في الواقع، لا يهمني أن شائعة الخلاف مع الدوق لم تنته بعد.
فحتى لو لم يكن الدوق ليلغي الخطوبة بسبب شائعة كهذه، وحتى لو أُلغيت، يكفي أن أعيش بهدوء دون الظهور في المجتمع الراقي للإمبراطورية.
ولكن بما أن الدوق يريد إنهاء هذه الشائعة من أجلي، فعليّ أن أستجيب لرغبته.
يجب أن نترك لدى الجميع انطباعًا بأن علاقتنا ممتازة، وأن هذا الخروج ممتع للغاية لدرجة أنهم لا يستطيعون احتمال النظر إلينا.
ولكي نترك هذا الانطباع على نطاق واسع، فهذا يعني أن هذا الخروج لا يمكن أن يقتصر على مرة واحدة.
آه، ويُفضَّل أن يتوقف الطرف الآخر سريعًا عن نشر الشائعات التافهة.
الخروج للتظاهر ليس صعبًا، لكنه فارغ من الداخل ولا يحمل أي متعة حقيقية.
“حسنًا، هل استعددتِ ذهنيًا؟”
بينما كنت أفكر في كل هذه الأمور، توقفت العربة أمام دار الأزياء مدّ الدوق يده إليّ، وأخذت نفسًا عميقًا وابتسمت ابتسامة عريضة قدر الإمكان.
“ما رأيك ؟ أبدو سعيدة؟”
على عكس ابتسامتي التي لا يمكنني التأكد من جودتها، ابتسم الدوق ابتسامة ناعمة وكاملة قبل أن يقبّل ظهر يدي بخفة.
“نعم، تبدين جيدة.”
كان هذا مطمئنًا نزلت من العربة مع الحرص على عدم انخفاض طرف فمي.
“لقد كنا في انتظاركم.”
حين نزلت من العربة، كان موظفو دار الأزياء في استقبالنا.
… كم مرة سأضطر لتكرار هذا؟ لم يكن من السهل أن تكونِ المرشحة لدوق، حقًا.
ابتلعت تنهيدة في داخلي.
ربما كانت مهامّ العمل أخف هذه الأيام، لكن المتعة كانت أكبر في أيام عملي كمستشارة.
مع هذه الأفكار، دخلت وجلست، وإذا بي أمام عشرات الملابس المعروضة، متشابهة إلى حدٍّ ما.
عند اختيار الملابس، تحدث نفس السيناريو دائمًا هل يمكن ألا يلاحظ أحد لو وصلتني قطعة مختلفة عن التي اخترتها؟ وبينما كنت مستغرقة في هذه الشكوك، بدأ الموظف بالشرح.
“أولًا، هذا التصميم هو الأكثر رواجًا هذا الموسم ما رأيكم فيه؟”
“لا أريد ملابس يرتديها الجميع أزيلي الشائع منها وأحضري شيئًا أكثر تفردًا.”
تمت إزالة خمس قطع وبالطبع بقيت قطع كثيرة، لذا لم يكن الاختلاف واضحًا.
“إذًا، ما رأيكم بهذا التصميم؟ إنه التصميم المميز لدارنا.”
“أليس التصميم المميز عادة مشابهًا لما يعرض كل عام؟ إذا اعتاد الناس عليه، فلن يكون له أي ميزة كتصميم رائج هذا الموسم.”
“حسنًا، ماذا عن هذا التصميم الجديد؟”
“من صممه؟”
“مصمم ناشئ صاعد ربما لم يسمع عنه صاحب السمو بعد…”
“هذا يعني أنه بلا خبرة لا أريد أن يظن أحد أنني أجبرت بلانش على ارتداء أي شيء اخترت دار أزياء عريقة، يجب أن تُظهر الملابس مستوى الدار.”
حتى أنا شعرت أن مطالبي كانت صارمة بعض الشيء لا أحب الرائج، ولا القديم، ولا الجديد، ومع ذلك ظل الموظف مبتسمًا باحترافية دون أي تردد
“ماذا عن إعادة تفسير تصميم قديم بطريقة مبتكرة؟”
“هممم، جيد دعنا نرى.”
كم كنت ممتنة لعدم اضطراري للتصرف بتعقيد شديد.
قبل أن ندخل، كنت قلقة بشأن قدرتي على الابتسام بشكل طبيعي، لكن رؤية الدوق وهو صارم مع الموظف جعلني أشعر بالارتياح لكوني مجرد مبتسمة.
