“إنها دعوة موجّهة إلى الأميرة ماذا علينا أن نفعل بها؟”
فكّرتُ بجدّية في هذه المرحلة، ألن يبدو الأمر وكأنّني عديمة الكفاءة إن لم أتمكّن من بسط سيطرتي على قصر الزمرد؟
لقد كانت محبّة الإمبراطورة لي مذهلة حقاً لم أفعل أكثر من الجلوس إلى جوارها أثناء حفل الشاي وبثّ جوٍّ من الوِفاق، ومع ذلك، فقد تسابق الحاضرون لإرسال الدعوات إليّ بعد ذلك.
صحيح باستثناء قلّة قليلة، فإنّ جميع الحاضرين هنا ليسوا سوى ضحايا أُقصوا من بلدانهم لضعف نفوذهم كان من الطبيعي أن يروني كحبل نجاةٍ نزل إليهم من السماء كان ذلك مفهوماً تماماً.
“(سألقي نظرة قدّمي لي فنجان شاي.)”
“نعم.”
لقد اعتادت تولّا على نُطقي غير السليم، وعلى اختياري كلمات لا تناسب عمري، فكانت تفهم ما أعنيه تقريباً بالإحساس ثم خرجت لتُحضِر الشاي.
وعلى الرغم من أنّني أميرة من دولة صغيرة، ولديّ عدد من الخدم في القصر، فإنّ تولّا لم تكن مضطرة إلى غلي الشاي بنفسها، لكنها فهمت أنني أطلب منها مغادرة المكان.
“ (يا لها من فتاة طيبة.)”
لكنها، في هذا الميدان القاسي الذي يشبه ساحة حرب، كانت طفلة رقيقة لا تملك القسوة الكافية للبقاء لا مفرّ إذن، عليّ أن أكون أنا القويّة.
تماسكتُ، ثم مزّقت الغلاف وأخرجت الدعوة فبجسدي ذي الثلاث سنوات لم أكن أملك الدقة الكافية لاستخدام سكين ورق.
كانت محتويات الدعوات متشابهة، كما توقعترمصوغةً بكلمات أنيقة ظاهرياً، لكنها في حقيقتها متعجرفة ومتعالية.
هل استخفّوا بي لأنني في الثالثة من عمري؟ أم لأنهم ظنّوا أن أحد الخدم سيقرأها عنّي، فكتبوا نبرةً متغطرسة؟ لم يكن هذا ما يُنتظَر ممّن يرون فيّ طوق نجاتهم.
بل إنّ نصفها كاد يسقط لمجرّد أنّ مواعيدها قريبة جداً.
هل ظنّوا أن الأمر مقبول لأنّ الإمبراطورة نفسها أبلغتني في اليوم ذاته؟ مثل هذا التصرّف لا يُسمَح به إلا إذا صدر من شخصية بمقام الإمبراطورة تجاه رهائن لا قيمة لهم سوى كونهم أوراق تفاوض.
استبعدتُ أولاً جميع الدعوات التي لم يتبقّ على موعدها أسبوعٌ كامل وهكذا تخلّصت من ثلثها تقريباً.
“ (أحرقيها.)”
قلت ذلك بحزم لتولّا التي عادت ومعها الشاي، وأشرتُ إلى كومة الدعواترفتوسّعت عيناها قليلاً، ثم أجابت بهدوء
“حاضر.”
لم تكن مضطرة للقيام بذلك بنفسها، لكنها غادرت وهي تحمل الرسائل المحكوم عليها بالحرق بقيتُ أحدّق في ما تبقّى أمامي وأنا أفكّر.
