وإن كان ما حدث يُعَدُّ خيانةً، فمن البديهيِّ أن الأمرَ لم يكن بين طرفين متزوّجين فقد جاءَ مبعوثين السلامِ جميعًا إلى الإمبراطورية وهم عزّاب، ولم يحدث بينهم زواجٌ خلال السنوات العشر الماضية.
كانت المشكلة الحقيقية بين الابن الثاني لعائلة ماستيرا، وهو شابٌ له خطيبة، وبين الأميرة ستارتي القادمة من مملكة دالين.
لم أكن أعرف أبن آلِ ماستيرا شخصيًّا، لكنّني كنت أعلم جيّدًا أنّ الأميرة ستارتي فتاة طائشة لا تُحسن التفكير ولهذا، عندما سمعتُ الخبرَ لأوّل مرة، لم أُصَبْ بالدهشة إطلاقًا.
والسببُ في ذلك أنّ الأميرة ستارتي كانت أوّلَ من حاول تسميمي منذ عشرِ سنوات، حين لم يكن قد مرَّ على قدومي إلى الإمبراطورية سوى شهرٍ واحد!
لم أرد آنذاك أن أُضخِّمَ الأمر، فمررتُه بصمت، لكن مجرّدُ محاولتها قتلَ فتاةٍ تصغُرُها سنًّا بكثير، من دون أيّ ضغينةٍ واضحة، يُظهِرُ بجلاء ما هي عليه لقد استنتجتُ حينها أنّها فتاةٌ انفعالية، لا تفرّق بين العواقب، تشبه المُهرَ الطائش.
لكنَّ قولي إنّ هذا لم يفاجئني، لا يعني أبدًا أنّني سُرِرتُ بذلك.
فلو كانت تنوي نشرَ فضيحة، لكان الأجدرُ بها أن تجعلَها سهلةَ التدارك داخل بعثة السلام، أو أن تُحدِثَ ضجّةً تُمكّنني على الأقل من تلقّي المعلومة في وقتٍ مُبكر.
لكوني صغيرةَ السن، كان الجميع يتعمّد إخفاءَ الخبر عنّي، ولهذا سمعتُه لأول مرة من الدوق بنفسه.
تستطيعُ أن تتخيّل شعوري حين أُجبِرتُ على سماعِ هذه الفضيحة من الشخصِ الذي منحني الإذنَ بفتح باب التواصل بين بعثة السلام ونبلاء الإمبراطورية، لأجلي أنا بالذات.
لكن، رغم انزعاجي، لم تكن القضية في ذاتها بذلك التعقيد.
فـماستيرا لم يكن متزوجًا، وستارتي لم تكن مرتبطةً رسميًّا بأيّ شخص.
وبما أن الخبرَ وصلَ متأخّرًا، فلم يكن من المعلوم كم دامت علاقتُهما، لكن لو انفصلا الآن، فربما يُمكن اعتبار الأمرِ طيشَ شبابٍ لا أكثر.
“لذا، عودي إلى رُشدكِ، و عودي إلى الطريقِ الصحيح .”
حين ذهبتُ إلى الأميرة ستارتي وأخبرتُها برأيي الصريح، كان تعبيرُ وجهها مذهلًا.
“يبدو أن سموّكِ لا تعلمين، لكنّ آنسة ميليك ، خطيبةُ أبن آل ماستيرا طلبت لقاءً ثلاثيًّا ولكن، حتى لو تمّ اللقاء، فلن يُفيدكِ بشيء لذا، قولي فقط إنّ ما حدث كان مجرّد سوءِ فهم، وتعاهدي ألّا يتكرّرَ شيءٌ كهذا مستقبلاً.”
بهذا، كان من الممكن احتواءُ الموقف فليس من المنطقي أن تكون الأميرةُ قد حلمت بنهايةٍ سعيدةٍ لعلاقةٍ مع رجلٍ مخطوب لم يكن أمامها إلا هذا الخيار.
“يا لكِ من صغيّرةٍ وقحة! أتظنّين أنّكِ أصبحتِ شيئًا لمجرّد أنكِ أصبحتِ دوقة؟ لا تتكبّري و عودي من حيث أتيتِ!”
لطالما كان الأشخاص الانفعاليون غير قادرين على استيعاب الحقائقِ حين تُقال لهم مباشرةً.
لذا، لم أندهشْ، بل فعلتُ كما طلبت، وعدتُ من حيث أتيت ظننتُ أنّها قد تفيق لاحقًا وتتّبع نصيحتي.
