في الأصل، كان الدوق الأكبر إذا احتاج شيئًا يستدعي التاجر إلى القصر، حتى بالنسبة للأشياء التي أحتاجها أنا ذلك كان أفضل من ناحية الأمان وأكثر راحة أيضًا.
ولكنه اختار أن يتسوق خارج القصر، ليُظهر للآخرين صورتنا معًا.
بالتأكيد سيأتي النبلاء الآخرون إلى المتجر لشراء مستلزماتهم لموسم الصيد، ومن المحتمل أن يلاحظونا حينها، وسيكون من السهل أن يظهروا توددنا بطريقة طبيعية.
مع ذلك، استطعت أن أفهم سبب طلب الدوق الأكبر تعاوني في هذا الأمر لأنه يعرف أن التسوق مُرهق بالنسبة لي.
ربما اعتقد أن الجمع بين عناء التسوق والتنقل سيكون عبئًا عليّ.
“أعلم أن التسوق مُرهق لك، لكن علينا أن نظهر انسجامنا أمام الآخرين، لذا عليك أن تتظاهرين بالاستمتاع قليلًا.”
ابتسمت ابتسامة مُرّة وأشرت إلى نقطة غفل عنها الدوق الأكبر
“صاحب السمو، لو اخترنا الملابس داخل القصر، لكانت مارتينا حتمًا قد ساعدتني، أما التسوق معك بمفردي فهو أسهل بكثير.”
مارتينا أكبر مني بثلاث سنوات، لكن حفل ظهورها الأول في المجتمع سيكون العام القادم.
ولهذا السبب كانت عازمة على بذل كل طاقتها في الاستعداد لحفلي أنا هذا العام.
كانت نيتها لطيفة وجميلة، لكن مجرد التفكير بالأمر يُتعبني — إذ عليّ أن أقرر كل صغيرة وكبيرة، رغم أن كل شيء يبدو متشابهًا في نظري.
مثلًا، الاختيار بين الدانتيل والكشكشة رغم اختلاف طريقة صنعهما، عند ربطهما على الملابس يصعب التمييز بينهما، فلماذا يجب أن أفكر كثيرًا في إضافة الكشكشة على الأكمام أم الدانتيل؟ أليس من الممكن اختيار أيّ منهما؟
في هذا الصدد، كان التسوق مع الدوق الأكبر مريحًا.
كان يختار لي ما يليق بي، ويترك ما لا يعرفه للخبراء، أما أنا فكل ما عليّ فعله هو أن أبدو كعارضة، وهذا جعل الأمر أسهل نفسيًا.
“لحسن الحظ، إذًا ينبغي أن نشكر الآنسة مارتينا على ذلك”
ثم رقّت ملامحه قليلًا، ومدّ ظهر أصابعه فلامس وجنتي بخفة وهو يهمس
لو كان ذلك في حياتي السابقة، لكنت انهرت من فرط الحرج، لكن بما أنني تناولت الطعام بيده للتو، فليس ثمة ما أستطيع الاعتراض عليه الآن.
“لكن إن شعرتِ بالتعب فأخبريني هذا من أجلك، ولا ينبغي أن يصبح عبئًا عليك”
كنت قد قررت في البداية أن أعيش بهدوء وأتجنب كل ما قد يجلب المتاعب، لكن أن أتركه يقلق عليّ دون أن أفعل شيئًا جعل ضميري يؤنبني قليلًا.
صحيح أنه يظن نفسه عائدًا من حياة سابقة وأنا لست كذلك، لكنه يعاملني كما يُعامل الكبار الأطفال — بينما في الحقيقة كلانا عاش حياة طويلة من قبل.
لتخفيف شعوري بالذنب، سألت
“وهل أنت بخير، سموك ؟ فقد أصبحت تختار ملابسي معي أيضًا.”
“لذلك، على الأرجح لن تكون الأزياء التي سنراها على أحدث طراز بين الشابات لكن إن ساعدتنا الآنسة مارتينا، فسيكون ذلك نافعًا.”
“لا بأس، لا يهمني الأمر.”
فأنا لم أكن أبدًا من متابعي الموضة في حياتي السابقة، وكان ردي الحازم واضحًا للدوق الأكبر، فابتسم ابتسامة صافية
“صحيح، فنحن لسنا ممن يتبعون الموضة، بل نحن من يصنعونها.”
