حين أدرتُ رأسي بعيدًا، وقد غمرني سرور غامض لا أعرف سببه، تساقط الرماد من سيجارتي التي عجزتُ عن نفضها. أبعدتُ الطرف المشتعل قليلًا بين أصابعي التي أخذت تسخن أكثر فأكثر. رمش بانسيون كمن تفاجأ بسؤالي المباشر، ثم فتح فمه ببطء.
“هو رأيي الخالص… لكنني لا أذكر أنني تحدثتُ بمثل هذه الأريحية مع أحدٍ غير السيد لوكهارد والسيد برايت… ما عداكِ يا آنسة.”
“أهو مدح؟ في الحقيقة… أنت أيضًا أول شخص أستطيع التحدث معه بهذه الراحة، باستثناء كارون.”
في الظلام، أبصرتُ جبين بانسيون ينقبض قليلًا. وفي تلك اللحظة تمامًا، كانت السيجارة التي أبعدتها قد بقي منها ما لا يزيد عن طول الإصبع، فأسقطتُها في المنفضة من غير أسى. هل فعلتُ الصواب؟ لا أدري. ومع ذلك، لم أحرّك نظري عنها حتى انطفأت آخر شرارة.
“يصعب تصديق أنني الأول. هل يحدث شيء ما عندما تتحدثين مع الآخرين؟.”
“إن كان ثمّة خطأ، فأظنه يكمن في طبعي أنا. ربما لأنني شديدة الوعي بذاتي… أتوتر حتى من تحية بسيطة.”
طبعًا… كان هذا صادقًا فقط عندما يتعلق الأمر بالفتيات من عمري. لا أدري إن كان تأثير إخواني، لكنني لم أجد يومًا صعوبة في مواجهة الرجال أو الحديث معهم بثبات.
أو… لعل الأمر ليس كذلك؟ فمجرد التفكير في خفقان قلبي يوم التقيت بانسيون أول مرة كان يُشعرني بالارتباك. بعيدًا عن نيزار، كان بانسيون أول شخص يُحدث في نفسي ذلك الانطباع القوي فور اللقاء. ظننتُ أنه قد يكون استثناءً.
“لم أقصد أن أشكو حياتي بهذا الشكل… لكن الكلمات خرجت وكأنها كذلك. فالرجاء… أن تنسَى ما قلته اليوم.”
لست أدري إن كان الليل هو السبب، لكن الإحساس المعتاد بالخجل كان غائبًا تمامًا. ومع ذلك، فما تبادلناه لم يتجاوز بضع كلمات قليلة. رفعت يدي إلى أنفي، فهبت منها رائحة السجائر النفاذة. هززتُهما بخفة، لكن لا شيء قادر على إزاحة تلك الرائحة سريعًا.
“لا أظن أن الأمر سينسى بسهولة… لكنني سأحاول، طالما هذا ما تريدينه.”
حقًا، ليس من السهل أن ينسى المرء أن صديقة شقيقته المقربة تعاني صعوبة في التواصل الاجتماعي.
ثم التفت بانسيون نحوي، وحدّق في وجهي لحظة قبل أن يدير ظهره ليُشعل الفانوس الموضوع على الطاولة الخارجية. سلّمني إيّاه بينما كنت أشيح ببصري، غير معتادة على الضوء الذي انسكب فجأة.
“قد تأخر الوقت كثيرًا. الأفضل أن تعودي إلى غرفتكِ.”
كنت ضيفة عند إنتيرا، في موقع يستوجب أن ألتزم بطلب المضيف. أخذتُ الفانوس مطيعة، ورفعت رأسي. كان الجمر المتوهج في عينيه البنفسجيتين يخفت ويشتعل كأنه على وشك الانفجار.
“هل لي أن أسأل سؤالًا أخيرًا؟.”
“تفضّلي.”
“هل يوجد… رجال صالحون من حولك؟.”
حلّ صمت قصير مشوب بالحرج بيننا.
“لا أريد الكثير… يكفيني رجل واحد يستطيع الوقوف بثقة أمام سموّ الأمير نيزار.”
“الثقة المطلقة من غير تقدير للمقام تُعدّ وقاحة وتهورًا. وهذا النوع… لا أظنه ممن أرغب أن أعرّفكِ إليهم.”
احتوى صوته الهادئ الرصين معنى لا يمكن إنكاره. هززتُ رأسي موافقة، وقد التقت عيوننا وقد استعادت صفاءها.
“أنت مُحق مائة مرة… لكن لو صادفتَ أحدًا كهذا، ففكّر في الأمر على الأقل.”
فالشائعات لا تؤخذ على ظاهرها. أنا من سيحكم على نوعه، لا الناس.
عندها فقط، ضحك بانسيون بخفوت، وكانت الضحكة الأكثر عفوية التي رأيتها على وجهه.
—
ما إن فتح لوكهارد عينيه حتى خرج منه أنين ألم مكبوت. بل لم يكن أنينًا مقصودًا بقدر ما كان هروبًا تلقائيًا من داخله. نهض ببطء وسكب لنفسه قليلًا من الماء المعدني المُعدّ مسبقًا. كان فمه جافًا تمامًا، لعل السبب أنه شرب الخمر، وهو الذي امتنع عنه لسنوات. أمسِ كان أشبه بفرس جامح تحرر من قيوده.
