“سمعتُ أنّكِ مشغول في الآونة الأخيرة، هل أنتِ بخير؟”
مع أنّها هي من أرسلت بطاقة الدعوة، فإنّ الآنسة باسك بدت بوجهٍ مفعمٍ بالقلق لا بدّ أنّ بطاقة الدعوة تلك كانت بطاقة مجاملة، أرسلتها وهي تتوقع أن أرفضها منذ البداية.
صحيح أنّني رفضت الدعوات في الآونة الأخيرة، غير أنّ ذلك لم يكن يعني قطع الصلة تماماً، فليس من المعقول فعل ذلك بما أنّني سأدخل الأكاديمية قريباً.
وبابتسامة اعتدتُ عليها إلى حدٍّ ما، قلتُ لها بلطف
“لهذا جئتُ لأقابل الآنسة باسك أليس قضاء الوقت مع من نحبّ هو أصدق راحة؟”
حتى أنا شعرتُ أنّ لسانِي ازداد نعومة في الفترة الماضية انطلقت ضحكات خافتة هنا وهناك، فخفّ الجو قليلاً.
ثم تتابع الوقت بعدها يُحدّثني الجميع عن أحوالهم، بعد أن غبتُ عن الأنظار لبعض الوقت.
وبما أنّ غايتي من حضور هذا الحفل كانت واحدة فقط، فقد أصغيتُ إليهم بهدوء، وأجبت كلّ طفل بالإجابات المناسبة بينما أنتظر الفرصة المناسبة دون استعجال.
ولحسن الحظ، لم يطل انتظاري كثيراً حتى جاءت الفرصة التي أردتُها.
“يبدو أنّ الأميرة بلانش ستكون أول من يدخل المجتمع الراقي بيننا.”
العمر المعتاد لدخول ساحة المجتمع الراقي في الإمبراطورية هو سبعة عشر عاماً لكن لا يمكن حبس الأبناء في المنزل حتى ذلك الحين، لذا تُقيم العائلات المتقاربة فيما بينها حفلات شاي كهذه ليستأنس الأطفال ببعضهم، وإن كان هذا لا يُحسب دخولاً رسمياً للمجتمع.
لذلك فقول الآنسة دووايرس صحيح.
“ألا ترون أنّ هذا مبكر قليلاً؟ كان يمكن لصاحب السمو الدوق أن لا يعجّل في الأمر، وأظنّه كان سيغدو أفضل لو ظهرت الأميرة بلانش في الخامسة عشرة وظهر صاحب السمو في السابعة عشرة.”
مثل هذا الحديث لا يمكن نطقه في المجتمع الراقي الحقيقي، إذ قد يُتهم قائله بالاعتراض على قرار العائلة الإمبراطورية لكن بما أنّ هذه ساحة مجتمع خاصة بالأطفال، أمكنهم طرح تساؤلاتهم البريئة.
يا للحساسية.
سؤالها لم يكن بدافع انتقاد، بل مجرد استفسار بريء وهذا يعود لطبيعة عائلتها المنصرفين إلى الدراسة لا أكثر.
وبما أنّ هذا هو السياق الذي أنتظرُه، فقد سرتُ مع التيار وأرخيتُ ملامحي.
“أنا أيضاً أشعر بقلق كبير بشأن إن كنتُ سأحسن التصرف وصاحب السمو الدوق يشجعني بقوله إنني أبلي جيداً، لكنّه شخص لطيف للغاية بطبيعته…….”
يا إلهي، أيّتها الفتيات، كان يجب أن تُجِدن إخفاء تعابيركم كتمتُ بصعوبة النصيحة التي كادت أن تخرج مني وأنهيتُ كلامي بتلعثم.
فعبارتهم السابقة كانت سياسية حسّاسة بعض الشيء، وها هم الآن يبدون وجوهاً تقول: هل صاحب السمو الدوق لطيف؟ حقاً؟
إنّهم في السنّ الذي سيبدأون فيه دخول المجتمع، وعليهم تعلم كيفية التحكم بتعابيرهم وكلماتهم، فالعثرات قد تأتي من أي مكان.
لكنّني ابتلعتُ نصيحتي بصعوبة.
