لم يكن الأمر مجرد التهرب بل وصل إلى حدّ أن يقول لي ألا ألتقي بالسيدة ستارتي على الإطلاق؟ اتّسعت عيناي قليلاً.
“أتقصد أنّه من الأفضل أن أتنحّى عن هذا الأمر تماماً؟”
تنفّس الدوق بعمق، ثم فتح فاه ببطء وعلى وجهه ملامح واضحة تدلّ على أنّه لا يرغب في الكلام.
“يبدو أنّ المسألة ستتحوّل شيئاً فشيئاً إلى مشكلة بين العائلتين لذا من الأفضل لك ألا تتدخّلِ.”
آه… هل بلغ الأمر هذا الحد؟ وضعت يدي على جبيني الذي بدأ يخفق ألماً هكذا إذن… لو أنّهما أنهيا الأمر سريعاً منذ البداية.
كان ذلك متوقَّعاً.
فمع أنّ مملكة دالين، موطن السيدة ستارتي بعيدة بعض الشيء، إلّا أنّه لا يمكن لعائلة البارون ميلِيك ولا لعائلة الكونت ماستيرا أن تتركا نزاعاً غرامياً كهذا يتفاقم أمام أعينهما.
وإن طال الزمن وتناقلت الألسن الحديث، فمن الطبيعي أن يتدخلا.
“حقاً… لقد أصبحتُ في وضع محرج.’
لم يكن لدي ما أقوله سوى ذلك.
لو أنّني لم أفكّر بلا داعٍ في أن أكون قناة تواصل بين مبعوثي السلام ونبلاء الإمبراطورية.
لو أنّني لم أفكّر أنّه سيكون من الجيد منح الجميع فرصة على قدم المساواة.
لو أنّني أبقيتهم داخل القصر كما كانوا منذ البداية، لما حدث شيء من هذا كله.
لو أنّني اكتفيت بما أُعطيتُه وعددته حظّاً نلته، ولزمت الصمت واستفدت منه وحدي.
وقطع الدوق سلسلة الأفكار المليئة بالندم التي كانت تتلاحق في رأسي.
“قلتُ لك، ليس هذا خطؤك السيدة ستارتي التي يمكن عدّها ضمن دائرة مسؤوليتك حرةُ النفس أصلاً المشكلة الحقيقية في الشاب ماستيرا، الذي يلهو مع السيدة رغم أنه مخطوب.”
رمشتُ متفاجئاً من هذا التقييم غير المتوقع.
“هذا غريب… حسبتُ أنّ سموّ الدوق يرى أنّ الآنسة ميلِك هي التي تعاند.”
“نعم، هذا ما أراه.”
ثم جذب الدوق الكأس نحوه، وارتشف رشفة من الشاي، قبل أن يهمس وكأنه يتنهّد.
“لكن ذلك لا يعني أنِ أدافع عن الشاب ماستيرا.”
أه… صحيح والآن بعد أن فكّرت في الأمر، أدركتُ أنني لم أسمع من قبل رأي الدوق الحقيقي في هؤلاء الثلاثة.
بل بالأحرى… كنت أتعمّد تجنّب الخوض عميقاً في هذا الموضوع خشيتُ أن يؤدي اختلاف الآراء في مسألة حساسة كهذه إلى نزاع حقيقي.
“وما الرأي الأفضل برأي سموّك لحلّ هذه المسألة؟”
“أن يفسخا خطوبتهما، وأن يتقدّم الشاب ماستيرا لخطوبة السيدة ستارتي رسمياً وهكذا نعزّز علاقاتنا مع مملكة دالين أيضاً.”
“لكن أليست الآنسة ميلِيك لا ترغب في فسخ الخطوبة؟”
لو أرادت الآنسة ميلِيك ذلك، لكانت أنهت الأمر منذ زمن.
لكن يبدو أنّ الدوق لم يهتم كثيراً برغبتها الحقيقية.
“لو نظرنا إلى الأمر من تلك الزاوية، فحتى أصل الخطبة لم يكن قائماً على رغبة الآنسة ميلِيك إنه ارتباط لم تطلبه، وسيُلغى من غير إرادتها كذلك.”
“لكن هذا… غير عادل الآنسة ميلِيك لم ترتكب خطأ.”
كنت أعلم أنّ هذا الأمر خرج من أيدينا تماماً ومهما رأينا أنّ نتيجة معينة هي الأنسب، أو أنّ أحدهم أكثر خطأ من الآخر، فلن يغيّر ذلك شيئاً.