إلى أيّ حدّ يجب أن أُظهر قدراتي دون أن أتجاوز الحدّ المسموح؟
بالأمس كنت في حيرة فقط، لكن حين أتأمل الآن، تبدو محبّة الإمبراطورة لي مفاجئة ومبالغاً فيها إلى حدٍّ مريب فباستثناء الوقت الذي التقيتها فيه في المجلس الرسمي، كان ذلك أول لقاءٍ حقيقي بيننا، ومع ذلك أغدقت عليّ من العطف ما لا يُمنَح عادةً لطفلةٍ التقتها لتوّها.
حين انتهى حفل الشاي، أظهرت الإمبراطورة للجميع مدى اهتمامها بي، فأمرت فارسها الشخصي بأن يُرافقني أمام أعين الحاضرين أن يقوم أحد فرسان الحرس الإمبراطوري بمرافقة رهينة صغيرة مثلي؟ إنه تكريم مبالغ فيه إلى حدٍّ يثير الريبة.
لقد تجاوز تصرّفها كلّ توقّعاتي، فلم أفكّر آنذاك إلا في ألا أبدو متغطرسة أمامها غير أنني حين جلست لاحقًا أفكّر بهدوء، اتّضحت لي الصورة تمامًا
يبدو أنّ الإمبراطور لا ينوي التساهل معي بعد الآن، ولن يقبل مني عذر قلة الوسائل
وإلا فكيف أفسّر ما يحدث؟ من غير المعقول أن تكون الإمبراطورة قد أُعجبت بي حقاً من أول لقاء.
“ (كنت أنوي إخفاء الأمر في الأصل.)”
لم أكن أعتزم إظهار كلّ ما أملك من قدرات فأنا، في النهاية، أميرة من دولة ضعيفة، وأعيش في بلدٍ ليس بلدي، ولديّ من الأعذار ما يكفيني لتبرير أيّ تقصير.
كان يكفيني، في الخطة الأصلية، أن أُهادِن أولئك الثلاثة وأستميلهم حتى أجلس معهم إلى مائدة المفاوضة فمجرد أن تنجح طفلة في الثالثة من عمرها في ذلك، يُعَدّ كفاءةً كبرى.
لكن بعدما لفتُّ انتباه الإمبراطورة، آصبحت قادرةً الآن على استدعاء أولئك الثلاثة إلى قصر الزمرد من دون حيلةٍ أو وساطة وهذا يعني أنّ عليّ، كي أبدو بارعة بحق، أن أُظهر شيئاً أكبر من ذلك.
“ (لقد بالغتُ كثيراً…)”
لم أكن أنوي أن أثير هذا القدر من الانتباه كيف انتهى بي الحال إلى لفت أنظار الإمبراطور نفسه؟
كتمتُ السؤال الجوهري الذي كاد يتفجّر داخلي، ثم قلّبت ما تبقّى من الدعوات وأنا أعيد حساباتي عليّ أن أحدّد بدقّة حدود الموهبة التي يمكنني أن أُظهرها، والنتائج التي يمكنني أن أقدّمها للإمبراطور كدليلٍ على كفاءتي.
***
لعلّ اضطراب قلبي هو السبب، لكنّني حلمت تلك الليلة كان حلمًا عن زمنٍ أفتقده بشدّة.
“أرجوك، يا جلالة الإمبراطور، اسحب أمرك عنّي.”
كنت ساجدًه على الأرض أتوسّل ربما لأنّه كان حلمًا، استطعت أن أعرف أنّ جلالته كان أمامي.
“ألَم يُعجبك عطائي؟”
سقط صوته الممزوج بالضحك فوق رأسي.
لو لم يكن هو الإمبراطور، لرفعت رأسي فورًا ورددت عليه بحدّة عضضت على أسناني وأنا أجيبه برجاءٍ خافت
“وكيف أجرؤ على أن أجد في نِعَم السماء مشقّة؟ إنّما هي نعمةٌ تفوق قدري، فلا يسعني سوى أن أتحفّظ بتواضع.”
