كانت فانيا ستبحث لي عن المعلومات بكل سرور، لكن هذا لا يعني أنّ بإمكاني إصدار الأوامر لها كما لو كانت خادمة تحت يديرفالأفضل دائماً أن تأتي رغبتها في تقديم المعلومات من تلقاء نفسها.
لذلك أدّيتُ دور الفتاة التي تهاجمها مشاعر القلق قبل حفلة الديبيوتانت.
“هذا مختلف عن الحفلات السابقة التي لم يحضرها سوى من هم في سني أشعر بالقلق من الطريقة التي سيراني بها الكبار.”
وكان هذا بالطبع كذباً.
فأنا في الأصل أنسجم مع الأكبر سنّاً أكثر من من هم في سني أو أصغر مني بل إنّ انسجامي مع أبناء الأكاديميا كان من حسن الحظ ليس إلا.
لكن فانيا التي لا تعرف ذلك صدّقت كلامي ببساطة شديدة.
“آه، أعرف هذا الشعور أختي ووالداي يقولون إنني أبلي جيداً لأنني استقبلتُ الكبار الذين يزورون عائلتنا، لكن أولئك جميعهم أشخاص لهم وُدّ تجاه عائلتنا وليس لديّ يقين بأنّ الآخرين سينظرون إليّ نظرة حسنة، أليس كذلك؟”
هذا هو المطلوب تماماً لم أضيّع الفرصة، وأظهرتُ تعبيراً حزيناً فوراً.
“صحيح، صحيح. أنا أيضاً… خرجتُ مؤخراً مع صاحب السمو الدوق، والتقيتُ بالماركيز تشيس.”
“الماركيز تشيس؟”
اتسعت عينا فانيا دهشة.
أوه، لا شك أنّ هذا وجه مَن يعرفه.
“هل تعرفينه يا فانيا؟”
“أمم… بالاسم فقط.”
وهذا كان مؤشراً جيداً.
أصلاً لم أتوقّع أن أحصل من فانيا على أي إجابة فورية حين طرحتُ موضوع الماركيز تشيس.
كل ما توقّعته أن تقول شيئاً مثل سأبحث لك عن الأمر لكن بدا أنّ الحصول على المعلومات سيكون أسهل مما ظننت، وهذا جيد.
“أفهم ، أما أنا فكنتُ أراه لأول مرة ذلك اليوم، ويبدو أنّني ارتكبتُ خطأً ما فقد كانت نظرته نحوي قاسية للغاية.”
“آه، لعلّ ذلك بسبب……”
كانت فانيا تبدو في حيرة هل تقول أم لا تقول؟
ولإنهاء ترددها بسهولة، كان هناك أسلوب بسيط جداً.
“لا أملك أدنى فكرة عمّا ارتكبته من خطأ وحتى عندما سألتُ صاحب السمو الدوق، قال لي إنّ عليّ ألا أقلق… أخشى فقط أن أرتكب الخطأ نفسه في مهرجان الصيد……”
وكما توقعت، ذهبت فانيا تحاول تهدئتي بقلق واضح.
“صاحب السمو قال ذلك… لأنه على الأغلب ليس خطأك أنتِ .”
بالطبع، هذا صحيح فأنا لم أفعل شيئاً يخالف قواعد الآداب.
أو لنقل إنني لم أحصل حتى على فرصة لفعل شيء يخالفها فصاحب السمو لم يعرّفني بأحد، فكيف لي أن أتحدث أصلاً؟
لكن بدلاً من قول هذا، اكتفيتُ بابتسامة باهتة
“شكراً لك يا فانيا على مواساتك.”
وكان ذلك هو الحدّ الفاصل الذي لم تعد فانيا تتحمّله
“…لستُ أقولها مجاملة يا بلانش فالماركيز تشيس الذي التقيتِه هو شخص يعلن عدائه بوضوح لصاحب السمو الدوق ولهذا ربما تصرّف معك بتلك الطريقة.”
“علناً؟”
اتسعت عيناي دهشة وهذه ليست تمثيلاً، بل صدمة حقيقية.