لكنني فكرتُ بسخرية: لو أنني أنا من يصنع الموضة، فلن تعود موضة أصلًا — فأنا لا أغيّر أسلوبي لعشر سنوات على الأقل.
شربت فنجان الشاي وأنا أفكر في هذه الأمور التافهة.
همم… من الجيد أنني لم أشعر بالبرودة رغم جلوسي لفترة طويلة هنا، يبدو أن الربيع قد حل بالفعل
***
إن كنت سأتسوّق مع الدوق الأكبر، فعليّ أن أستأذن فانيا مسبقًا، فهي بلا شك كانت قد أعدّت نفسها لاختيار جميع أزيائي من الرأس إلى القدمين.
لم تكن فانيا قد خاضت حفل تقديمها إلى المجتمع بعد، ولذلك كانت لا تزال تستمتع بدعوات الغداء التي تتلقّاها.
وبما أنها ستخوض حفلها العام المقبل، فستكثر عندها دعوات الغداء والخروج، ولهذا، وفي هذا العام الأخير قبل ذلك، دعوتها بسرور إلى الغداء.
“وهكذا، لن أتمكّن من الاستعانة بمساعدة فانيا.”
فمهما يكن، لا يمكنني أن أدعو فانيا لتختار لي ملابسي بينما الإمبراطورة الأرملة هي التي تتولى ذلك ثم إن فانيا نفسها ستضطرب وترتجف كأرنب أمام نمر.
قالت وهي تتنهد
“آه… لقد حدث سوء الفهم في النهاية إذن.”
فانيا، التي كانت أول من يقلق من الخلاف بيني وبين الدوق الأكبر، فهمت مقصدي على الفور.
“ألا يجدر بكِ إذًا أن تؤجّلي حفل تقديمكِ إلى العام المقبل؟ فصاحب السمو الدوق الأكبر لم يتجاوز الخامسة عشرة بعد ، بعد عامين، عندما تبلغين الخامسة عشرة أنتِ أيضًا، سيكون من الأنسب أن تدخلا معًا إلى المجتمع في العمر الملائم.”
لكن يبدو أن فانيا ظنت أن شائعة الخلاف هذه قد ظهرت تلقائيًّا.
“كلا، إن تأجيل الأمر عبثًا لن يؤدي إلا إلى تفاقم الشائعات إن السبب الذي يمنع صاحب السمو من إيقافها هو أنه لم يقدَّم رسميًّا بعد إلى المجتمع.”
ولم أشأ أن أبدد براءتها، فاكتفيت بالحديث عن سبل التعامل مع الوضع بدل تصحيحه.
“من الأفضل أن نسير وفق الخطة الأصلية، فنخوض حفل تقديمنا إلى المجتمع هذا العام معًا، ثم نعلن خطبتنا رسميًّا وإن استمر بعضهم في نشر الأكاذيب بعد ذلك، فحينها يمكننا الرد رسميًّا.”
ففي النهاية، الذين يختلقون هذه الأقاويل ليسوا سوى أولئك الذين يغيظهم أن أصبح دوقة كبرى لذا، حتى لو تركنا الأمور لعامين، فلن تتحسن، بل ربما تزداد سوءًا لهذا لا بدّ من المضي قدمًا كما هو مخطط.
إن كنتِ تقولين ذلك يا بلانش…”
كانت ملامحها ما تزال قلقة، لكنها لم تُلح أكثر.
ثم قالت مبتسمة على استحياء
“لو كنتُ أعلم أن الأمور ستؤول إلى هذا، لكنتُ قد دخلت المجتمع في وقت أبكر.”
كانت فانيا في السادسة عشرة من عمرها هذا العام، تكبر الدوق الأكبر بعام، ولم يكن هناك داعٍ لأن تستعجل، لذا تقرر أن يكون حفلها في العام المقبل.
” عندها كنتُ سأتمكن من مساعدتكِ أكثر.”
“مجرد نيتكِ تكفيني، شكرًا لكِ.”
لقد كنت أعني ذلك حقًّا ما الذي يجعل هذه الفتاة تهتم لأمري بهذا القدر، كلّما واجهتُ صعوبة؟ ربتُّ بخفة على ظاهر يدها وأنا أبتسم.
