“والحلويات التي أحضرها سموّ ديلوار لذيذة للغاية، كما هو متوقّع من أورما المعروفة بفنون الطهو.”
وبينما كان الحديث يتناثر من حولي، استنشقتُ عبير الشاي المصنوع من أوراق دِناوس العطرية، وتذوّقتُ الحلوى التقليدية لأورماربالفعل، حين تنشط العلاقات بين الدول، تكون مثل هذه اللحظات أجمل ما فيها.
إذ يمكن للمرء أن يجمع محاسن كل دولة ويستمتع بها جميعاً.
“أي نوعٍ من الماكرون يروق لك أكثر، يا أميرة بلانش؟”
اخترتُ اللون الأخضر بصمت لم أرغب في أن يسمع أحد لكنتي الطفولية ما لم يكن الأمر ضرورياً.
“هل جربتِ الفراولة؟ قد تغيّرين رأيكِ إن فعلتِ─”
“ولِمَ تتحدثون هكذا عن الفستق؟ إنه المفضل لدي أيضاً.”
من مزايا وجود عددٍ كبيرٍ من الحاضرين أنني لستُ مضطرة للمشاركة كثيراً في الحديث.
تركتُهم يتجادلون حول أفضل أنواع الماكرون، وغصتُ في عالمي الخاص.
إن جعلَ شخصيات قصر الزمرد تطيعني طاعةً مطلقة يعني أنني أقودهم.
وهذا في حد ذاته نوعٌ من تكوين الفِرَق أو الأحزاب، لكنني لم أرغب في التورط معهم إلى ذلك الحدّ لذلك، خالفتُ ما طلبه الإمبراطور مني في البداية، واخترتُ أن أُثبت قدرتي بطريقة مختلفة، بتوسيع الرقعة كلها.
لقد جمعتُ جميع الرهائن… أو بالأحرى، مبعوثي السلام، وأنشأتُ منهم مجتمعاً أرستقراطياً.
ولم يكن ذلك بالأمر الصعب؛ فالجميع كانوا متشوقين للقائي.
كنتُ أستمع إلى اهتماماتهم وهواياتهم، ثم أجمع من يتوافقون معاً وأرتب لقاءاتهم ومن تلك اللقاءات الصغيرة بدأت تتكوّن دوائر مترابطة.
وما إن حدث ذلك، حتى بدأ كلٌّ منهم في جلب معارفه وأصدقائه، فانبثق مجتمع أرستقراطي كامل بهذه البساطة.
إن امتلكتَ عيناً خبيرة في قراءة الناس، فالأمر في غاية السهولة وقراءة الناس هي المجال الذي أثق بنفسي فيه أكثر من أي شيء آخر.
وهكذا، خلال شهرٍ واحد، نجحتُ في إنشاء نظامٍ اجتماعيٍّ جديد داخل القصر الإمبراطوري نظامٌ تكوّن طبيعياً بين أشخاصٍ يشتركون في الاهتمامات والمواضيع ذاتها، لذا كانت درجة رضاهم عالية للغاية.
في الأصل، كنتُ أنوي أن أعمل لمصلحتي فقط، لكن بعد أن أنجزتُ المهمة ورأيتُ الجميع سعداء، لم أملك إلا أن أبتسم بدهشة.
ربما هي بقايا عادتي القديمة، حين كنتُ أعيش فقط من أجل راحة الناس وسعادتهم.
“أميرة بلانش؟ فيمَ تفكرين بعمقٍ هكذا؟”
وبينما كنتُ غارقة في أفكاري، خاطبتني السيدة الجالسة بجواري ربما شردتُ أكثر مما ينبغي؟ أو ربما لأن عضلات وجهي لم تتطور بعد بما يكفي لإخفاء ملامحي؟
على أي حال، لم يكن من الحكمة أن يدرك أحد أنني لم أعد مهتمة بسير هذا المجتمع، فاضطررتُ إلى إنقاذ الموقف سريعاً، حتى وإن كان الثمن هو كبريائي.
” (كل شيء لذيذ جداً، لكنني ممتلئة ولا أستطيع أكل كل شيء، فأفكر ماذا أختار).”
أغمضتُ عيني قليلاً، وابتسمتُ ابتسامةً مبالغاً فيها، متخليةً تماماً عن محاولة النطق الصحيح.
وقد أتى تنازلي بنتيجته، إذ تعالت أصوات الإعجاب من كل صوب.
