فكَأنّ الدوقَ قد خمّن ما أردتُ قوله، فأطلق ضحكةً مبهجة وربّت بخفةٍ على رأسي.
“ليتَ الجميع يتصرّفون بعقلانيةٍ مثلك.”
“وأنا حقّاً أوافقك الرأي.”
لقد كنتُ صادقة فما كان يُوقِعني في المآزق دائماً هو مشاعر الناس.
فلو حكموا الأمور بعقلانية لعلموا أن اتباع رأيي هو الأفضل، لكنّهم كانوا ينساقون وراء مشاعر مجهولة الدافع ثم يعارضون لا غير.
في حياتي الحالية، كانت الآنسة ستارتي كذلك، وفي حياتي السابقة كسياسية، كان معظم ما فعلته هو قمع الموظفين الذين كانوا يتمرّدون عليّ لأسباب عاطفية لا أكثر.
ولذلك كان من السهل عليّ أن أتعاطف مع الدوق.
“إذن، هل يفكر سموّك — بهذه المناسبة — في إسقاط أولئك الذين يعصون أوامرك؟”
إن كان الأمر كذلك… أليس ما فعله قبل قليل أسوأ استراتيجية ممكنة؟ فالتصرّف وفق مزاجه يعطي انطباعاً سيئاً، وقد لا يجرّ إلا مزيداً من التمرّد وبينما كنت أميل رأسي بتساؤل، ابتسم الدوق ابتسامةً غامضة.
“أنسيْتِ ما قلتِه أنتِ قبل قليل؟ أنا وليّ العهد بلا منازع.”
“ولهذا السبب بالتحديد…”
كنتُ أتابع الحديث حين أدركتُ فجأة قصد الدوق يا إلهي… لو كان هذا صحيحاً فطباعه سيئة للغاية ضيّقتُ عينيّ وطالبته بإيضاح.
“هل تقصد أنك افتعلت كل ذلك عن عمد؟”
كانت ابتسامته الماكرة أشبه بجواب صريح تنهدتُ بعمق.
فمعنى ذلك أنّ الدوق كان يتعمّد التظاهر بدور طاغية غبيّ ومتعجرف ينجَرّ خلفي بسهولة.
ليجعل خصومه يستهينون بقدراته ويغفلون عنه… وليجعلني ــ أنا التي لا أملك شيئاً ــ تبدو وكأنه شخص يجب الحذر منه.
“لا أعلم إن كان يجب أن أشفق عليهم…”
لقد خرج هذا عن لساني بصدق.
فمن جهتي، كان هذا الأسلوب فعّالاً للغاية، إذ يمكنني بثّ التوتر فيهم من دون أي قوّة حقيقية لكن من جهتهم، فهذه الخدعة لا تختلف عن كونها سخرية موجهة إليهم.
“لماذا؟ أليس هذا جزاءً مستحقاً؟”
قال الدوق وهو يلمس ذقنه ضاحكاً.
“لقد استهانوا بي، فلابد أن أسمح لهم بأن يستهنّوا بما ظنّوه وفي النهاية لن يتبقّى لهم سوى واقع يفرض عليهم الانحناء لي أليس أدعى للمهانة أن يدركوا أن الشاب الذي حسبوه تافهاً لا قيمة له… كان في الحقيقة يحكمهم من فوق رؤوسهم منذ البداية؟”
لم يعد بوسعي سوى التنهد لا أعلم إن كان يجدر بي اعتبار هذا أمراً جيّداً لأنه يحدث قبل أن يصبح إمبراطوراً… أم اعتباره نذير سوء لأن شخصاً ليس طاغية يقلّد تصرّفات الطغاة لمجرد… المزاح مع موظفيه.
“لماذا؟ هل ستمنعني؟”
نظر إليّ الدوق بعينين متلهفتين لو طلبتُ منه التراجع… هل كان سيستمع إليّ؟ وهل يجب عليّ أن أوقفه أصلاً؟
“لا، ليس بالضرورة.”
فالعجز عن قراءة الدوق بوضوح، والجرأة على إظهار أنيابهم أمام سيدهم… كِلاهما خطؤهم وانسحاق كبريائهم ليس إلا عقاباً لطيفاً مقارنة بما كان يمكن أن يحدث.
وفوق ذلك، لا توجد لديّ أيّ أسباب حقيقية تدفعني لمنع الدوق عن قراره.