لكن يبدو أنّها، بدافعِ العناد، قررت ألا تنفصلَ عن ابن آل ماستيرا
توقّعتُ أنّها ستنهي العلاقة بعد أن أُكرّرَ نصيحتي لها عشراتِ المرّات، أو أنّها ستشعرُ بالإهانةِ من تلقّي نصائحَ من فتاةٍ تصغرُها بعشرِ سنوات، لكن لا يبدو أنّها تنوي التراجع.
وهنا بالتحديد بدأت شائعات الخلاف بيني وبين الدوق.
والسبب أنّ الدوق، رغم علمه بطلب آنسة ميليك لعقدِ لقاءٍ ثلاثي، رأى أن الأفضل أن تفسخ خطوبتها بدلاً من انتظار تراجُعِ الآخرين.
“في الحالتَين، يبدو لي أنّ الهدفَ واحد، وهو إنهاءُ علاقةِ الخيانة، لكن من الغريب أن يُنظر إلى هذا كوقودٍ لشائعة.”
عندما أخبرتُ فانيا بتصرّفِ الدوق، رأيتُ على وجهها القلقَ الصادق، فأدركتُ أنّ الناسَ بدأوا يروْن في الأمرِ خلافًا حقيقيًّا بيني وبين خطيبي.
لكنّني أستغربُ فعلاً ممّن يظنّ أنّ اختلافَ وجهات نظرنا بشأن ثلاثِ شخصيّاتٍ لا علاقةَ لنا بها سيؤدي إلى خلافٍ بيننا.
في النهاية، هم غرباء، لا شأن لنا بهم.
أنا فقط شعرتُ بالمسؤولية لأنّني كنتُ السببَ في لقائهم والدوق اقترحَ حلًّا لأنّ آنسة ميليك استمرّت في طلب اللقاء.
لو لم تكن هناك مسؤوليةٌ، لما تحوّلت القصّةُ إلى موضوعِ نقاشٍ أصلاً فكيف تُصبح شائعة خلاف؟ يا لهم من أصحابِ خيالٍ واسع!
“يبدو أنّ هناك من يظنّ أنّ على الزوجين أن يتطابقا في كلّ كلمةٍ ورأي.”
“حقًّا، لا أفهم في السياسة، لو تحدّث الزوجان بنفس النبرة، فكم ستكون الخسائر عظيمة.”
وهذا ما نراه الآن أمامنا.
بسبب طرحنا لحلَّين مختلفَين، فإنّ أيًّا كان مَن سيُنجزُ الحلّ، سواءٌ طلبت ميليك الفسخ، أو انفصلَ الاثنان الآخران، فالناس سيحسبون أنّ نحنُ من حلّ الأمر.
كلّها أرباحٌ، ولا أرى فيها خسارة.
“أُحبُّ كونَ حديثِنا دائمًا ما يكون على نفسِ الموجة.”
قال الدوق ذلك، وهو يومئ برأسه موافقًا، في دلالةٍ على أنّه يشاركني الرأي بصدق.
وإن كان التوافقُ بيننا مريحًا لي، فبالنسبة إليه، لم يكن بحاجةٍ إليّ أساسًا، لكنّني أنا لم يكن لديّ خيارٌ آخر.
وعلى كلّ حال، لن يُغيّرَ التذمّرُ شيئًا، لذا قررتُ أن أُفكّرَ بالمستقبل.
“فلندعهم وشأنهم، بما أنهم لا يفهمون فما هي خُطتُك القادمة، يا صاحبَ السموّ؟”
في الأصل، كان يجب عليّ أن أناديه بـصاحبِ السموّ الدوق ، لكنّه، بعد الخطبة، أصرّ عليّ أن أُناديه فقط بـسموّك
وإن كان ذلك لا يتماشى تمامًا مع قواعدِ الذوق، لكن بما أنّه لا يوجد أحدٌ غيره أُخاطبه بهذا اللقب، فقد اعتدتُ عليه تدريجيًّا.
رفع قطعةً صغيرةً من الطعام بيدِه، وقَرّبَها إلى فمي مبتسمًا
“في النهاية، شائعة الخلافات تستمرّ لأنهم لم يَرَوْنا بأعينهم، بل سمعوا فقط… إذًا، فلنُرِهِم.”
ربّما كان يقصد إظهارَ الودّ بيننا أمام الآخرين.
لكن، هل من الضروريّ حقًّا أن نفعل هذا؟ بدلاً من الاستسلام، قررتُ المقاومة، ولو قليلاً.
لو أنِّي استَطعتُ أنْ آكُلَهُ بِيَدي، لَما كانت هناك أيُّ مُشكلةٍ على الإطلاق.
“أحقًّا، هل من الضَّروريِّ أن نفعَلَ هذا أمامَ النَّاس أيضًا؟”
“نَعم، علينا أن نفعَلَ هذا على الأقلِّ حتّى تَنتهي شائعاتُ الخِلافِ بينَنا.”
