بالطبع لم يكن في كلماتي ذرة من الشعور الحقيقي كانت مجرد عبارة فارغة لا أكثر عندها، مال الدوق الذي كان منحنياً قليلًا إلى الأمام ضاحكًا، ثم استرخى إلى الوراء، مما سمح للهواء أن يتسلل بيننا فأصبح التنفّس أيسر قليلًا.
“أرأيتِ؟ حتى أنتِ تعلمين أنكِ لا تستطيعين أن تكوني سعيدة وحدك.”
“وهل يعني هذا أن سموّك قادر على منحي تلك السعادة؟”
كنتُ أظن أن الدوق سيجيب بالإيجاب دون تردد فمن لا يعرف الخوف يظن نفسه قادرًا على كل شيء.
لكنّ الدوق خالف توقّعي كعادته
“لا أعلم ، في المرة السابقة فشلتُ في ذلك.”
نطق بكلمة فشل دون أي انفعال، وكأن سعادته لذلك الشخص الآخر الذي لم أعرفه يومًا لم تكن هدفًا ذا أهمية كبرى لديه.
“لذلك هذه المرة، أريد أن أنجح ولو لمرة واحدة.”
عاد ليقلّص المسافة بيننا من جديد، وإن كانت هذه المرة أقل اختناقًا من ذي قبل.
“ما دمتِ قد اكتشفتِ أمري، فلنطلب تعاونك إذن ما رأيك؟”
تنفستُ بعمق، وأخذتُ وقتي في التفكير.
كنتُ أظن أن الدوق مجرد شخص مهووس بالتحكّم، يعتبرني ملكه الخاص ويتعامل مع حياتي كما يتعامل طفلٌ مع دميته، يشكّلها على هواه.
بمعنى آخر، كنتُ أرى أن هذا كله لا يعدو كونه تسلية بالنسبة له، والأسوأ من ذلك أنني أنا من يدفع ثمن هذه التسلية أيّ عبثٍ هذا؟
“أخبِريني ما هي الحياة التي تريدينها، وسأمنحك إياها.”
قالها وكأنه لا يريد أن يتلاعب بي، بل يهتم فقط بالنتيجة النهائية حتى أنه لم يُخفِ أن ما يفعله بدافع الرضا الذاتي لا أكثر.
لكنّ الأمر كان… مبالغًا فيه.
“هذا كثير يا سموّ الدوق.”
حتى لو لم يكن ينوي أخذ مقابل، فإنّ من حولنا لن يروا الأمر هكذا وأنا أيضًا، بغضّ النظر عن نيّته، أجد راحتي في أن أدفع الثمن المقابل بنفسي.
“إذن أخبرني، ما الثمن الذي أستطيع تقديمه لك؟”
قررتُ أن أعقد مع الدوق صفقة جديدة.
“الثمن؟”
“أقصد أن سموّك يمنحني ما أحتاجه لتحقيق مستقبلي، وفي المقابل أقدّم ما أستطيع تقديمه — وليس شيئًا مجرّدًا كـ*أن أصبح سعيدة*، بل نتيجةً ملموسةً يعترف بها الجميع.”
كانت علاقتنا بطبيعتها علاقةَ تابعٍ ومتبوع، لا يمكن أن تنقلب الموازين فيها لكنّني لم أرد أن تبدو بهذا الشكل الفاضح أمام الآخرين.
فلو علم الناس أن كل ما أملكه قائم على إحسان الدوق وحده، فسأصبح مهددة بالسقوط في أي لحظة لا بأس حين أمتلك ما يمكنني الاعتماد عليه بنفسي، لكنّ إظهار ضعفي بهذا الشكل الآن سيكون أمرًا خطيرًا.
“همم…”
لمس الدوق ذقنه بخفة، وهي عادته كلما غرق في التفكير.
“إذن، لِمَ لا نتزوّج؟”
توقعتُ هذا الجواب ولأول مرةٍ اليوم، سارت المحادثة تمامًا كما تخيّلت، فشعرتُ بشيءٍ من الاسترخاء.