فهو لن يتصرّف كطاغية حقاً، وليس مجرّد تقمّصه لدور إمبراطور ضعيف منقاد خلف امرأة سيُزلزل الإمبراطورية قطعاً لا.
وهل لدي سبب لأقدّم نصائح حول تصرفات ولي العهد؟ لا، ليس لديّ.
فأنا لستُ من رعاياه قد أقسمت الولاء للدوق، بل مرشحة لأن أكون زوجته.
ولو كان للدوق ميول طاغية، أو إذا كان سيتخلى عن شؤون الدولة بسبب صراعات الكبرياء بعد اعتلائه العرش، لكان الأمر خطيراً لكن مما قاله قبل قليل، يبدو أنّه يخطط لاستغلال كامل قدراته بعد أن يصبح إمبراطوراً.
فإن كان الأمر كذلك، فما الضرر في أن يتصنّع بعض الضعف خلال سنوات مراهقته؟
“إن كان هذا ما يرغبه سموّك ، فسأتّبعه وسأساعدك.”
وعلى خلاف ما يحدث مع الوزراء الفاسدين الذين رأيتهم في حياتي السابقة، لم أشهد قطّ امرأة فاتنة تتسبب في سقوط دولة إذن… يمكنني اتباع الأسلوب الذي استخدمته قبل قليل فحسب.
“مرّ عقد من الزمن… وما زلتِ حقاً…”
توقف الدوق عن حكّ ذقنه والتفت إليّ بذلك النظر الذي رافقني في السنوات العشر الماضية– نظرة ضجرٍ لذيذة، وضيقٍ ممتع.
أصبحت معتادة عليه حتى لم يعد يحرّك فيّ شيئاً.
“لم تتغيري قط ─وأنتِ تعلمين أنني لا أحب أن تنفذي كلامي طوعاً هكذا.”
“لكنني لا أنفّذه طوعاً.”
أجبته من دون أن أتراجع.
“نحن نمضي معاً لأن أهدافنا، في النهاية، تتوافق.”
نصف هذا صحيح، والنصف الآخر مجرد مبرر.
فأنا، على عكس حياتي السابقة التي كنتُ فيها محاصَرة، لا أرغب في استعراض كامل قدراتي الآن.
لكنني أريد حماية تُولا، وبسبب الظروف بات لي ارتباط بأربعة من أفراد الأسرة الإمبراطورية، فلم يعد بإمكاني اختيار حياة هادئة في الظل.
لذلك رأيت أن تقمّص دور المحظية المتدلّلة المتعجرفة، معتمدةً على محبة الدوق، قد يكون خياراً مناسباً.
وهو خيار ما كنتُ لأختاره أبداً لو لم يختر الدوق هذا الطريق أولاً فأنا لا أزال لست متأكدة إن كنتُ سأحسن أداء هذا الدور حقاً.
لكن بما أن الدوق قال إنه لا يحبّ انصياعي التام، فلا بأس أن أختلق بعض الحجج لأخفي السبب الحقيقي.
وبالنسبة لي… ما دمنا سنصل في النهاية إلى ما يريده الدوق، فما جدوى إهدار الطاقة في جدال لا طائل منه؟
“أليس غريباً أن لسانك يزداد حدة كل يوم؟”
ابتسمتُ له بهدوء.
“وكذلك طولي قد ازداد.”
أما الفصاحة، فلطالما كانت مكتملة، وإن تراجعت يوماً، فقد تتراجع، لكنها لن تزداد فجأة.
“حقاً؟ لا يبدو أنكِ قد أطولتِ كثيراً.”
لوّح الدوق بيده بالقرب من رأسي.
“ذلك لأنكِ، يا سموّك، تنمو أسرع مني، لذا لا يظهر الفرق.”
فإن كان كلاهما في سنّ النمو، فمن الطبيعي ألا يلحظ أحدهما تغيّر الآخر.
“آه… هذا صحيح.”
تفحّصني الدوق من جديد بنظرة هادئة، من أعلى رأسي حتى أسفل قدمي، كأنما يقارن ملامحي بما يختزنه من ذكريات قديمة.
“─صحيح، كلامك في محلّه لقد ازددتِ طولاً بالفعل.”
“فنحن نعرف بعضنا منذ عشر سنوات، يا سموّك.”
أعاد الدوق ظهره إلى الخلف بعد أن كان مائلاً نحوي.
“عشر سنوات مرّت بالفعل؟ كأنني عرفتكِ أمس فقط.”