فليس هذا وقت تعليم الأطفال فنون البقاء في المجتمع ليست هذه مشكلتي الآن.
“أتمنى لو كان بإمكاني معرفة الاحتياطات مسبقًا أنا واثقة من قدرتي على التعلم.”
“نعم، صحيح حتى لو كان الشخص جديداً عليك، فمعرفة ما يحبّ وما يكره تجعل التعامل معه أسهل بكثير.”
كما توقعت.
أبناء العائلات العلمية الذين يعتمدون على الدراسة لحل كل شيء وجدوا في كلماتي صدىً يشبه صدى العظام من داخل الجسد.
وقد يكون التعامل مع العلاقات البشرية من منظور التعلم أمراً غير جيد، لكنّي لم أكن الشخص المناسب لتأنيبهم.
“إذن، لو عرفنا مسبقاً قائمة الحاضرين لمهرجان الصيد، ألا نستطيع حينها الاستعداد للطريقة المناسبة للتعامل مع كل واحد؟”
“لكن عدد المشاركين في مهرجان الصيد يتغير كل سنة فهناك من يتغيّب من كبار النبلاء لأسباب صحية أو لانشغالات في إقطاعياتهم.”
“وحتى لو طلبتُ من صاحب السمو الدوق قائمة المشاركين لهذه السنة، فأنا لا أعرف شيئاً عن النبلاء الآخرين في الإمبراطورية غيركم… فلا فرق في الأمر…….”
وما إن أنزلتُ حاجبي قليلاً حتى لاحظتُ ارتخاء تعابير وجوههم يبدو أنّ ملامح بلانش التي يرونها باردة عادةً تترك أثراً حين تُظهر ضعفاً بسيطاً.
“لا تقلقي بشأن ذلك، فنحن هنا!”
ها قد جاء ما أردتُ سماعه اضطررتُ لكبح ابتسامة كانت تتسلل إلى وجهي.
“لو أحضرتِ لنا القائمة فسنسأل نيابةً عنك آباءنا.”
“حقاً؟ يا إلهي، أخشى أن أكون أثقل عليكم…….”
“أثقال ماذا؟ هذا بيننا! بل على العكس، يسعدنا أن نكون عوناً للأميرة بلانش.”
كان وجه الفتاة صافياً كالماء ربما لأنهم ما زالوا طاهرين لم تمسّهم تعقيدات المجتمع رغبتها بالمساعدة كانت خالصة حقاً.
بالطبع، أنا شخصية أرهقتها الحياة السياسية، لذا سأقدم مقابلًا مناسبًا لأي معلومات أتلقاها حتى لو لم يكن الطرف الآخر يرغب في المقابل، يصبح قلبي مضطربًا إذا لم تتم الموازنة بشكل صحيح.
“إن فعلتنّ ذلك فسأكون شاكرة للغاية.”
وبينما كنتُ أحسب في داخلي ما يمكن تقديمه لكل منهنّ مقابلاً، أظهرتُ على وجهي تعبيراً رقيقاً.
“حقاً، ليس لي أحد سواكنّ.”
ومع أن كلمة سواكنّ بدت مبالغاً فيها لأن عددهم ليس بالقليل، إلا أنّ وقعها على الأطفال كان كبيراً.
“أميرة بلانش…….”
عيون براقة اتجهت إليّ.
عادةً، كان هذا القدر من البراءة سيجعل أي فتاة تشعر بالذنب، لكن أنا ثعبان عجوز داس في دهاليز السياسة.
لذلك، لم أشعر بأي ذنب واكتفيتُ بالابتسام ببشاشة.
***
لقد تمكنتُ من الحصول على قائمة الحاضرين لمهرجان الصيد من الدوق، كما حصلتُ من فانيا على قائمة الأشخاص الذين قد يعادونني.
وللتوضيح، فإنّ القائمة التي انتزعتُها من فانيا تضمّ الجهتين معاً أولئك الذين يكرهون الدوق، وأولئك الذين يتطلعون إلى انتزاع مقعد االدوقة الكبرى
أما الأطفال، فقد ادّعيتُ أمامهم أنّ ما يهمني هو معرفة من سيحضر مهرجان الصيد، لكن ما كنتُ أريده حقاً هو القائمة الثانية.