“إن كان هذا يُرضيك، فلا مانع.”
كنتُ قد تنبأتُ بأن الدوق سيقترح الزواج كثمنٍ لتلك الصفقة، لأنني أوضحتُ له أن هذه ليست مصلحة شخصية مني تجاهه.
لقد قال بنفسه إنّ كل ما يريد منحي إياه ليس من أجلي أنا، بل من أجل شخصٍ آخر — ربما امرأة عرفها في حياته السابقة لذلك، لم يكن يرى ضرورة لأن أقدّم شيئًا بالمقابل.
لكنني واجهته بأنّ الناس لن يفهموا الأمر بهذه البساطة، وسيظنون أنه يمنحني كل شيء من محض الهوى.
ولهذا، كان من الطبيعي أن يختار ثمنًا يمكنه إقناع الآخرين به، دون أن يُلحق بي ضررًا ولم يكن هناك خيارٌ أفضل من الزواج.
إن أصبحتُ دوقة المستقبل، فسيُنظر إلى ما يمنحني إياه على أنه واجبٌ نحو خطيبته لا أكثر وهكذا، يرضى الجميع، وأعتبر أنا أنني دفعتُ ثمنًا مقابل ما أناله.
وما دام الدوق قادرًا على جعلي دوقة بكلمةٍ واحدة، فلن يجد أحد اعتراضًا على هذه الصفقة.
“أنا راضٍ بذلك فبين جميع المرشحات لمنصب الدوقة، كنتِ أنتِ أكثر من راق لي.”
حسنًا، طالما أنه راضٍ، فليكن.
ارتشف الدوق رشفة من الشاي البارد وسأل مجددًا
“الآن بعد أن أصبح الأمر محسومًا، أريد أن أسألكِ ثانية: هل حقًّا لستِ بحاجة إلى الحب؟”
يا للعجب، أتراه رومانسيًّا إلى هذا الحد؟ ما زال يتذكر قوله القديم: إن كنتِ تحبين شخصًا آخر، سأساعدك على الوصول إليه.
“بل اسمح لي أن أسألك، يا سموّ الدوق: أترى أن الحب ضروري في الزواج؟”
وهنا كدتُ أتعثر في الرد، لأني لا أحب الدوق، ولن أحبه، ولا أنوي حتى أن أحاول لكن لحسن الحظ، هزّ رأسه نافيًا بابتسامةٍ هادئة.
“لا، لا يهمني ذلك لكن هناك من يعتقد أن الزواج بلا حب يجلب الشقاء ولو كنتِ من هؤلاء، فلن تستطيعي أن تكوني سعيدة معي.”
كان كلامه منطقيًّا، فهو الذي قال إنه يريد أن يجعلني سعيدة.
أما أنا… فبصراحة، كنت أعلم أنني لن أكون سعيدة في كل الأحوال، فالأمر لا يهمني.
“كلا، لا حاجة للحب غير أنّ لي شرطًا واحدًا.”
صفقةٌ كهذه تستوجب الجديّة، حتى إن لم تكن ذات فائدة حقيقية لأيٍّ من الطرفين.
“ألا تطلب مني الحب.”
هناك من يرى أن الزواج بلا حب مأساة، لكنني على العكس تمامًا أرى أن الزواج لا يكتمل إلا بخلوّه من الحب.
فالزوجان، في نظري، كرفيقين على متن سفينة واحدة يكفي أن يشتركا في وجهةٍ واحدة، وأن يقوم كلٌّ بواجبه حتى يبلغا الميناء بسلام.
أما إدخال المشاعر في الأمر فلا يجلب سوى العطب.
كم من زيجاتٍ تحطّمت لأنّ أحدهما وقع في حبٍّ جديد، فادّعى أنّ عليه أن يتبع قلبه، فدمّر بيتًا مستقرًّا وضلّ طريقه بعدها؟
الدوق — بغض النظر عن رغبتي في ألا أعتمد على العائلة الإمبراطورية — يبقى شريكًا ممتازًا في المعاملة لا عيب فيه سوى التفاوت الكبير في القوة بيننا.