ابتسمت بارتياح داخلي، وراقبت الموظف وهو يبدّل الملابس ليُظهر لنا اختياراته.
بينما كنا نواصل التسوق التمثيلي، ظهر فجأة صوت رجل ناضج، ليس صوت الدوق ولا الموظف، في أذني.
“أوه، يا للعجب! أليس هذا صاحب السمو الدوق؟”
كنا نختار الملابس في غرفة خاصة، لكن الباب مفتوح، لنُظهر للآخرين أننا هنا.
كان صاحب الصوت يقف وراء الباب المفتوح، يطل نحونا بنظرة ثابتة نظر الدوق إلى الشخص الذي خاطبه بنفس برودة نظراته وهو يتفحص الملابس.
“من هذا، أليس هو الماركيز تشيس؟”
“إنه لشرف لي أن تتذكر اسمي، يا صاحب السمو.”
ارتسم على وجه الدوق الشاب ابتسامة ساخرة خفيفة.
“صعب أن أنسى، أنت مميز فليس كثيرون هم من يتجرؤون على مخاطبتي دون إذن.”
ارتعش وجه الماركيز تشيس قليلاً أما أنا، فجلست بجوار الدوق بهدوء، مبتسمة كما أنا دائمًا.
“…أعتذر لم أكن أظن أنني سألتقي بصاحب السمو هنا، لذا…”
“إذا فوجئت مرتين، فستبدأ باستخدام الكلام العادي، أليس كذلك؟”
أظهر الدوق موقفًا أكثر جرأة مما رأيته عليه من قبل وربما لم يكن السبب كونه أمام شخص بالغ فقط ربما يكون هذا أحد الذين نشروا شائعات الخلاف بيننا.
لكن حتى مع ذلك، كان موقف الدوق مفرطًا في الجرأة هذا على الأرجح…
أمسكت بلطف بالقرب من كوع الدوق.
“يا صاحب السمو، بلانش ترغب في إكمال النظر في الملابس.”
كما توقعت، نظر إليّ الدوق على الفور بابتسامة تذوب معها القلوب، وهو ينظر إليّ من فوق.
“آه، عذرًا لقد قررت اليوم أن أركز اهتمامي على بلانش فقط، لكنني سمحت لنظري أن يلتفت للحظة.”
كما توقعت، كان يبدو أنّ الدوق الأكبر يريد أن يرسّخ لدى من حوله صورة الدوقة الكبرى وهي تُحكِم السيطرة على الدوق الأكبر المتعجرف، وكأنّه بين يديها وتديره كما تشاء.
ورغم أنّني شعرت أنّ تلك الصورة ليست بالجيّدة كثيرًا، إلا أنّه ما دامه يرغب بذلك، فمجاراة إيقاعه لم تكن بالأمر الصعب.
“كما سمعت، إنني اليوم مشغول قليلاً فإن لم يكن لديك ما تضيفه، فالأفضل لك أن تنصرف وتتابع شؤونك.”
أمام هذا الأمر الصريح بالطرد، حيّا الرجل بنظرات جامدة، لكنه فعل ذلك بتهذيبٍ مبالغ فيه، بل بقدرٍ من اللطف يفوق ما تقتضيه المواقف العادية.
“أعتذر عن قلّة الاحترام ─آمل أن تتاح لي فرصة أخرى كي أحيّيكم.”
وكانت نظراته موجّهة إليّ مباشرة كانت تلك إشارةً التفافية إلى أنّه لم يَحظَ بفرصة السلام عليّ، لكنني تظاهرت بعدم ملاحظة نظرته ومن قال له أن يجرؤ على إغضاب وليّ العهد؟ إن كان لديه اعتراض، فليعلن اعتراضه بصراحة إذن.
“أريني ذلك الثوب الذي رأيناه قبل قليل مرة أخرى نعم، ذاك ……ما رأيك لو أضفنا بعض الدانتيل هنا؟”
ويبدو أنّ الدوق الأكبر فكّر كما فكّرت، فتظاهر هو الآخر بعدم ملاحظة الأمر.
“أظنّ أنّ ذلك سيُبرز لطافة سموّ الأميرة أكثر لحظة واحدة، سأريك ما أعنيه ─أحضِري قطع الدانتيل.”