يا للعجب، علناً؟ تجاه الوريث الفعلي للعرش؟ أهو يملك تسع أرواح؟ أم أنّه من مؤسسي الإمبراطورية حتى يعلو صوته على العائلة الإمبراطورية دون أن يجرؤ أحد على ردعه؟
لا، هذا غير منطقي فلو كان يملك كل ذلك النفوذ حقاً، لما استطاع صاحب السمو الدوق معاملته بتلك الطريقة أيُعقل أن يقف صامتاً بينما يوبّخه فتى في الخامسة عشرة أمام عينيه، ثم يتصرّف بجبن من وراء ظهره؟
وبينما كنت أحدّق بلا فهم، أكملت فانيا بانتقاء كلماتها بعناية.
“أمم… هل أقول علناً؟ لقد أعرب ذات مرة عن استيائه من كون صاحب السمو الدوق وريثاً للإمبراطور وقال إنّ صاحبة السمو الأميرة تتجاوز حدودها، وإنها متشبثة… لذلك أتذكر الأمر.”
بدأ رأسي يلفّ من هول الصدمة أعرب عن استيائه من الوريث؟ ألا يُعتقل بتهمة إهانة العائلة الإمبراطورية؟
“هل عائلة الماركيز تشيس من فروع العائلة الإمبراطورية؟ أم أن زوجته من أصل إمبراطوري؟”
“لا أظن فلقد قيل إنه يحمل ضغينة لأن ابنته لم تصبح ولية العهد لهذا فلا أظن أنّ له علاقة بالعائلة الإمبراطورية.”
“─آه.”
ما إن سمعتُ ذلك حتى اتضحت لي الصورة، حتى ولو بالمعلومات الناقصة.
الذي يكرهه الماركيز ليس الدوق، بل ليانا.
لقد سمعت أن الإمبراطور وليانا خطبا في سن مبكرة، وربما وجد الماركيز فرصة له عندما شاع خبر احتمال فسخ الخطبة.
فالعقم عيب كبير لمن تصبح وليّة العهد، ولعله رأى في ذلك فرصة لم تخطر له من قبل لكن الخطبة لم تفسخ.
لذلك يوجه نقمته نحو الدوق بلا سبب حقيقي فكونه الوريث جاء أساساً لأن ليانا عقيم.
هل يمكن أن تكون ابنته غير متزوجة حتى الآن؟ أم أنه يعلم أنّه حتى لو أُزيحت ليانا الآن فلن تصبح ابنته إمبراطورة، لكنه مع ذلك لا يزال يحمل ضغينة؟
ما زلت لا أفهم كيف لا يزال الماركيز خارج السجن، لكنني على الأقل حققت نصف ما أردته.
فقد تأكدتُ أنّ من يكرهني ليس فقط مَن يطمعون بمقعد دوقة ، ولا فقط مَن يكرهون الدوق نفسه، بل هناك أيضاً من يصبّ غضبه على الإمبراطورة ويُحمّل الدوق مسؤولية ذلك.
“لذلك لا تقلقي ما دام صاحب السمو قال إنّ الأمر بخير، فأنتِ بالتأكيد لم ترتكبي خطأ.”
ابتسمتُ ابتسامة مصطنعة رداً على كلمات فانيا المطمئنة.
“أمم، فهمتِ… لكن هل هناك الكثير من أمثال هذا الرجل؟ أشعر بالخوف حين لا أستطيع أن أعرف ما إذا كان الشخص يكرهني بسبب خطئي أو لا…”
وعند محاولة استدرار الشفقة، يجب أن يكون تعبير الوجه شديد الانكسار والحياء.
في حياتي السابقة، كنت أفضل أن أعضّ لساني وأموت على أن أستدر عطف أحد، لكن بما أنّ هناك كثيرين يريدون رؤيتي ضعيفة، فأنا أعرف تماماً كيف أبدو مثيرة للشفقة.
ويبدو أنّ وجهي في هذه الحياة أكثر قدرة على التعبير.
ولقد أتت تمثيليتي ثمارها، ففانيا أحاطت كتفي بذراعها.
“لا تقلقي! سألتقي بأختي وأسألها إن كان هناك أحد قد يكرهك ─أليس من الأفضل أن تعرفي مسبقاً؟ كي لا تقلقي؟”
إن أغلب معارفي من أهل الأكاديميا، وهم ليسوا بارعين في شؤون المجتمع الراقي فلا شأن للمكانة الاجتماعية هنا، فهؤلاء ضعفاء أمام الشائعات والسياسة.