كانت ذاكرته ضبابية منذ انتهاء حفلة الاحتفال بالنصر. مع أن الجميع في تلك الساعة كانوا قد زحفوا على أربع.
توجه مباشرة إلى مكتب نيزار بعد أن أنهى الحد الأدنى من الإجراءات الرسمية في القصر الإمبراطوري. كان رون يخرج من المكتب حين لمح لوكهارد، فابتسم له ابتسامة باهتة.
“تبدوان وكأنكما هربتما من الجحيم. لم تكونا هكذا يوم عدتما. واضح أن العدو الحقيقي… من الداخل.”
كان من المألوف أن كلمات مساعد الأمير، مهما بدت خفيفة، تحمل برودًا يبعث القشعريرة. ومع عبوسه من رائحة الكحول التي لا تزال عالقة حوله، أجاب لوكهارد:
“شربت دون تفكير لأول مرة منذ زمن، وطعمه… كالموت. لا يزال السقف يدور فوقي. هل نيزار بالداخل؟.”
“هو كذلك. وحسب ملامحه، لم يغمض له جفن طوال الليل. هل أطلب لهم أن يُحضّروا الشاي؟.”
“أرجوك.”
غير قادر على تخمين سبب سهر نيزار، مرّ لوكهارد بجانب رون ودخل المكتب.
كان الوقت متأخرًا من الصباح، وقد امتلأت غرفة الدراسة الواسعة بضوء الشمس المتوهّج. وجلس نيزار وسطها، يرتدي نظارته، يقلّب صفحات كتاب بصمت. أغلق لوكهارد الباب بهدوء، خطا خطوات قليلة ثم ألقى جسده على الكرسي. عندها جاءه صوت نيزار المنخفض العميق.
“استيقظتَ مبكرًا.”
كان صوته خشنًا.
“هل قضيتَ الليل تتجوّل في القصر؟ ما الذي أصاب صوتك؟.”
كان نيزار يملك قدرة تحمل تفوق قدرته هو، رغم أن لوكهارد تربّى على حمل السيف يوميًا. لكن رغم سؤاله، بقيت عيناه مركّزتين على الكتاب.
“لوكهارد.”
“نعم؟.”
“الماركيز بيرلويلت أبدى اهتمامًا بك. ابنته الكبرى ظهرت لأول مرة هذا العام.”
“…هل تطلب مني مقابلة أحدٍ وأنا بهذا الحال؟.”
وهنا فقط رفع نيزار عينيه، يحدّق بلوكهارد بنظرة حادّة من خلف عدستيّ النظارة.
“ألم تلتقط أذنك الجزء المتعلق بابنته الكبرى؟.”
“لا رغبة لي.”
هزّ لوكهارد رأسه بحزم، وحوّل بصره بعيدًا.
“لقد اتخذتَ موقفًا واضحًا بأنهم لن يتدخلوا في حياتك الخاصة مقابل مساعدتك لهم، أليس كذلك؟ كما أن مكانتك ليست وضيعة لدرجة أن تعتمد على الماركيز.”
بل على العكس، بعد حرب الفتح، أصبح موقع نيزار أكثر رسوخًا. وهذا يعني أن الأمير أندرو، ابن الإمبراطورة الحالية، لن يستطيع الاستقواء بحظوة الإمبراطور وحده.
“لقد ردد الماركيز الكلام نفسه حتى تآكلت أذناي. إن كنت مهتمًا، فزر عائلته.”
“إنها أصغر حتى من كيت. الأنسب لهم أن يطلبوا مني تربيتها لا الزواج بها.”
ابتسم نيزار وهو يخلع نظارته ببطء.
“هل توصلت إلى هذا الاستنتاج بعد لقائك بكيت أمس؟.”
راقب لوكهارد نيزار وهو يقترب من الطاولة التي يجلس عندها.
كيت… بالأمس. حين يتذكر لحظة لقائه بها، لا ينكر أنه اندهش. لكنها لم تكن غير قابلة للتعرف عليها. ربما لأنه افترض، دون وعي، أنها ستظل كما تركها.
بلا شك، كانت تلك الكبرياء الطفولية التي لم تغادر فمها لا تزال على حالها… لكن كل شيء آخر تغيّر. فقد اختفت وجنتاها المستديرتان اللتان كانتا أكبر من بنات سنّها، وارتفع طولها حتى جاوز كتفي أمّها. عدا عن نضج ملامحها، لم يتوقع أبدًا أن تأتي بكتفيها مكشوفتين تمامًا.
فكرة أن أخته الصغرى تحاول الادعاء بأنها سيدة ناضجة جعلته يشعر باضطراب خفي.
“لقد كبرت كثيرًا… حتى إني لم أتعرف عليها في البداية. والآن وقد بلغت هذا العمر، لا ينقصها سوى أن تتزوج.” (كلام نزار)
التعليقات لهذا الفصل " 49"