دخلتُ قصر سبينيل وقدّمت طلباً لمقابلة آنسه ستارتي.
“صاحبة السمو الآنسه غير موجودة حالياً سأبلّغها فور عودتها.”
كان ذلك ردّاً منطقياً فلو طلبتُ لقاءها في اليوم ذاته دون موعد، لكان من الطبيعي أن يُعدّ ذلك وقاحة تستحق الطرد.
لكن هذا الوضع استثناء بعد كل ما بذلته لربط مبعوثي السلام الأجانب بنبلاء الإمبراطورية، ترتكب فضيحة خيانة ثم تطالب الآن بالمنطق؟
لهذا جلستُ بوقار على أريكة غرفة الاستقبال.
“إذاً سأنتظر حتى تعود.”
لعلّ كبير الخدم ظنّ أني صغيرة فيتهاون معي، أو لعلّه فشل في ضبط ملامحه، إذ اضطرب تعبيره ابتسمتُ ابتسامتي الراقية التي صقلتها عشرة أعوام وقلت
“يمكنني الانتظار طوال اليوم، فلا تقلق كثيرًا اذهب وتفقد شؤونك..”
فلنجرب إن كان يملك الجرأة ليجعلني أقضي الليل في غرفة الاستقبال.
“─ تقولين إنكِ انتظرتِ؟”
كما توقّعت، لم تكن لدى الآنسه ستارتي الجرأة لتركِي مهمَلة، فظهرت خلال عشر دقائق.
كانت ترتدي ملابس منزلية، خلافًا لقول كبير الخدم إنها خرجت، لكنني لم أُثر هذه النقطة من المضحك أن أطالب الآخرين بالاحترام بينما أنا نفسي لم ألتزم به.
ودخلت مباشرة في الموضوع.
“هل قررتِ عدم الأخذ بنصيحتي؟”
ارتجفت كتفا آنسه ستارتي عند حديثي المفاجئ بلا احترام.
في الأصل، ترتيبات المبعوثين السلميين غامضة من حيث الهرمية فلا يمكن تحديد الاحترام فقط بناءً على كونه ملكياً أم لا، مع اختلاف قوة الدول.
لذا استخدمتُ الاحترام مع جميع المبعوثين؛ لكوني أصغرهم سناً أيضاً.
لكن هل يستحقّ شخص حاول تسميمي وسبّب هذه الفوضى أن أُظهر له أدباً؟ بالطبع لا خاصّة وأن مكانتي الاجتماعية أعلى، فالتحدّث بلا تكلف أيسر.
“ما… ما هذه الوقاحة─”
“ليست وقاحة فأنا شبهُ فردٍ من العائلة الإمبراطورية.”
من الناحية النظرية، أنا لستُ مخطئة بالنظر إلى خطبتي الشفوية للدوق الأكبر، فإنني في موقع لا أحتاج فيه إلى استخدام صيغة الاحترام إلا مع أربعة من أفراد العائلة الإمبراطورية المباشرين.
أشرتُ بذقني إلى المقعد أمامها، وهي ترتعش شفتاها
“ألا تجلسين؟”
ومع لهجتي المهيبة على غير العادة، جلستْ الآنسه ستارتي رغم انزعاجها وجرح كبريائها.
“… إذاً أتيتَِ لتقدّمِي لي نصيحة أُخرى اليوم؟”
حاولت التظاهر بالثبات وهي تفرد ظهرها، لكن ذلك لا يجدي معي.
“لا أهوى تكرار نصيحة لا يُستمع إليها جئتُ اليوم لأوجّه تحذيراً.”
“… تحذير؟”
“نعم.”
انحنيتُ إلى الأمام ولوّحتُ بيدي طالبة منها الاقتراب.
عبّست الآنسة النبيلة ستارتي لكنها انحنت طائعة وعندما اقتربنا لدرجة أن جباهنا كادت تتلامس، أمسكتُ بذراعها لتثبيت حركتها وأكملتُ حديثي
“… لأكون واضحاً تماماً أنتِ أكثر هشاشةً مما تظنين وبمعنى آخر لو حاولتِ تسميم الآنسة ميليك فسيبقى بلا شك دليلٌ خلفك.”