واكتفى الموظّف بالاستجابة باحترافية أكبر قليلًا لتعليمات الدوق الأكبر الدقيقة.
أمّا أنا، فلم يكن يهمّني إطلاقًا إن صُنِع الثوب من الدانتيل أو أضيف إليه، ولكن بما أنّه لا يجوز أن يظهر ذلك على وجهي، فقد أومأت وكأنّني مهتمّة للغاية.
وانتهى تسوّق اليوم بشراء بعض الفساتين والإكسسوارات التي لن تُستعمَل في مهرجان الصيد.
ولأنّنا اخترنا قطعًا مرتفعة السعر، فإنّ متجر الأزياء نال أجره كاملاً مقابل مشاركته في هذا التمثيل.
ولحسن الحظ، وبما أنّني اكتفيت بالتحديق بعينين لامعتين طوال الوقت، بقيت لديّ طاقة للكلام حتى بعد صعودي العربة ولهذا فما إن جلست في الداخل حتى طرحت السؤال الذي ظلّ يشغلني.
“ذلك الماركيز تشيس، هل هو مصدر الشائعات؟”
“من يعلم ؟ هو أحد المرشّحين على الأقل.”
قال الدوق الأكبر ذلك بلا اكتراث وهو يقلّب قائمة محلات الأزياء التي سنقصدها لاحقًا تردّدت للحظة في الكلام، ثم فتحت فمي، إذ وجدت أنّه من الضروري فهم الوضع جيدًا.
“كنتُ أظنّ أنّ من ينشرون شائعات الخلاف كلّهم أعداء لي.”
“أجل، ربّما لا يحبّونك.”
ولم يكن ذلك خطأً.
كانت نظراتهم تجاهي غير لطيفة لكنّ ما أردت قوله كان شيئًا آخر.
“وظننتُ أيضًا أنّهم يحبّون سموّ الدوق الأكبر.”
عندها فقط أسدل الدوق الأكبر القائمة ونظر إليّ مباشرة وسأل بصوت يختلط فيه الضحك ببراءة شبابية
“ظننتِ أنّني شخصية محبوبة للغاية، أليس كذلك؟”
محبوب؟ ذلك وصف لا يليق بملك فانتقيتُ كلماتي قليلًا قبل الرد.
“بدقة أكثر، كنتُ أظنّ أنّ الجميع يطيعون سموّ الدوق الأكبر طاعةً تامّة.”
فقد حدثت طفرة التقدّم العظيمة لإمبراطورية رتايل في عهد الإمبراطور السابق.
والإمبراطور الحالي يحافظ على حكم راسخ ومستقر منذ عشرة أعوام، والدوق الأكبر هو وريث العرش الوحيد بلا منازع بل ووريث ممتاز وصحّته جيدة.
وفي وضعٍ كهذا، من الطبيعي أن تبلغ سلطة العرش ذروتها، وأن تكون مكانة وليّ العهد في أعلى مراتبها.
وتوقّعي بأنّ النبلاء سيرتعشون أمام الدوق الأكبر كان استنتاجًا منطقيًا للغاية.
“فسموّ الدوق الأكبر هو بلا شكّ الإمبراطور القادم.”
حتى فانيا، التي لم تدخل المجتمع الراقي رسميًا بعد، باتت الآن تعرف كيف تتحفّظ أمام الدوق الأكبر فكيف يجرؤ رجلٌ ناضج، خبر الساحة السياسية وخبر خفايا الأمور وتعقيداتها على إبداء هذا القدر من قلّة الاحترام؟ حقًّا، كان أمرًا يتجاوز فهمي.
“ولهذا بالذات.”
رفع الدوق الأكبر كتفيه بلا مبالاة.
“ربما يظنّون أنّهم بكسر حدّتي الآن سيتمكّنون لاحقًا من التحكّم في الإمبراطور القادم.”
فخرجت مني ضحكة قصيرة لا إراديًا.
“يا لها من……”
يا لها من فكرةٍ سخيفة.
ولكن، ورغم أنّ المستمع لم يكن سوى الدوق الأكبر، ابتلعت بقيّة الجملة.
فلم أكن أعرف ما إن كان انتقاد نبلاء الإمبراطورية تصرّفًا حكيمًا حقًا البلاغة فضّة، والصمت ذهب ويبدو أنّ الحكمة التي مضى عليها ألف وخمسمئة عام لم تتغيّر أبدًا.
التعليقات لهذا الفصل " 64"