فصوته، الذي كان لا يكاد يُميَّز عن صوت فتاة صغيرة، أصبح الآن أكثر عمقًا وثقلاً.
وخطّ الفك أصبح أكثر حدةً، وعيناه أكثر حدةً أيضًا، وأطرافه ازداد طولها حتى أصبح أطول مني بشبرٍ كامل.
وطوله يفوقني بمقدار رأس تقريبًا.
آه… حقًا، ما أشبه الزمن بالماء.
يمضي في لمح البصر، لكنه في انسيابه يترك أثره المتراكم، كالصخور المنحوتة تحت الشلال.
“…لم أكن نائمة في الحقيقة كنت فقط أفكر في مدى سرعة مرور الوقت.”
تمتمتُ شاردةً وأنا أحدّق في يدي الواقعة تحت يده.
كنت أظن أن يدي كبرت كثيرًا خلال تلك السنين، لكن تحت يده بدت صغيرة بشكل مدهش.
رغم أنه لا يتدرب إلا على الفنون الدفاعية البسيطة، إلا أن يده كانت أعرض وأقوى عظمًا من يدي.
إنها يد تليق بفتى، بل برجلٍ شاب بحق.
ليس أن الدوق الأكبر بدا يومًا غير رجولي، لكن إن كان في الماضي فتىً فهو الآن حقًا شاب
في حياتي السابقة، كان لي أخت صغرى، وربّيت بنات فقط، فلم أعايش نمو فتى عن قرب من قبل.
لذلك بدا لي الأمر مؤثرًا وغريبًا في الوقت نفسه.
خصوصًا أنني ألاحظ نموّ جسدي أيضًا إلى جانبه، مما يجعل الفرق بيننا أوضح.
حقًا، كم يختلف الفتيان عن الفتيات.
“أن تشعري فجأةً بفناء الزمن؟ أليست تلك طريقة جديدة للهروب من الواقع؟”
قالها الدوق بنبرة متذمرة وهو يسحب يده عني.
همم، ليس هروبًا من الواقع، لكنني لم أظن أنه سيصدقني لو قلت ذلك، فآثرتُ تغيير الموضوع.
“إذن، تقول إن الشائعات عن الخلاف بيني وبين سموّ ولي العهد قد بدأت تنتشر مجددًا؟”
يا للسخرية حقًا.
لم يُعلَن الأمر رسميًّا فحسب، لكنني في وضعٍ لا يختلف كثيرًا عن كوني قد تم اختياري بالفعل لتصبح دوقة كبرى.
مرّت عشر سنوات منذ أن أصبحنا صديقين في اللعب، ومع ذلك لا يزال هناك من يرغب في اختلاق الأكاذيب والادعاء بأن علاقتنا سيئة.
يا لعنادهم، حتى لو كنتُ أنا الطرف المتضرر، فلا يسعني إلا الإعجاب بإصرارهم الغريب.
“صحيح.”
تنحنح الدوق مجددًا هل يبدأ الفتيان في مثل هذا العمر بتغيّر أصواتهم؟
صوته الذي ازداد عمقًا تردّد في الجوّ بثقلٍ رجولي لم أعتده بعد
“لذلك، وإن كان الأمر محرجًا بعض الشيء، أريد أن أُخمد تلك الشائعات قدر المستطاع قبل إعلان خطوبتنا رسميًّا هل سيكون من المقبول أن أطلب تعاونك؟”
بالطبع، لم يكن لديّ مانع.
فالشائعات تلك لن تؤذي الدوق بأي حال، وإن كان يسعى إلى إخمادها، فهو يفعل ذلك لأجلي.
فما الذي يمنعني من التعاون إذن؟
“بالطبع. لكن… كيف يمكنني المساعدة تحديدًا؟”
من لا يزال يحاول التفريق بيننا بعد كل هذه السنين، فمهما فعلنا، لن يرضى بالتأكيد.
قبل سبع سنوات، عندما تركني الدوق شهرًا كاملًا دون أن يراني، بدا فعلاً وكأن بيننا بعض الجفاء، لكن منذ خطبته العلنية لي، ونحن نعقد جلسات شاي أسبوعية في قصر النجوم الذي يقيم فيه، حتى أصبح الجميع يدرك مدى قربنا.