لكن ربما لهذا السبب تحديداً رغبتُ في سماع رأي الدوق فمهما قال الآن، لن يؤثر في موقفي ولن يغيّر سلوكي.
“هذا أيضاً من أجل الآنسة ميلِيك.”
صبّ الدوق لنفسه فنجاناً آخر من الشاي.
“أترين—هل يمكنك أن تثقي بالشاب ماستيرا؟ رجلٌ مخطوب، يخرج مع امرأة أخرى حتى تنكشف علاقته، ويتلقّى توبيخاً من الدوق نفسه، ومع ذلك لا يستطيع إنهاء تلك العلاقة، فيترك الأمر يتفاقم حتى يصبح مشكلة بين العائلتين؟”
بالطبع، لو كنت مكانها لما وثقتُ به لكن…
“ولكن الآنسة ميلِك… اختارت ألّا تفسخ الخطوبة رغم معرفتها أليس من الواجب احترام قرارها؟”
كنتُ أحسب أنّ مَن يتخذ قراراته بدافع العاطفة شخصٌ أحمق فإذا دخلت العاطفة في شؤون عامة، كنتُ أتجاهلها وأفرض رأيي.
لكن عندما تكون المسألة شخصية، كنت أحترم مشاعر أصحابها.
فحتى لو بدا لي أنّ هناك طريقاً أفضل، وحتى لو بدا قرارهم الأحمق حماقةً بالفعل، تظلّ تلك الحماقة من صنع إرادتهم.
ولكل امرئٍ، فيما أظنّ، الحقّ في أن يخطئ في حياته كما يشاء.
“في تلك السن يصعب اتخاذ قرار عقلاني على أي حال، حين تنتقل سلطة الحسم إلى ربّ الأسرة سيميل الأمر نحو فسخ الخطوبة فقد كان ارتباط عائلتي ميلِيك وماستيرا قائماً على تبادل المال بالمنزلة بما أنّ الشاب تسبّب في هذه الفضيحة، فلن يبقى مرغوباً كخاطب.”
كان كلام الدوق كله منطقياً.
فأسرة البارون ميلِيك التي حققت الثراء بالتجارة كانت تطمح إلى رفع مكانتها، بينما كانت أسرة الكونت ماستيرا المنهارة بحاجة إلى مال لإعادة بناء مجدها.
وإنما وقع الاختيار على الآنسة ميلِيك والشاب ماستيرا لأنهما مناسبان، لا لأن العائلتين كانتا مضطرتين للتقارب.
“ربما الآنسة ميلِيك تشعر بأنها مرفوضة فيُحزنها الأمر، لكن إذا نظرت من منظور بعيد، ستكون فسخ الخطوبة مع تعويض مناسب أفضل بل ينبغي لها أن تشعر بالامتنان أن الأمر لم يحدث بعد الزواج.”
ومن جهة عائلة ميلِيك، فالارتباط بشاب قد يخون مرة أخرى بعد الزواج أمرٌ غير محبّ، ومن الأفضل لها أن تبحث عن عائلة أفضل.
وأما عائلة ماستيرا، فابنهم هو المخطئ، ولا يملكون حجة تمنع الفسخ.
وباستثناء رأي الآنسة ميلِيك نفسها، يبدو أنّ فسخ الخطوبة القرار الأنسب عقلانياً بالنسبة للعائلتين وأنا أتفق مع ذلك منطقياً.
“يبدو أنكِ ما زلتِ غير مقتنعه.”
صحيح لم أكن مقتنعه
ففي النهاية، الطرف الأقلّ خطأً في كل هذه القضية هو الآنسة ميلِيك، أليس كذلك؟ الخاطب السيئ اختاره لها ربّ الأسرة، الخيانة ارتكبها الشاب ماستيرا، والشريكة هي السيدة ستارتي.
أما الآنسة ميلِيك، فقد فعلت ما طُلب منها فحسب، ثم انهار كل شيء من حولها، وحتى حقّ الاختيار سُلب منها.
“أترين أنّ الأمر غير عادل؟”
ولكنني أدركتُ أيضاً أنّه لا جدوى من مواصلة هذا الحديث.
فقد سمعتُ ما في نفس الدوق وفهمتُ كيف ينظر إلى هذه المسألة وهذا يعني أنّني حصلتُ على كل ما يمكن أن أحصل عليه من هذا النقاش.
“لم يعد لرأيي أيّ أثر الآن، أليس كذلك؟”
في الظروف المعتادة، كان ينبغي أن يأتي اعتراض من قبله، قائلاً إنّه سيجد طريقة ما مهما كان الأمر لكن ما جاء هذه المرة كان تأييداً.