قالوا إنني لطيفة، وظريفة، وإنني أتحدث بوضوحٍ مدهش لقد سمعتُ كلّ أنواع الإطراء الممكنة التي تُوجَّه عادةً إلى الأطفال الصغار.
أجل، الجسد الصغير يجعل من الصعب إظهار القدرات، لكنه يمنح أيضاً مزايا كهذه لو كنتُ في الخامسة عشرة مثلاً، لعدّوا كلامي هذا تصنّعاً للسذاجة.
“إذن، هل نشاركك الطعام؟”
“بل أنا من سأشاركها!”
“هاكِ هذه القطعة، افتحي فمكِ، قولي: آهـ─”
ربما يجدر بي اعتبار هذه أيضاً ميزة؛ فبمجرد أن قلتُ إنني أريد تذوّق جميع النكهات، بدأت قطع الماكرون المقسّمة إلى أنصاف تُقدَّم نحوي من كل الجهات!
كنتُ على وشك أن أصرخ قائلة: “أين آداب المائدة؟! كيف يجرؤ أحد على مشاركة طعامه بهذا الشكل! كلٌّ مسؤولٌ عن صحْنه!” لكن دهشتي كانت أكبر من قدرتي على الكلام، فنجوتُ من الموقف بصمت.
“تبدين محرجة، يا أميرة بلانش؟ لا تقلقي، بل الخطأ خطئي، إذ جعلتُ حجمها كبيراً في المرة القادمة سأُحضِرها بحجم لقمة واحدة.”
كنتُ أتمنى أن يلاحظ أحدهم أن هذا التصرّف غير لائق، لكن لم ينتبه أحد.
أهذا السلوك ليس وقاحة هنا؟ أم أن الطفل يُستثنى من القواعد؟
هل يجوز فعلاً تدليل الأطفال هكذا؟ يا لجيل اليوم!
لكن، مهما فكرتُ في آداب هذا الجيل، فلن يجعل ذلك الماكرون يختفي من أمامي كما أن الرفض الآن لن يفيد سوى في إفساد الأجواء.
لذلك، أغمضتُ عيني وأكلتُ ما قُدِّم لي.
“. ( شـكراً…)”
وتعالت مجدداً أصوات الإعجاب من كل جانب.
قد رأوا في ذلك دليلاً على اللطف، لكن بالنسبة لي، كان ذلك سبباً كافياً لأعزم على إعادة الاتصال بالإمبراطور في أقرب وقتٍ ممكن.
***
لحسن الحظ، تلك اللحظة عادت بسرعة فقد أرسلت الإمبراطورة من جديد بطاقة دعوة بل إن هذه المرة تتضمن السماح لي بحضور مأدبة عائلية للإمبراطورية.
ليست دعوة إلى عشاء مع الإمبراطورة، بل مع أفراد العائلة الإمبراطورية أما الإمبراطورة، فهي على الأقل تتظاهر بمحبتي أمام الناس، لذا لا بأسرلكن ما السبب الذي يجعلني ألتقي ببقية أفراد العائلة الإمبراطورية؟
إذن، لعلها ترغب في ترتيب لقاء بيني وبين الدوق الأكبر؟
فالإمبراطور، إن كان لديه ما يقوله، لكان قد استدعاني إلى القصر بنفسه ومن عساه يريدني أن ألتقي به غيره؟ الإمبراطورة الأم؟ مستحيل.
إن كان الأمر كذلك، فالإمبراطور والإمبراطورة ينبغي التفكير فيهما ككيان واحد وهكذا تحوّل شكي إلى يقين.
“ماذا قالت جلالتها؟”
سألتني تُولا بلطف وهي تمشط شعري.
” (تقول إنها ستُريني الدفيئة.)”
ولحسن الحظ، كانت أمامي هذه المرة مهلة أسبوع على الأقل حصلت على بعض الوقت للاستعداد تُولا، التي كانت مشغولة بربط الشريط صمتت لحظة، عادت للكلام بعدما أنهت تسريحة شعري.
“آه، ذلك المكان الجميل الذي سمعت عنه؟”
“نعم.”
بالتأكيد كان جميلاً تذكرت الزهرة التي تلقيتها حين طلبت من تولّا صنعه فاصل للكتب.