“تقصدين أنّكِ لا تحتاجينها لكنّكٰ ستتلقّينها على مضض لأنّ غيرك سيثير الضجيج إن رفضتِي أليس كذلك؟”
أن يتناغم فكر المرء مع فكر سيّده قد يكون حسنًا في بعض الأوقات، لكن في مثل هذه المواقف… الأمر مُربك حقًّا.
كنت أفكّر تمامًا بما قاله، لكن هل كان من الضروري أن يصرّح به هكذا صراحة؟ لقد بذلت جهدًا لأغلف كلماتي بلُطف وأنتقي ألفاظي بعناية!
“جلالتك…”
“كلّما خفضتِ صوتك، أشعر بالرعب.”
توقّف قلبي لحظة.
لم تكن هذه المرّة الأولى التي يقول فيها مثل ذلك منذ لقائنا الأوّل في الطفولة — حين لم يكن إمبراطورًا بعد، ولم أكن أنا أحد رعاياه — كان بيننا حديثٌ على نحوٍ ودّي يندر بين سيّدٍ وخادم.
ومع ذلك، في كلّ مرّة يتكلّم هكذا، ينتابني الخوف… خوف لا أعرف سببه لم أرتجف يومًا حتى في ساحات القتال، ومع ذلك… أمامه أفقد توازني.
“أتقول هذا، وأنت من يُخيف كلّ من حوله؟”
كانت تلك وقاحة لا تليق بخادمٍ أمام إمبراطوره، وإن لم يكن هناك من يسمع أو يرى.
لكن جلالته بدا مسرورًا بهذا التجرّؤ.
“إنّما أتحمّل الخوف.”
أدركت أنّ استمرار انحنائي لا فائدة منه، فزفرت بهدوء ورفعت جسدي مستقيمه
“هل لي أن أسأل عن سبب تصرّفك هذا؟ إنّها هدية عظيمة تفوق الحدّ يا مولاي.”
“أريد أن أفعل ذلك، أهذا سبب غير كافٍ؟”
وكيف لا يكون كافيًا؟ بل هو سبب يفوق الكفاية… لكنّ الحمل على قلبي ما زال ثقيلًا.
“أعلم أنّ جلالتك ترغب في مكافأة المخلصين ورفع معنويات رجال الدولة، غير أنّ هذه الهبة بالذات مفرطة للغاية فبما نلته سابقًا، نِعمك قد فاضت عليّ…”
“مكافأة على الأعمال؟”
ابتسم الإمبراطور بخفة.
“هل يبدو الأمر لك كذلك حقًّا؟”
لم يكن سؤاله نابعًا من البراءة، لكن لم يكن بوسعي سوى الإجابة بصدق.
“إن لم يكن كذلك، فلا أجد مبرّرًا آخر لهذا العطاء في كلّ الأحوال، الأمر لا يزال مبالغًا فيه.”
لقد أغدق جلالته عليّ من عطاياه ما يفوق الاحتمال.
لقد منحني شرفًا نادرًا بأن أراجع رسائله وأصحّحها دون إذنٍ مسبق، وهو امتياز لم يُمنح لأحدٍ غيري لو لم تكن إنجازاتي تشهد لي، لاصطفّ الوزراء أمام قاعة العرش يتوسّلون بعقابي منذ زمن.
ومع ذلك، كانت هذه الهبة الأخيرة تفوق التصوّر — مجرّد تابع لا يستحق هذا الفيض من الشرف.
“أحيانًا…”
زفر جلالته أنفاسًا طويلة، أنفاسًا لم أفهم إن كانت نابعة من ضجره أم من شيءٍ آخر خفيّ.
“لا أعلم إن كنتِ تجهلين حقًّا، أم أنّكِ تتظاهرين بالجهل.”
يا له من اتهامٍ ظالم.
صحيح أنّني أتغافل أحيانًا، لكن في هذه المسألة بالذات، أقسم أنّني لا أفهم سبب تصرّفه هذا.
“غبائي هو ما يحجب عني الفهم، يا مولاي…”
“حسنًا، لا بأس حتى إن كنتِ تجهلين ، فلا مشكلة.”
قاطع كلماتي المتواضعة، ثم شبك كفّيه ورفعهما مبتسمًا ابتسامة هادئة.
“ما دمتِي لا تفهمين فسأواصل الإغداق عليك.”
وبينما فرّق بين كفّيه، تساقط منها بريقٌ خاطف.
كانت تلك هداياه.
محبرة من اليشم المنحوت، ودبوس شعر يحمل قطعة من الزمرد في فم تنّين، وتحف دقيقة الصنع من العاج، ومجوهرات لا تُحصى أقمشة مطرّزة بصورة طائر العنقاء، وسلحفاة من الذهب الخالص، وختم الإمبراطور نفسه.
مراسيم تُنصّبني بأعلى الألقاب، وأراضٍ تُعفى من الضرائب كل تلك العطايا التي لففتها بيديّ يومًا في الحرير وأعدتها إلى جلالته قبل موتي.
دلائل المحبّة التي لم يَبقَ منها أثر، وأسباب لا أزال أجهلها، حتى بعد أن وُلدت من جديد.
تأملت انهمار الذهب والجواهر المتدفقة أمامي، ثم أغمضت عينيّ بهدوء لقد حان وقت الاستيقاظ.
***
حين استعدت وعيي، اجتاحتني موجة من الإرهاق الشديد حتى إنني لم أستطع فتح عينيّ كان جسدي مبللًا بالعرق البارد، وكأنني قد استيقظت للتو من كابوس.
غريب، أليس كذلك؟ لم يكن الحلم سيئًا على وجه الخصوص حاولت مسح العرق عن جبيني، لكنّ ذراعي كانت قصيرة فلم أفلح.
“ (لقد فشلت…)”
استسلمت، وتركت ذراعي وساقي ممدودتين بشكل عشوائي، وانتظرت حتى يجف العرق بشكل طبيعي شعرت بالبرد قليلًا لأن جسدي كان مبللًا، فغطيت نفسي جيدًا باللحاف حتى رقبتي على الرغم من أنه ليس سميكًا جدًا، إلا أنه أفضل من لا شيء.
“ (صحيح، الوضع أفضل من ذاك الحين.)”
عند التفكير في الأمر، كان الأمر مضحكًا هل صغر عقلي أيضًا عندما صغر جسدي؟ حتى لو عشت مائة حياة، فلن أواجه مشكلة أصعب من تلك التي واجهتها مع جلالته، فما الذي كنت أفكر فيه؟
لقد كان شخصًا من الصعب جدًا خدمته كان كفؤًا ومتقلب المزاج، ولديه جانب يجذب الناس إليه.
نعم كانت المشكلة في الجزء الأخير حقيقة أنه كان يتمتع بجاذبية إنسانية شعور بالرغبة في الولاء له بشكل خالص، بغض النظر عن المكاسب أو ما شابه.
ولذلك، حتى وأنا أدرك أن أية مودةٍ منه لن تدوم ألف عام، كرّست نفسي له بالكامل وعندما طردني تقبّلت ذلك بهدوء.
وبدلاً من الخيارات الأخرى التي كان بإمكاني اختيارها، اخترت الانتحار لأنني كنت أفضل الموت على أن أتمرد عليه.
بالمقارنة، ما أفعله مع إمبراطور رتايل هو صفقة على الأقل أنا لا أقسم الولاء لإمبراطور رتايل ، وهو لا يمنحني الرعاية لذا، بغض النظر عن النتيجة، ربما يمكنني حتى أن أتصرف بسوء.
“ (لقد عقدت العزم.)”
ما إن تخلّيت عن التردد حتى تَبِعتني العزيمة بسهولة أخيرًا، حدّدت الهدف والوسيلة والمستوى.
التعليقات لهذا الفصل " 8"