مع أن اختيار قصر النجوم لم يكن للعرض فقط، بل لأن الدوق كان قد ضاق ذرعًا بقصر جاسبر المليء بالمختبرات.
ففي قصر النجوم كانت هناك حدائق وقاعات استقبال واسعة، على عكس قصر جاسبر الذي لم يكن هناك مكان يخصّنا سوى غرفتي في الطابق الأعلى.
لذلك، كنا اليوم نجلس في الحديقة لتناول الشاي.
ولشدّ ما أهداني الزهور في الماضي، تبيّن أن من يحب الزهور حقًا هو هو نفسه، لا أنا.
فقصره تغمره الأزهار الجميلة طوال العام.
تتفتح فيه زهور كل فصلٍ في أوانه، حتى إنك تشعر عند كل زيارة كأنك دخلت مكانًا جديدًا مختلف الألوان والجمال.
باستثناء الشتاء البارد الذي تذبل فيه الأزهار، كنّا نفضل الجلوس في الخارج دومًا.
وبما أننا الآن في أوائل الربيع، كانت زهور الكانولا في موسمها.
وعندما نحتسي الشاي في الحديقة، يحرص دائمًا على وضع أجمل زهرةٍ في ذلك اليوم وسط الطاولة.
وزهور الكانولا صغيرة، لذا جمع منها خمسًا ووضعها معًا.
وأنا ألمس بتلات الزهور الجميلة التي لا تحمل أي أثر للذبول، كأنها زهورٌ صناعية، خطَر ببالي سؤال .
“بعد عشر سنوات من هذا القرب، إن كان لا يزال هناك من يروّج شائعات الخلاف بيننا، فهل سيتوقفون مهما فعلت؟”
إن كانوا لم يقتنعوا بكل ما أظهرناه من ألفة خلال عقدٍ كامل، فهل سينفع أي تصرفٍ آخر؟
ربما تجاهلهم والمضي قدمًا أفضل من محاولة إرضائهم.
ففي كل زمان ومكان يوجد من يثرثر من وراء الظهر، لكن إن لم يجرؤ أحدهم على قول شيءٍ في وجهي، فما قيمة همسه إذن؟
حتى في حياتي السابقة، كانت هناك خصومات بين عائلتي وعائلة جلالته.
فعندما أقسمت له بالولاء أول مرة، ثار اعتراضٌ كبير يقول إن أبناء بيت إيغا لا يجب توظيفهم.
كانوا يسخرون مني علنًا في البداية، ثم بدأوا يهمسون من وراء ظهري، وفي النهاية اختفى حتى ذلك الهمس.
ولم يكن ذلك لأنهم سامحوا عائلتي أو نسيوا الماضي.
بل لأنهم أدركوا أن اتهاماتهم لم تكن ذات أساس، وأن ما يفعلونه مجرد وسيلة للحد من نفوذي.
فلو كانوا يؤمنون فعلاً بأن عائلتي خطرٌ حقيقي، لما سكتوا قط، مهما كلّفهم الأمر.
هكذا هي معظم الافتراءات.
إن ظنّوا أن بإمكانهم التحدث بحرية، فعلوا ذلك، وإن شعروا بالخطر، صمتوا.
ولا يهم عندها إن كنت تبرر أو لا.
ولهذا أرى أن لا جدوى من القلق بسبب مثل تلك الأقاويل.
لكن يبدو أن الدوق لم يكن يشاركني الرأي.
“لو كانت شائعة عادية، لقلت مثل قولك لكن الأمر مختلف هذه المرة هناك من يتعمد إذكاءها.”
“الآن؟ بعد كل هذا الوقت؟”
“بالضبط لأننا وصلنا إلى هذه المرحلة.”
أخذ الدوق زهرة الكانولا من يدي، قطع ساقها نصفين، ثم وضعها عند أذني بلطف.