هل سيكون بإمكاني الحصول على زهرة واحدة هذه المرة أيضًا؟ رغم أن الوضع مختلف عن ذاك الوقت الذي كان عليّ فيه إظهار المودة أمام الآخرين… إلا أنها كانت جميلة فعلاً
” (الملابس؟)”
“تُحضَّر كما أمرتِ تمامًا.”
” (هل ستكون جاهزة في غضون خمسة أيام؟)”
فالمرء لا يعرف ما قد يحدث، لذا من الأفضل أن نحدد المهلة أقصر قليلًا.
“سألقي نظرة بنفسي.”
“حسنًا.”
بعد أن غادرت تُولا، وضعت بطاقة الدعوة عند شفتي وغرقت في التفكير.
ذلك الصبي — شقيق الإمبراطور — الذي قيل إنه ذكي إلى درجة أن ذكاءه يُخيفهم، كيف سيكون يا ترى؟
تشكّل في ذهني صورة فتى هادئ، مطأطئ الرأس، صوته رقيق مهذّب، يبتسم بلا أذى، لا يظهر أي تمرد في سلوكه فتى يتحدث بلُطف حتى مع فتاة أصغر منه، ويبقى هادئًا لا يتأثر حتى وسط نظرات العداء المتساقطة عليه.
لكن إذا أصبح خصمًا، فإنه سيكون من أكثر الأطفال إزعاجًا
لسببٍ ما، شعرت أن ميلتشزيدك جورج بندلتون، دوق راندولف — الصبي الذي ينبغي أن أكسب وده — سيكون من هذا النوع.
وحَدْسي، نادرًا ما يُخطئ.
لذا اخترت بعض الطرق للتعامل مع طفلٍ في الخامسة من عمره، حذرٍ، لا يُظهر ثغراتٍ بسهولة.
“ذلك سهل.”
صحيح أنني لا أعرف كيف أتعامل مع الأطفال، لكنني أجيد تمامًا التعامل مع من يظنّ نفسه ذكيًّا وناضجًا.
لذلك، نظرت إلى الوضع بتفاؤل.
***
كان التوقيت متقنًا جدًا لدرجة أنه لا مفرّ من أن تسيء بلانش الفهم، لكن الإمبراطورة لم تكن في الواقع تنتظر أن تُنهي بلانش عملها.
بل إنّ جدول أعمال الإمبراطور والإمبراطورة كان يُنظَّم دائمًا قبل شهر تقريبًا، لذلك عندما حاولت تحديد موعد للغداء بأسرع ما يمكن، صادف أن يكون الموعد بعد شهر لا أكثر.
قالت الإمبراطورة
“صحيح، سأتناول الغداء مع الأميرة بلانش الأسبوع المقبل.”
اتسعت عينا بيركن بدهشة عندما سمع الخبر في اليوم نفسه الذي أُبلِغت فيه بلانش
“هاه؟”
“الأميرة بلانش من مملكة لامور ألم نقل إننا سنتناول الطعام معًا يومًا ما؟ هل نسيت؟”
بالطبع لم يكن قد نسي فبركين يحتفظ في ذاكرته بمكانٍ خاص للأشياء المهمة.
لكنه كان يتمنى لو أن ليانا لم تكن تعرف هذا لم يكن يريدها أن تعلم أنه يحاول أن يقرّب بين بلانش و ميلتشزيدك .
ولهذا تظاهر بعدم المعرفة، وقد انطلت الحيلة على ليانا تمامًا لا لأنّ ليانا ساذجة، بل لأنها تثق بيركن ثقةً عمياء.
“هل كنتَ تمزح؟ هل أعدّل الموعد إذًا؟”
لم يكن بيركن يريد أن يخدع ليانا، لكنه لم يكن يرغب أيضًا في إلغاء الموعد، فسارع إلى هزّ رأسه نافيًا.
“لا، لا، كنتُ جادًا فقط نسيت الأمر بعد مرور بعض الوقت قلتِ الأسبوع القادم؟ حسنًا، سأُخبر ميلكي أيضًا.”
“آه، صحيح الآن تذكّرت، لا بد أن ميلكي قد نسي أيضًا.”
“على الأرجح.”
مع أنه من ردّ فعله ذاك اليوم بدا من المستحيل أن يكون قد نسي، إلا أن بيركين وافقها القول على أية حال فسواء تذكّر ميلتشزيدك بلانش أم نسيها، فلن يغيّر ذلك شيئًا في النهاية.
التعليقات لهذا الفصل " 9"