ربما لن تستخدم السم إن حاولت اغتيالها، لكني تعمّدت ذكر السم لأذكّرها بحادثة السنوات العشر الماضية.
“بل لا بأس حتى لو لم يَبقَ دليل هذه المرة فأنا قادر على تقديمه بنفسي … لذلك لا تفكّري بحماقات إن كنتِ لا تريدين أن ترتدّ عليكِ خطيئة عشر سنوات خلت.”
ارتجف جسد آنسه ستارتي وهي تحاول التراجع، لكني شددت على ذراعها مانعاً إياها.
فقد اعتدتُ التدريب سنوات طويلة، ولم أكن ضعيفه كما أبدو.
“م… ما…”
غالب الظن أنها كانت قد نسيت تلك الحادثة فقد مرّت عشر سنوات، وأنا لم أمت، ولم يظهر شيء للعلن.
ربما ظنّت أن السم أُعدّ بشكل سيئ، وأن المحاولة فشلت دون أن ينتبه أحد، فاطمأنّت ونسيتها.
وحتى لو تذكّرتها، فقد كنت أتجنّب ذكرها طوال فترة تقديمي النصائح، فربما اعتقدت أنه يمكن تجاهلها.
لكنني لم أستخدم تلك الحادثة كأداة تهديد سابقاً لسبب بسيط فالتعامل مع شيء حدث مختلف تماماً عن التعامل مع شيء لم يحدث بعد.
حادثة غامضة قبل عشر سنوات قد تصلح كتحذير للحذر، لكنها لا تصلح لإيقاف التهور.
لذلك حين طلبت منها قطع علاقتها بالسيّد ماستيرا، لم أذكرها… إلى اليوم، حيث وجب أن تُقال.
لا يمكنني إجبارهما على الانفصال، لكنني على الأقل أريد منع محاولة اغتيال ثانية.
“─ ألم يكن ذلك عندما لم تكوني قد تعلمتِ عن السموم بشكل صحيح بعد؟ لكنكِ تعلمين جيدًا الآن، أن السم يمكن حفظه لفترة طويلة”
حين شاع أنّ التعمّق في العلوم قد يمنح فرصة للخروج من القصر، بدأ المبعوثون، إلا من لا يحمل أي اهتمام، بدراسة شيء ما.
والشيء الذي اختارته الآنسه ستارتي كان السموم.
قيل إنها درست أساسياتها في بلادها لمنع الاغتيالات.
ومن تلك المعلومة أدركتُ كيف حصلت على سمّ غير قابل لتتبع مصدره، وإن كان مُعدّاً بشكل سيئ.
خلافًا للأميرة ديلارا التي حاولت الآنسة النبيلة ستارتي إلصاق التهمة بها في ذلك الوقت، لم تكن هي نفسها قد أجرت بحثًا صحيحًا، لذا ربما اعتقدت أنه لن تكون هناك أي شبهة عليها حتى لو مت أنا وبدأ التحقيق.
وهذا يُظهر أنها لا تُقدم على الجريمة دون تفكير.
فهي تُعدّ هدفاً لتحميله المسؤولية، وتُخفي صلتها بالأحداث قدر ما تستطيع وبالنسبة إلى فتاة في أوائل مراهقتها آنذاك، يمكن اعتبار ذلك بوادر مهارة
لكن ذلك لا يكفي مطلقاً ليكون جريمة كاملة فهي لم تُدرك أنني كنت أخفي معلومات، ولم تعلم أنني التقَيتُ الإمبراطورة لا الأميرة ديلارا في ذلك اليوم.
علاوة على ذلك، الأميرة ديلارا متخصصة في الأعشاب الطبية وليست خبيرة في التعامل مع السموم، والسم لم يكن مصنّعًا بشكل مثالي، ولذلك لو متُّ بالفعل وبدأ التحقيق، لكان التحقيق قد تركّز على غير المتخصصين.