“ولن أتمكن حتى من اختيار فستانكِ…”
“يمكنكِ اختياره لي في المرة القادمة.”
“لكنّكِ ستذهبين إلى الأكاديمية بعد مهرجان الصيد مباشرة.”
“بعد المهرجان يبدأ موسم التسجيل، أي أن أمامي بضعة أشهر قبل الالتحاق فعليًّا.”
“وفي تلك الأشهر، كم حفلة ستحضرين؟ أنتِ لا تحبين الأماكن الصاخبة يا بلانش.”
كانت ملاحظتها دقيقة إلى درجة أني لم أتمالك نفسي من الضحك.
“سأذهب على الأقل إلى حفلة واحدة فقط لأرتدي الفستان الذي اخترتِه أنتِ لي.”
أدركت أن لساني أصبح أكثر طلاقة مما اعتدت، لكن يبدو أن مزاحي نجح في تحسين مزاجها، إذ ربتت على كتفي بخفة وهي تبتسم.
“ومن الأكاديمية، لا يمكنك الخروج بسهولة، أليس كذلك؟”
“يُقال إن بإمكاني الخروج إذا حصلتُ على إذن، لكنّ الناس ينظرون نظرة سلبية إلى من يتردد كثيرًا على الخارج، لذلك من الأفضل ألّا أخرج إلا نادرًا.”
“آه… وإن لم أتمكن من حضور حفل تقديمكِ، كنتُ على الأقل أرجو أن تحضري حفلي أنتِ.”
لم أفهم تلك الرغبة تمامًا فبحسب نظام حفل التقديم، العائلة ترافق الفتاة على أي حال، فما حاجة فانيا إلى وجود صديقة هناك؟
ثم إنني، لو كنت مكانها، لما رغبت في أن يراني أحد ممن أعرف وأنا متوترة.
في حياتي السابقة كنت سأقول ذلك بصراحة، لكن بعد أن عشت ثلاث عشرة سنة بصفتي بلانش أصبحت أقرأ الموقف جيدًا.
لذا بدل أن أقول لها إن وجودي غير ضروري، قلت مبتسمة
“سأرتدي سوار الصداقة في يوم حفل تقديمكِ، وإذا ارتديتِه أنتِ أيضًا، سنشعر كأننا معًا حتى إن كنا بعيدتين.”
كنت أعلم كم يمكن لشيء بسيط أن يمنح عزاءً عظيمًا حين يُحمَّل بالمعنى.
وبعد أن سمعت كلامي، ذابت تمامًا ملامح القلق من وجه فانيا.
“لكن لم يُحدد موعد الحفل بعد.”
“عندما يُحدد، اكتبي لي رسالة.”
“…هل ستجيبين عليها؟”
“بالطبع.”
إن كتبت لي فانيا، فلن يكون الرد عليها عبئًا أبدًا ابتسمتُ ابتسامة خفيفة.
مرّ عشرة أعوام منذ تعارفنا، ومع ذلك لم يتغير رأيي فيها لا تزال فانيا طفلة لم تختبر العالم بعد، لم تخرج بعد من قوقعتها وما إن يفقس البيض حتى تُكشف الحقيقة.
من السخيف أن يظن المرء أن صداقة دامت عشر سنوات لن تبهت بسهولة فقد كنتُ أعرف الإمبراطور لأكثر من خمسين عامًا.
ومع ذلك، حين قرر أن يهمّشني، لم تشفع لي تلك العقود الطويلة وكذلك حين آمنتُ أنه سيستدعيني مجددًا، لم يكن ذلك بسبب الزمن الذي قضيناه معًا.
لهذا أرى أنه من الطبيعي أن تبهت صداقتي مع فانيا يومًا ما بلا أثر.
غير أن ما تغيّر هذه المرة هو أني لم أعد أؤمن تمامًا بأنها ستزول لا محالة.
فقط تمنيت، في أعماقي، أن تطول هذه الصداقة قليلًا بعد.
وبينما أنظر إلى هذا التغيير الطفيف بوضوح، أمسكت بيد فانيا وابتسمت في وجهها ابتسامة مشرقة.
التعليقات لهذا الفصل " 63"