يا تُرى، إلى أيِّ حَدٍّ انتشَرَت تلك الشَّائعات؟
أكانَ من الخطأِ أنْ أقبَلَ اقتِراحَ الزَّواجِ مِنَ الدُّوقِ فقط لأنَّ ظُروفَهُ مُناسِبَة؟
غَمرتني أفكارٌ كثيرة.
“لا تُظهِري مثلَ هذا الوجهِ أمامَ الآخرين.”
ولم أحتَجْ أن أسألَهُ أيَّ وجهٍ يَقصِد، لأنِّي عَلِمتُ أنَّه يَعني ذلكَ التَّعبيرَ الذي يَبدو وكأنِّي أقولُ فيه إنَّ الحَياةَ قاسية.
كُنت قد سَمِعت مِن قبلُ أنَّني أُظهِر نفسَ ذلكَ الوجه عندما كانَ جلالتُه يُصدِر أوامرَ غَيرَ منطقيَّة، لذا فَهمتُ ما يَقصِدُ الدُّوقُ تمامًا.
عندما أتذكَّر الماضي، أتذكَّر أنَّني كُنتُ أُتَّهَم بأنَّ وجهي جامدٌ لا يُظهِرُ أيَّ مَشاعر، أمّا الآنَ فبَدا أنَّ مَلامِحي تُعبِّر أكثر ومعَ ذلك، كانَ مِنَ المُدهِشِ كيفَ كانَ جلالتُه يُلاحِظُ أدقَّ تغيُّرات وجهي.
وبالمقارَنة بما فَعَلَهُ جلالتُهُ — مِن منحي ثَوبًا مُطرَّزًا بطائِرِ الفينيقِ، رَمزِ الإمبراطورة، أو دبُّوسِ شَعرٍ مُزخرفٍ بِتنينٍ، رَمزِ الإمبراطور، أو حتّى منحي سُلطةَ إدارةِ خَتمِهِ الإمبراطوريّ—فإنَّ أن يُطعِمَني الدُّوقُ بِيَدِه يُعَدُّ أمرًا طَريفًا بَلْ بسيطًا.
استَحضَرتُ في ذِهني تلكَ الأيّامَ الطَّويلةَ مِنَ الصَّبرِ، وشَددتُ على نفسي العَزم.
“لكن يا صاحِبَ السُّموّ، أتُريدُ أن تُظهِرَ هذا التَّصرُّفَ قبلَ حَفلِ تقديمِ الدِّبيوتانت؟ أليسَ ذلكَ مُستحيلًا؟”
[ الدِّبيوتانت : تعني حفلة التعريف الرسمي بالفتيات النبيلات أمام المجتمع الراقي ]
بما أنّنا لم نُقدَّم رسميًّا بعد، فالأشخاص الوحيدون الذين يُمكننا مقابلتُهم الآن هم من في سِنِّنا ومع أولئك، كنّا نُظهِرُ بالفعل ما يكفي من التآلفِ والعلاقةِ الجيّدة بيننا.
فهل يَقصِدُ الآنَ أنْ نُظهِر هذا التَّصرُّفَ أمامَ الكِبار؟
لكنْ في أيِّ مناسبةٍ سنظهَر أمامَهم أصلًا؟
“آه، بخصوصِ هذا الأمر…”
لم يتكلَّمْ إلا بعدَ أن أنهى أكلهُ بوقارٍ وأناقةٍ.
في مثلِ هذه اللَّحظات، يُدرِك المرءُ أنَّ الدُّوق وُلِدَ حقًّا وفي عُروقهِ دمُ الملوك، مُقدَّرٌ له أن يُصبحَ الإمبراطورَ القادم.
ورغمَ أنَّهُ في العادةِ يُفضِّل التصرُّفَ ببساطةٍ ودونَ تكلُّف، فإنَّ تلكَ الفَخامةَ النَّبيلةَ لا تُفارِقُه.
“أُفكِّر في أنْ نُجريَ استعداداتِ مهرجان الصَّيدِ في الخارج.”
وما يَقصِدُهُ الدُّوق بـاستعداداتِ مهرجانِ الصَّيد ليسَ نفسَ الحدَثِ، بل الأشياءَ التي نحتاجُها للمُشارَكةِ فيه، كالثِّيابِ والحُليِّ وما إلى ذلك.
وكما هو مُتوقَّعٌ مِن شَخصٍ بارِعٍ في التأثيرِ بالناس، فقد اختارَ طريقةً ذاتَ أثرٍ دعائيٍّ قويّ.
التعليقات لهذا الفصل " 62"