هكذا، على الرغم من حماس الآنسة النبيلة ستارتي في التصرف، فإن نهاياتها تكون غير متقنة.
ولن أقول هذا لها، لكن حتى دون حادثة محاولة تسميمي، كان بإمكاني كشف أي جريمة ترتكبها.
ولكن، يبدو أن الأشخاص الذين لديهم موهبة غير متقنة في الجريمة يميلون إلى الاعتقاد بأنهم لن يُكشفوا أبدًا.
“تذكري جيداً ما فعلتِ ولتفكّري كم من الأدلة متراكمه ضدك ثم بعد ذلك، قرري خطواتك المقبلة.”
سيكون من الأفضل لو انفصلت عن السيد ماستيرا الآن وهدأت الفضيحة، لكن هل هذا مستبعد في هذه المرحلة؟
“في البداية كان الصمت، ثم النصيحة والآن بلغنا مرحلة التحذير وآمل ألا تكون هناك مرحلة تالية.”
وأعدتُ تأكيد أني لم أغفل عمّا حدث قبل عشر سنوات.
“وأعتذر لقدومي المفاجئ.”
ابتسمتُ ابتسامة هادئة وأفلتُّ ذراعها ربما ترك كدمة خفيفة بسبب ضغط القوة.
ولعلّ تلك الكدمة تُبقي التحذير حاضراً في ذهنها لأيام.
“سأغادر الآن لا حاجة لمرافقتي.”
وتركتُ الآنسه ستارتي متجمدة في مكانها وغادرت
***
منذ حفل ميلاد ليانا، بدأتُ أُخالط نبلاء الإمبراطورية إلى حدٍّ ما، غير أنّ علاقاتي ظلّت شديدة الضيق، بما أنّي لم أقم بظهور رسمي بعد.
فجميع من أعرفهم هم من أهل الجمعيات الأكاديمية، ولا سيما أولئك الذين في مثل سني، إذ ألتقي بهم كثيراً.
ولهذا السبب أصبحت معلوماتي محدودة بطبيعة الحال حتى إنني لم أعلم بوجود فئة تتجرّأ على الدوق إلا البارحة فقط.
كنتُ حتى الآن أظنّ أنّ الأمر لا يهمّ كثيراً.
فما دمتُ سأدخل المجتمع الراقي رسميًّا في النهاية، فسيأتي الوقت الذي أتمكّن فيه من الحصول على المعلومات بسهولة، ثم إنّ الالتحاق بالأكاديمية يعزلنا عن العالم الخارجي، فظننتُ أنّ بذل الجهد في جمع المعلومات بعد التخرّج لن يكون متأخّراً.
غير أنّ رؤية ماركيز تشيس جعلتني أدرك أنّ هذا التراخي قد يأتي متأخّراً بالفعل.
في إمبراطورية جين، كانوا يظهرون بعض التسامح مع القاصرين الذين لا يشغلون مناصب رسمية، ولكن يبدو أن الأمر مختلف هنا.
تنهدتُ قليلاً بضيق على أي حال، يتصرف الكبار بطريقة لا تليق بسنهم ويسحقون الأطفال كالفئران بالطبع، هذا الطفل ليس طفلاً حقيقيًا، ولكنهم لا يعرفون ذلك، لذا فالوضع لا يختلف.
على أية حال، كل هذا قادني إلى استنتاج مفاده أنه يجب عليّ جمع بعض المعلومات.
وأفضل من يمكنني الحصول منه على معلومات عن الإمبراطورية هو، بطبيعة الحال، فانيا فالعلاقة بيننا وثيقة جدًّا، ومن السهل ترتيب موعد معها.
وفانيا، التي كانت ترغب في مساعدتي في ظهوري الأول، ستبادر إلى مساعدتي بلا شك.
رغم أنني لست متأكدة من استمرار هذه الصداقة بعد عام من الآن، إلا أنني لا أشك في أن فانيا تعتبرني أفضل صديقة لها في الوقت الحالي، ولذلك سارعتُ لتحديد موعد معها فورًا.
التعليقات لهذا الفصل " 66"