ولذلك اخترتُ فقط الأسماء التي ظهرت في القائمتين معاً، وطلبتُ من الأطفال البحث عنها.
ويا للعجب فقد صنع الأطفال، بما يليق بأبناء عائلاتٍ أكاديمية، تقريراً بحثياً كاملاً وأرسلوه إليّ.
إنّ الإتقان في البحث لا يعني الإتقان في العمل الإداري دائماً، غير أنّ بين البحث الأكاديمي والتقارير الإدارية نقاط تشابه كثيرة.
بمعنى آخر، قد لا يكون الباحث المتميز مسؤولاً متميزًا ، ولكن الباحث الجادّ يمتلك بذور المسؤول الإداري الجاد.
“يبدو أنّ رفاقي يحملون بالفعل بوادر الباحثين الجادين.”
حتى لو انتهى نصف هؤلاء الأطفال بالعمل في البلاط الإمبراطوري، فلن تتأثر الساحة الأكاديمية كثيراً، أليس كذلك؟
نعم، إنّ تطور العلوم أمر حسن، لكنّ استقرار الدولة يأتي أولاً، فهو الأساس الذي تستقيم به سائر الأمور…….
لا، لا يعني ذلك أنّني أرغب في تكريس حياتي لأجل الدولة كما فعلتُ سابقاً، ولا أنوي استقطاب الكفاءات بنفسي لكنّ العادة أمر مخيف حقاً.
قلتُ وأنا أُري تولا التي أجلسها بجانبي عمداً، ذلك الملفّ الذي أرسله الأطفال.
“انظري، المعلومات مرتّبة بوضوح حسب البنود هذا يساعد كثيراً على استخراج المعلومات المطلوبة خذي هذا الملف، قد يُفيدك أن تدرسي طريقة تنظيمه سيكون ذلك مفيداً لك عندما تكتبين تقاريرك لاحقاً.”
تولا لم تتلقَّ حتى الآن تدريباً خاصاً على كتابة التقارير، لكثرة ما تحتاجه من مهارات أُخرى ، كما أنّها كانت تكتفي بإعطائي تقاريرها شفهياً.
لكن عندما أصبحُ إمبراطورة مستقبلاً، فسوف يتعين عليها كتابة تقارير رسمية، لذا فإنّ تعليمها ذلك في الوقت المناسب لن يكون سيئاً.
“حسناً، جرّبي أن تحذفي المعلومات المكررة من هذا التقرير وتختصريهرسيكون ذلك تدريباً جيداً لك.”
لقد كان وثيقة ممتازة للتدريب
الوقت متاح، ويمكنني مراجعة النتيجة بنفسي، والمعلومات مصنّفة بوضوح، والكلمات المستخدمة من الأطفال متشابهة، مما يجعل تصفية التكرار أمراً سهلاً.
“إلى متى يجب أن أنهيه؟”
سألت تولا وهي تتلقى حزمة الرسائل من يدي.
“لا يوجد موعد نهائي سأراقب الوقت الذي تحتاجينه حتى تنتهي، لذا ضعي جدولك بنفسك لن أستثنيك من أعمالك المعتادة، فهذا التدريب يهدف إلى معرفة مقدار الوقت المتاح لديك لذا إيّاكِ أن ترهقي نفسك.”
حتى لو كان تمريناً، فإنّ غياب الموعد النهائي يسبب المتاعب فالمرء إما يضغط نفسه وينهيه بسرعة قياسية، أو يطمئن لغياب المهلة ويتراخى حتى ينسى.
لذلك ربما كان الأفضل تحديد مهلة أسبوع، أو شهر لكنّي تعمّدتُ عدم إعطاء أي مهلة فهذا أسلوب ممتاز لاختبار مهارة كتابة التقارير.
“حسناً، فهمت.”
أومأت تولا برأسها بوجهٍ هادئ خالٍ من أي قلق ، حسناً كم سيستغرق الأمر يا ترى؟ ثلاثة أيام؟ أم شهراً كاملاً؟
التعليقات لهذا الفصل " 69"