حقًا، لا يملّ من تقديم الزهور لي…
إلى أي مدى ينوي التمسك بتلك الذكرى الأولى بيننا؟
“الجميع يعلم الآن، أننا سنعلن خطوبتنا قريبًا.”
آه، فهمت الآن.
أتُراهم أولئك الذين كانوا يضحكون ساخرين قائلين
هل يُعقَل أن تُصبح رهينةٌ من مملكةٍ صغيرةٍ بلا سندٍ دوقةً كبرى؟
ثمّ لما بدا أنّ الأمر سيتحقّق حقًّا، سارعوا مذعورين إلى إشعال شائعةِ الخلاف؟
“في العادة، الشائعة التي لا تملك حطبًا لا تحتاج حتّى إلى ماءٍ ليُطفِئها، فهي تنطفئ من تلقاء نفسها لكن للأسف، هذه المرّة توافَقَت النار والحطب.”
حتى أنا، التي لا علم لي بشائعات نبلاء الإمبراطورية، كنت أستطيع أن أخمن ما المقصود بذلك الحطب .
يا للعجب، يبدو أن فريسةً جيدة أُلقيت في أحضان أولئك الذين كانوا يترقبون الفرصة المناسبة.
“إنني أشعر بخجلٍ شديد.”
“كما قلت من قبل، ليس هذا خطأك.”
قال الدوق بصرامةٍ قاطعة، غير أنّي لم أستطع أن أرفع رأسي حياءً.
إذًا، أصلُ المشكلة يعود إلى حفلةِ الشاي التي أقامتها عائلةُ الدوق مارتينا.
فمنذ ذلك اليوم، أوكل إليّ دورُ حلقةِ الوصل بين نبلاءِ الإمبراطوريّة ومبعوثي بعثاتِ السّلام، لتوسيع شبكةِ العلاقات بين العُلَماء من الجانبين.
كنتُ أدعو العلماء من نفسِ التخصّص في الجلسات التي أحضرها، كي يتعارفوا ويكوّنوا صِلاتٍ فيما بينهم.
وكان هذا نافعًا للطرفين ، فالإمبراطوريّة يسهل عليها إدماجُ العلماء المتميّزين في مؤسّساتها الأكاديميّة، وبعثاتُ السّلام تستفيد من تيسير البحوث وتبادل المعرفة.
صفقةٌ رابحةٌ للطرفين.
غير أنّ تلك الصداقة لم تتوقّف عند حدود ما كنتُ أنوي أصلاً – أي داخل الأوساط العلميّة فحسب.
فخلال السنوات الثلاث السابقة، كان أعضاءُ بعثةِ السّلام – على اختلاف بلدانهم – قد تقاربوا فيما بينهم
حتى أصبحو كأنّهم جماعةٌ واحدة.
وكانت مجالسُ المبعوثين التي أنشأتُها في البداية لأُبرهن للإمبراطور على كفاءتي
قد لعبت دورًا كبيرًا في ذلك.
وهكذا، بفضل تلك المجالس التي أقمتُها، تعارف المبعوثون فيما بينهم، ثمّ حين بدأتُ أصلُ ما بينهم وبين نبلاءِ الإمبراطوريّة، امتدّت تلك العلاقات إلى بعثة السّلام بأكملها.
ومع أنّني كنتُ أقدّم للإمبراطوريّين فقط العلماءَ والباحثين، فما لبث عامٌ واحد حتى أصبح جميعُ المبعوثين يمتلكون بدورهم صِلاتٍ خاصّةً مع بعض نبلاءِ الإمبراطوريّة.
آه، ولم يكن في ذلك ما يُعاب عليه أصلًا.
فمع أنّ القيود الإداريّة كانت تمنعهم من مغادرة القصر الإمبراطوريّ دون إذن، إلّا أنّ إمبراطوريّةَ ريتايل لم تكن ترغب حقًّا في حبسِ الرهائن داخل القصر.
غير أنّ المشكلة بدأت حين وُلِدت بين أحد نبلاءِ الإمبراطوريّة وأحد مبعوثي السّلام علاقةٌ محرّمة.
التعليقات لهذا الفصل " 61"