“حسناً، هذا صحيح فلن يكون لرأيي أنا أيضاً أيّ قيمة بعد الآن.”
حقاً… فبعد أن وصلت الأمور إلى حدّ تدخّل الدول الأخرى، لم يعد هذا ملفاً يمكن لدوقٍ في الخامسة عشرة من عمره أن يسيطر عليه.
وحين أقرّ بهذه السهولة بما قلته الآن، فهذا يعني أنّ كلّ المرات التي قال فيها إنه سيتدبّر الأمر ما دمتُ أطلب منه… كان يعنيها حقاً.
شعرتُ بصدق مشاعره فجأة، فانفرجت شفتاي في ابتسامة خفيفة يا لسخريّة القدر… لم أصدق إخلاصه إلا عندما وصلتُ إلى موقف لم يعد فيه لرأيي أثر.
“إذن، ستتولّاه جلالة الأم الإمبراطورة؟”
“على الأرجح لا أعلم هل ستتولّاه بنفسها أم ستختار من تراه مناسباً وتفوّضه، لكن القرار في كل الأحوال سيكون لها.”
عندها فقط أدركتُ حقاً كيف تضخّم الأمر ككرة ثلج.
لو أنّ السيدة لم تصمّ أذنها عن نصيحتي، ولو أنّ الآنسة ميلِيك عملت برأي الدوق… لما بلغ الأمر هذا الحجم.
“إنه معقّد.”
“بل شديد التعقيد.”
ابتسم الدوق ابتسامة مرهقة.
أجل، بالرغم من كونه شخصاً بعقل راشد من عالم آخر، فهو الآن في جسد فتى في الخامسة عشرة.
ومثلما أشعر أنا بحدودي رغم امتلاكي قدرات وذكريات لي بايك ريون ، فلابدّ أنّ للدوق حدوده أيضاً.
وحين فكّرت في ذلك أحسستُ نحوه بشيء من الرقة.
“على الأقل، ما زال أمامنا بعض الوقت حتى ندخل الأكاديمية…”
حين وصلتُ إلى هذه الإمبراطورية في البداية، كان لي هدف واحد فقط: أن أعيش حياة هادئة قدر الإمكان وأن أملك من القوة ما يكفي لحماية الأطفال الذين كانوا تحت رعايتي.
لكن الأحداث أخذت تتغيّر… فمرة أعقد صفقة مع الإمبراطور، ومرة ألفتُ انتباه الإمبراطورة، وتغيّر مسار حياتي كلّه شيئاً فشيئاً.
وبرغم كل جهدي في إخفاء مواهبي، انتشر الخبر بأنّ ذهني متفوّق.
وفي هذه الحالة…
“إن كان هناك ما أستطيع مساعدتك فيه خلال هذا الوقت… فالرجاء أن تخبرني بلا تردّد.”
ما دامت غايتي الأولى قد انهارت، وأصبحتُ أنا والدوق نتشارك المصير ذاته، فهل من معنى بعد الآن لأن أستمرّ في إخفاء قدراتي بإحكام؟
طالما أنّني سأظلّ إلى جانبه، فما المانع من أن أجرّب تقديم بعض العون؟ ثم إنّ الدوق يقوم بحمايتي سواء فعلت شيئاً أم لم أفعل.
فهو لن يتخلّى عني لمجرد أنني أثبتُّ بعض مهارتي.
“إن كان بإمكاني أن أساعد، فسأفعل.”
وهكذا بدأتُ أفكر أنّه ربما لا بأس في أن أستخدم جزءاً من قدراتي… ليس من أجل تولا فحسب، بل من أجل الدوق أيضاً.
ضحك الدوق بالطبع وقال لي إنه لا يوجد ما يدعو للقلق ربما لأنه اعتقد أنني غير مهتمة بالساحة السياسية وأن اهتمامي منصب على الدراسة فقط، فقدم لي هذا الاعتبار.
لكن إذا عزمت أمري، فما من شيء لا أستطيع فعله.
أولاً، ستجد فانيا من هو خصمي ، ويمكن استخدام علاقاتي الأخرى لأغراض مختلفة، حتى لو لم يتمكنوا من إخباري عن الأوضاع الحالية للمجتمع الراقي.
ولهذا، ولأول مرة منذ مدة طويلة، قبلتُ دعوةً لحفلة شاي وصلَتني من أحد أبناء الإمبراطورية من أجل الدوق
التعليقات لهذا الفصل " 68"