليكس معها، يحمل عنها أعباءها، يدعمها، بل يبكي لأجلها دون أن تراه.
في إحدى الحلقات، وبعد صراع طويل في داخله، يعترف لها بحبه.
كان المشهد خافت الإضاءة، المطر يهطل، وأنفاسه تتقطع وهو يقول: “أعلم أنك ما زلتِ تحبينه، لكنني… أحببتك منذ النظرة الأولى، حتى وأنا أراكما ترقصان معًا.“
لونا وضعت يدها على قلبها.
كانت عيناها ممتلئتين بالدموع. “آآآه يا أليكس، أنت الغبي الجميل.”
لكنها لم تكن تعلم أن الحلقة التالية ستكسر قلبها.
سايلس يعود، بنفس الكبرياء والغموض، يطلب منها الصفح، وتعود له. بسهولة، وكأن عامًا من العذاب لم يكن.
في الحلقة الأخيرة، يقف أليكس على حدود الإمبراطورية، يحمل حقيبته العسكرية، ينظر للخلف للمرة الأخيرة، ثم يمضي. يغيب وجهه في الضباب.
أما أنستازيا، فتتزوج من سايلس في احتفال فخم، زُيّنت فيه السماء بالألعاب النارية.
مع نهاية الشريط، بقيت لونا تحدق في الشاشة المظلمة.
ثم صرخت: “ما هذا الهراء؟!”
وقفت، بدأت تتحدث مع الهواء، تمشي في الغرفة ذهابًا وإيابًا.
“كانت تحبه!? أليكس، كان الأفضل! دعمها، أحبها، وكان دائمًا موجود! ماذا في سايلس غير الحاجبين المعقوفين والصوت العميق؟!”
ركلت الوسادة، جلست على الأرض، وأعلنت في نبرة مأساوية:
“أنستازيا… غبية. غبية وغادرة!”
ثم ضحكت، رغم غضبها.
أدارت وجهها نحو الشريط الأخير الذي انتهى للتو، وغمغمت:
“ما الذي جعلني أتعلق بك كل هذا؟”
ثم تنهدت، وأردفت بنبرة ساخرة:
“أنتِ السبب يا جدتي، قلتِ لي إنه مسلسل قديم… لم تخبريني أنه سيحطم قلبي.”
وبينما كانت تغلق الجهاز، وتطفئ الأنوار، استلقت على السرير، وذهنها يعج بصوت أليكس وهو يعترف، وتنهيدة أنستازيا الأخيرة، وخطواته الراحلة.
لكنها همست لنفسها: “لو كنتُ أنا البطلة… لما اخترت سايلس أبدًا.”
———————————————
يلا اعطوني رايكم في البارت 🦋💞
اعطوني انتقداتكم كمان و نصايحكم 😍
التنزيل كل يوم خميس باذن الله 🦋🎀
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات