“تفضلي، هنا أيضًا بعض حلوى الماكرونرهل هناك شيء لا يمكنكِ أكله؟”
“لا، ليس حقًّا…”
“يا للعجب، كم أنتِ رائعة.”
ورغم أنها فوّتت بعض التفاصيل، إلا أن نية بلانش كانت قد تحققت تمامًا بل يمكن القول إنها نجحت نجاحًا باهرًا في إثارة فضول الإمبراطوره ، حتى إنها تجاوزت التوقعات هذه المرة.
فليانا كانت تحب الأطفال والحيوانات، لكنها كلما حاولت الاقتراب منهم كانت تُبكي الأطفال وتُفقد الحيوانات وعيها، لذلك لم يُتح لها قط أن تدلل طفلًا كما أرادت.
ومن بين جميع الأطفال الذين التقت بهم، لم يكن هناك سوى اثنين لم يبكيا حين تلاقت أعينهما بعيني الإمبراطورة.
بيركن، زوج ليانا، وُلد وهو يحمل هيئة الملوك منذ طفولته، ميلتشزيدك الذي كان يُلوّح بلعبته الرنانة منذ ولادته بعينين زاهدتين متعبتين من الحياة
لكن بما أن بيركن كان في عمرها ، فيمكن القول إن الطفل الوحيد الذي استطاعت ليانا أن تداعبه حقًّا هو ميلتشزيدك
وبينما كانت ليانا التي لم تعرف سوى ذلك الصبي الأسود العينين ذا النظرة العجوزية في وجه طفل، ظهرت أمامها فتاة صغيرة جميلة الملامح، هادئة ولطيفة، لا تبكي ولا تشاغب — فكان من الطبيعي أن تُفتن ليانا بها على الفور.
“(الحديقة جميلة جدًا شكرًا لدعوتي.)”
وكان افتتان ليانا بها إلى درجة أنها، فور سماعها هذه التحية البسيطة، نهضت بنفسها — هي الإمبراطورة المهيبة — لتقطف لها زهرة.
“يا إلهي، إن زهرة البنجانية الحمراء تليق حقًّا بشعرك الفضي الذي يشبه ضوء القمر.”
بلانش… أو بالأحرى لي بايك ريون، لم تستطع إخفاء دهشتها من هذا التصرف.
ذلك لأن الزهور التي يمنحها الإمبراطور أو الإمبراطورة في إمبراطورية جين تُسمّى أوساوا — وهي زهور تُمنح فقط لمن اجتاز امتحان الدولة ونجح في دخول سلك الإدارة.
وفوق ذلك، حين كانت لي بايك ريون موظفه في حياتها السابقة، لم يكن نظام الامتحانات قائمًا بعد، ولذلك لم تتلقَّ يومًا زهرة حقيقية من الإمبراطور ، بل أقصى ما نالته كانت زهرة منحوتة من اليَشم.
لي بايك ريون التي لم يسبق له أن تتلقّى زهرة حقيقية حتى في حياتها السابقة، وجدت نفسها في ارتباكٍ تام حين تلقتها الآن لمجرد أنها قالت إن الحديقة جميلة.
وكان من طبعها منذ القدم أنه كلما ارتبكت ، ازدادت طلاقة لسانه أكثر من المعتاد، وكأن لسانها يبدأ بالعمل مضاعفًا.
“(جمال جلالتك باهرٌ إلى درجة أنّ الزهور والقمر سيخجلان ويغطّيان وجهيهما).”
لو كان قائل هذه الكلمات طفلًا في العاشرة مثلًا، لربما استشعر الجميع القلق من فصاحته المفرطة.
لكن بلانش كانت في الثالثة فقط، وبسبب لثغتها الطفولية، لم تستطع حتى وصيفة الشاي القريبة أن تفهم من حديثها سوى أنه كان مديحًا، بينما فقدت ليانا صوابها أمام براءة الفتاة الجميلة التي تبتسم بخجل وتقول كلمات لطيفة.
ولم يحدث أي سوء فهم، بل حين احمرّت وجنتا الإمبراطورة وضحكت بخجل وهي التي تبث رهبة لا تُطاق عادة، ازداد احترام الحاضرين لبلانش أكثر فأكثر.
هكذا، الفتاة التي أسرت أنظار الإمبراطورة في ثلاث دقائق فحسب، ستغدو — خلال بضع ساعات من حفل الشاي — نجم المجتمع الأرستقراطي الجديد الذي تتوجه إليه الأنظار.
إنها نتيجة مذهلة، وإنجاز لم تيستطع لي بايك ريون نفسها تحقيقه حتى في حياته السابقة.
***
كان من المعروف في أرجاء إمبراطورية لِرتايل أن الإمبراطور وزوجته يكنّان مودة خاصة للدوق الأكبر، رغم فارق السن الكبير بينهم، حتى قيل إن الفارق يقارب فارق العمر بين الوالد وولده.
ولذلك، ما لم يكن لدى أحدهم ارتباط خاص، كان الثلاثة ـ الإمبراطور وزوجته والدوق الأكبر ـ يتناولون العشاء معًا دومًا وفي ذلك اليوم بالذات، بدت الإمبراطورة التي ظهرت في مجلسهما في مزاجٍ طيبٍ على نحوٍ غير معتاد.
تساءل ميلتشزيدك في نفسه باستغراب
هل كان في جدول أعمالها اليوم ما يمكن أن يُدخل السرور على نفسها؟ ألم تكن مشغولة بإدارة شؤون الرهائن فحسب؟
وقبل أن يعبّر عن شكوكه، بادر الإمبراطور بالكلام.
“هل حدث أمرٌ سارّ اليوم؟”
كان جميع خدم القصر قد صُرفوا لتخلو الجلسة للعائلة فقط، ولهذا لم توبّخ ليانا زوجة الإمبراطور زوجها على نبرته المألوفة، بل أجابته بالمثل في ودٍّ ظاهر
“نعم! لقد رأيت اليوم في حفل الشاي طفلة شديد الجمال واللطافة!”
أترى أنها التقت شخصًا ذا حديثٍ ممتع؟ أم لعل الطفل يمتلك موهبةً لافتة كالفروسية؟
تبادل الشقيقان النظرات، وقد خطرت لهما الفكرة نفسها، إذ بدا وكأن الدم لا ينكر أصله، قبل أن تعلن ليانا بثقة
“اسمها بلانش روا فاندالوين، أميرة مملكة لامور يا لها من طفلةٍ جميلةٍ ولطيفة!”
تفاجأ الاثنان من كلامها، لكن دهشة بيركن كانت أشد من دهشة ميلتشزيدك ، إذ كان يعرف من هي تلك الأميرة.
*كنت أعلم أن هذه الطفلة ليست عادية، لكن أن تقع في عين ليانا في اليوم التالي تمامًا بعد أن لفتت انتباهي؟ وهي لم تتجاوز الثالثة؟*
وبينما كان بيركن يظن أنها ربما اختارت بعينٍ ثاقبة أكثر مما ظن، جاءت كلمات ليانا التالية لتزيد من صدمته
“يُقال إنها في الثالثة من عمرها فقط، لكنها ناضجة وذكية على نحوٍ لا يناسب سنها أليست مرشحة جيدة لتكون صديقة لك يا ميلتشزيدك ؟”
كانت تلك الجملة مطابقة تمامًا لما خطر في بال بيركن قبل قليل.
“… في الثالثة من عمرها؟”
كان ميلتشزيدك ، ذلك الفتى النبيل ذو الخمس سنوات، يتمتع برزانة وذكاء يليقان بسنه، وكان يعلم كم تشعر ليانا بالحزن لأن الأطفال والحيوانات على حدٍّ سواء لا يقتربون منها بسهولة.
ولذلك كتم رغبته في أن يسألها
*تقولين إنها تحدثت معك دون أن تبكي؟ أهذا معقول؟*
ثم قال بابتسامةٍ خفيفةٍ
“هاها… حتى لو كانت ناضجة وذكية كما تقولين، فهي تبقى في الثالثة من عمرها ماذا عساي أفعل مع طفلةٍ نصف عمري؟”
كانت تلك طريقة مبتكرة لوصف فارق السنتين بينه وبينها، ولو لم تكن ليانا على علمٍ بأنه في الخامسة لبدت حجته مقنعة بالفعل.
ومن وجهة نظر ميلتشزيدك ،كان اللعب بدميةٍ غالية الثمن خيرًا من اللعب بطفلةٍ في الثالثة تشبهها، على الأقل لأن الدمية لا تسبب مشكلة إن تُركت وشأنها.
غير أن بلانش، بتلك اليد الصغيرة الطرية، أمسكت بإصبع ليانا برقةٍ وقالت
“إذا استدعَتْني صاحبةُ الجلالة مرةً أخرى، فسيكون شرفًا لي مدى الحياة.”
كانت كلماتها المنمّقة تلك كافية لأن تُدخل السرور في قلب ليانا التي بدا أنها لم تفكر بالأمر من منظور ميلتشزيدك نفسه.
ولم يشأ أن يسكب الماء البارد على سعادة زوجة الإمبراطور، فبينما كان بيركن يسايرها في الحديث، اكتفى هو بالجلوس هادئًا يهز رأسه بالموافقة.
“حقًا؟ قالت ذلك؟ لا بد أنها أُعجبت بك كثيرًا إذن.”
“أجل، أظن ذلك آه، ماذا لو دعوتها إلى إحدى وجباتنا؟ لِتتعرف على ميلكي أيضًا!”
كان ميلتشزيدك يهمّ بالكلام ليعترض، لكن بيركن سبقه بخفةٍ فابتسم ونظر إليه نظرةً هادئةً تمنعه من الكلام.
“بالطبع لا بأس لكن ربما يكون العشاء ثقيلًا عليها بعض الشيء، فلنجعلها وليمة غداء.”
“غداء؟ هذا قد يؤخر الموعد كثيرًا.”
فقد كانت مواعيد ليانا في أوقات الغداء ممتلئةً لشهرٍ كامل، بخلاف أوقات العشاء التي تُخصَّص دومًا للعائلة.
ولما رأت أن عليها الانتظار شهرًا قبل أن ترى بلانش مجددًا، أبدت شيئًا من الأسف، فسارع بيركن يواسيها.
“قد يتأخر اللقاء قليلًا، لكن يمكننا إقامة الغداء في الدفيئة مثلًا سيكون ذلك أكثر راحة، فاللقاء الثاني في القصر الرئيسي قد يسبب بعض الحرج، من عدة نواحٍ.”
“صحيح.”
سارع ميلتشزيدك بتأييد كلامه دون تردد، إذ راوده شعورٌ قوي بأن الطفلة ذات الثلاث سنوات قد تجد نفسها غدًا على مائدة العائلة إن لم يتدخل أحد.
“الآن وقد قلتَ ذلك، يبدو أنك محق بل لقد أحبّت الدفيئة اليوم حقًا…”
لحسن الحظ، عدلت ليانا عن رأيها.
وبعد أن تأكد ميلتشزيدك من تأجيل لقائه المرتقب مع بلانش شهرًا كاملًا، وانتظر حتى غادرت ليانا التي كانت تشكو أن حفلة الشاي طالت ففاتتها أوراق عملٍ كثيرة، قال أخيرًا
“أنا لا أريد ذلك.”
ابتسم بيركن ابتسامةً وادعة.
“ولِمَ تقول هذا لي؟”
“لأنك من شجّعها!”
“أنا؟ كل ما فعلتُه أني اقترحتُ الغداء بدل العشاء.”
كان في كلامه شيء من التهرب، فميلتشزيدك كان يعلم جيدًا أن بيركن لم يكن من النوع الذي يسمح بسهولةٍ بدعوة طفلةٍ غريبة إلى مائدة العائلة.
ولذلك، لم يشكّ لحظةً في أن تلك الأميرة الصغيرة قد نالت إعجاب بيركن أيضًا، لا إعجاب ليانا وحدها.
“على أية حال، لا يهمّ إن كان غداءً أو عشاءً، فقط دعني خارج هذا الأمر تمامًا.”
قالها وهو يعلم في قرارة نفسه أن بيركن لن يأخذ كلامه على محمل الجد، كما كان متوقعًا.
لكنّ بيركن، وقد بدا عليه الاهتمام، ابتسم وسأله بنبرة هادئة
“لماذا؟”
“ماذا تعني بلماذا؟”
“أنت لم ترَ الأميرة بلانش بعد، فلماذا ترفضها من دون سبب؟”
“لأن كل الفتيات اللواتي حاولتَ أن تُعرّفني إليهن من قبل كنّ غير جديرات، هذا هو السبب!”
لو كان ميلتشزيدك أكبر بعشر سنوات، لكانت تلك العبارة قد حملت معنى بالغ التعقيد.
لكن المشكلة أن ميلتشزيدك لم يكن سوى صبي في الخامسة من عمره، وأن الفتيات الوحيدات اللواتي عرّفه عليهم بيركن لم يكنّ سوى المرضعات اللاتي تولّين رعايته.
أما الأطفال الذين كان يلعب معهم من قبل، فلم يكن بيركن هو من اختارهم بنفسه، لذا لم يكن من الدقة القول إنه هو من عرّفهم إليه.
“من أين تسمع مثل هذه العبارات أصلًا؟”
ومهما اعتقد بيركن أن ميلتشزيدك طفلٌ استثنائي لا يشبه أقرانه في الخامسة، فإنه لم يستطع هذه المرة أن يأخذ كلماته على محمل الجد.
لذا انفجر ضاحكًا، ومدّ يده ليمسح على رأس أخيه الصغير برفق.
“آه، عليّ أن أطلب من الجميع أن ينتقوا كلماتهم أمامك بعناية لا يليق بدوقنا الجليل أن يتحدث كأحد الصعاليك!”
“آه، يا أخي! أنا لا أمزح─”
*حسنًا، في الخامسة من العمر يبدأ الصبي عادة بالميل إلى اللعب مع أقرانه الذكور أكثر من الإناث، أليس كذلك؟ لا بد أنه لهذا السبب يتصرف هكذا على أي حال، ما إن يلتقي الأميرة بنفسه، فسيتغير رأيه بلا شك.*
التعليقات لهذا الفصل " 7"