ولعله كذلك لأننا، كلانا، نحمل ذكريات حياة سابقة… فالعشر سنوات عند طفل في الخامسة تختلف تماماً عن عشر سنوات يشعر بها بالغ ناضج.
“حقاً… يمضي الزمن سريعاً.”
لكنني ما زلت أخفي عنه كوني منبعثة من حياة أخرى، لذا صرفتُ الحديث سريعاً.
“صحيح… أثناء عودتنا، هل يمكن أن تُنزلني في قصر سبينل بدلاً من قصر جاسبر؟”
وقصر سبينل، بطبيعة الحال، هو المكان الذي تقيم فيه الآنسة ستارتي قطّب الدوق جبينه قليلاً.
“مرة أخرى؟ مع أنها لا تستمع لك أصلاً لم يعد هناك داعٍ لإضاعة جهدك.”
وكان محقّاً.
إن وصلت الأمور إلى هذه المرحلة وما زالت ترفض الإصغاء، فهذا يعني أنها لا تنوي الإصغاء من الأصل.
“مع ذلك… أشعر أن عليّ فعل ما أستطيع فعله، فحسب.”
لم أكن ذاهبة لأجلها هذه المرّة كي أحثّها على إنهاء علاقتها، فحسب.
“حقاً، ما أشدّ حسّ المسؤولية لديك فتاة على علاقة برجل مخطوب من غيرها ليست مما يجب أن يشغلك.”
على ما يبدو، اعتقد الدوق أنني قلقة على الآنسة ستارتي، فعبّر عن ذلك بنبرة استخفاف لطيفة.
لكنني لم أكن قلقة عليها.
كنت قلقة مما قد تفعله هي بالسيدة ميلِيك…
ومن الجرائم التي قد ترتكبها، ومن الفوضى التي قد تتبع ذلك—فوضى قد تتجاوز قدرتنا على احتوائها.
قبل عشر سنوات، حين كانت الأمور أبسط وأصغر بكثير، لم يكن لدى الآنسة ستارتي مبرّر وجيه لمحاولة قتلي.
أقصى ما يمكن ادعاؤه أنّ الإمبراطورة آنذاك منحتني بعض الاهتمام.
لم أتحدّث معها مطلقاً على انفراد، ومع ذلك… فكّرت بقتل طفل لم يتجاوز الثالثة.
والآن؟
هي في علاقة محرّمة مع شاب مخطوب، وترفض الانفصال عنه رغم كل النصائح التي سيقت إليها.
والنتيجة المتوقعة؟
واضحة كالشمس لا أرى إلا مستقبلاً تحاول فيه الآنسة ستارتي اغتيال آنسة ميليك.
وسيُكشف الأمر عاجلاً أو آجلاً… نجاحاً كان أو فشلاً.
وإن وصلت الأمور إلى هناك، فلن يكون من السهل إصلاح أي شيء بعدها.
لهذا أردت أن أوقف الانهيار قبل وقوعه، وأيضاً من دون إعادة فتح ملفّ محاولة تسميمها لي قبل عشر سنوات.
“لا تُحمّلي نفسك ما لا طاقة لك بهرحتى أنا فشلت في إقناع الشاب ماسّتيرا.”
وجّه الدوق العربة نحو قصر سبينل كما طلبت، وقال هذا الكلام وهو لا يعلم شيئاً عن نواياي الحقيقية.
قال إن الفشل لا يهمّ.
لكن الفشل، في الواقع، يعني واحداً من ثلاثة مصائر… وربما ثلاثتها معاً.
غير أن قول ذلك لم يكن ممكناً بالطبع.
“أجل، سأحاول فقط أشعر بالانزعاج إن لم أفعل شيئاً، هذا كل ما في الأمر.”
اكتفيت بابتسامة صغيرة أُخفي بها الحقيقة، ثم نزلت من العربة عندما توقفت أمام القصر.
آه حقاً… لستُ أفعل هذا لأجل الآنسة ستارتي، ومع ذلك فإنني، بطريقة ما، أبذل جهدي لإنقاذ حياتها من حبل المشنقة.
كان يجدر بها أن تقدّر هذا على الأقل.
تنهدت في داخلي فقط، ثم مضيت أدخل قصر جاسبر…
لأحافظ، بيدي أنا، على حياة من حاولت تسميمي يوماً ما.
التعليقات لهذا الفصل " 65"