ولذلك كانت مساعدة فانيا، المهتمة بشؤون المجتمع، ذات قيمة كبيرة لي.
“حقاً؟ شكراً لك يا فانيا ليس لي سواك أعتمد عليه.”
وهذا وحده لم يكن كذباً.
فحتى لو كان مسموحاً لي بالخروج، فما زلتُ في النهاية أجنبية عن المجتمع، ولا يمكنني معرفة شبكة الصراعات في الإمبراطورية وصاحب السمو لا يبدو راغباً في إخباري.
لهذا، في نهاية هذا الحديث المليء بالإيحاءات والأكاذيب، أظهرت شيئاً صادقاً تماماً.
وذلك من النوادر حقاً.
***
على الرغم من أنّ فانيا قالت إنها ستبحث لي عن المعلومات، فإنّ جمع كل تلك المعلومات يحتاج بطبيعة الحال إلى وقت.
وبينما كنتُ أنتظر أن تجمع فانيا ما تحتاج إليه وتستدعيني مجدداً، كنت منشغلةً بمختلف الاستعدادات، عاد إليّ أمر كنت أظن أنه خرج من يدي وانتهى.
“الآنسة ستارتي بعثت بخادمٍ تُفيد فيه برغبتها في لقائك.”
“فجأة؟”
كنتُ أظن فعلاً أنّ التحذير الذي أسديته لها سابقاً قد أنهى كل ما يتعلق بالآنسة ستارتي بالنسبة لي.
فهي التي لم تستمع إلى نصائحي المتكررة من قبل، فلن تستمع إليها الآن فجأة.
وفوق ذلك، بما أنني أخبرتها أنّ أي خطأ ترتكبه ستُحاسَب عليه، وسأستخرج لها حتى أخطاء العشر سنوات الماضية إن لزم الأمر، فلا بد أنها ستكون حذرة الآن.
ولا أظن أنها جاءت لتعتذر لعلّها تحتاج إلى مساعدة ما؟ وبالطبع لا يوجد لديّ أي سبب لأساعدها، لذا قلت باقتضاب
“أبلغوها بأنني سأتفقد جدولي أولاً ثم أقدّم لها الرد، ثم أعيدوها.”
وفي الحقيقة، كان بإمكاني أن أفرغ نفسي للقائها حتى اليوم نفسه فالمسافة بين قصر سبينيل وهذا المكان ليست كبيرة.
لكن ألا يبدو تصرفها وقحاً قليلاً؟ تتجاهلني عندما أقدم لها نصائح لا تريد سماعها، ثم ما إن تحتاج إليّ حتى تغيّر أسلوبها وتأتي راكضة؟
لا ينبغي السماح لها بالتصرف وكأن بإمكانها استخدامي كما تشاء متى احتاجت يجب أن نُبيّن بوضوح من هو الطرف الأعلى مكانة.
“نعم، مفهوم. سأبلّغها بذلك.”
راقبتُ تولّا وهي تستدعي الخادم الواقف بعيداً ليوصل الرسالة، وكنت راضية للغاية نعم، لا ينبغي لذراعي اليمنى تولّا أن تتولى مقابلة كل رسول شخصياً دورها هو الإشراف فقط، وهذا يكفي.
وحتى في مسألة نقل رسالة بسيطة، كان تصرف تولّا يروق لي تماماً، وهذا جعلني أشعر بالطمأنينة تجاه ترك القصر لها عندما أرحل إلى الأكاديمية.
وبعد إهمال الآنسة ستارتي على هذا النحو، حاولتُ القيام بما يشبه تبادل المعلومات تحت ستار تقديم تقرير إلى صاحب السمو الدوق.
فما دامت قد وصلت إلى مرحلة طلب مساعدتي، فلابد أنّ مشكلة ما قد حدثت ومن الطبيعي أن أستوضح الأمر وصاحب السمو الدوق يعلم حتماً ما الذي وقع، لذا يكفي أن أسأله ليخبرني.
“لا حاجة لك للقاء الآنسة ستارتي مرة أخرى ارفضي بحجة أنكِ مشغولة ولا وقت لديكِ.”
التعليقات لهذا الفصل " 67"