لكن ذلك مقبول، ما دام لا يطالبني بالحب.
يقولون إن الحب والفقر والسعال لا يمكن إخفاؤها، لكنني أستطيع لقد أخفيتُ حبي طيلة حياتي، ولم يعلم به أحد.
أما التظاهر بحبٍّ لا وجود له، فذلك ما لم أتعلمه قط.
لهذا كنتُ قد أوضحتُ ذلك لزوجي في حياتي السابقة، وقد قبل به، فاستطعنا أن نحيا حياة زوجية هادئة خالية من أي خلاف حتى النهاية.
لذا، إن طلب مني الدوق الحب… فربما حينها سأكون حقًّا تعيسة.
“حسنًا، فهمت.”
أجاب بثقة، ثم نهض من مقعده ظننتُ أنه يهمّ بالمغادرة بعدما أنهينا عقدنا الشفهي، لكنه اتجه نحو النافذة، حيث وُضعت مزهرية.
“سموّ الدوق؟”
التقط وردةً من المزهرية، فتساقطت قطرات الماء من ساقها لتبلل السجاد.
حتى أنا، التي نادرًا ما تتفاجأ، شعرتُ بالارتباك أما هو، فمرّر يده المغطاة بالقفاز على الساق، يزيل الأوراق والأغصان الصغيرة دون أن يكترث للماء الذي يبلل يده.
ثم فكّ ربطة العنق الحريرية التي كانت حول عنقه، وربط بها الوردة بإتقان، فتحولت في لحظة إلى باقة صغيرة أنيقة
عاد إليّ حاملاً تلك الباقة، ثم جثا على ركبة واحدة ومدّها نحوي. آه… إذًا كانت هذه خطبة رسمية؟ يا له من رجل تقليدي حقًّا.
“لم يكن هناك داعٍ لهذا يا سموّ الدوق…”
فنحن لا نتزوج عن حب، بعد كل شيء لكن الدوق بدا مستغربًا، بل ومتفاجئًا قليلًا.
“لماذا؟ أليست الأزهار تعجبكِ؟”
أنا؟ أحب الأزهار؟ كيف توصّل إلى هذا الظن؟ ألا يعلم ما آل إليه حال حدائق قصر جاسبر بسببي؟
“ليس تمامًا.”
خفض الدوق يده قليلًا ورفرف جفناه بدهشة.
“لكنّكِ طلبتِ منّي أن أهديكِ وردة، أليس كذلك؟”
آه، أخيرًا وجدتُ أصل ذلك الالتباس العظيم.
عندما عقدتُ أول اتفاق مع الدوق لأكون رفيقة لعبه، قال لي أن أطلب ما أشاء، فطلبتُ منه أن يقطف لي زهرة.
لم أطلبها لأنني أحب الزهور حقًا، لكن يبدو أن الدوق ظنّ أنني أحبها حبًّا جمًّا حتى طلبتُها منه.
ولم أكشف له الحقيقة إلا بعد مرور ثلاث سنوات.
“لأنني لم أتلقَّ زهرةً من قبل.”
لكن في الحقيقة، هذا ليس دقيقًا تمامًا.
لقد تلقيتُ من قبل هدايا على هيئة زهور — أزهارًا من اليشم المنحوت، وورودًا منقوشة بالذهب، وزنابق منحوته من حجر السبج الأسود — هدايا فاخرة إلى حدّ أن مجرد لمسها كان يبعث في نفسي ثِقَلًا.
غير أنني لم أتلقَّ يومًا زهرةً حية، ولهذا فقط فكرتُ أن تلقي واحدة مرةً في حياتي لن يكون أمرًا سيئًا.
“أليس من الطبيعي تمامًا أن طفلةً في الثالثة من عمرها لم تتلقَّ زهرةً من قبل؟”
كان كلامه منطقيًّا إلى درجة لم أجد ما أردّ به، فآثرتُ الاستسلام ومددتُ يديّ بهدوء.
ليكن، فلنقل إنني أحب الزهور لا ضرر في ذلك على أية حال.
نظر الدوق إلى يديّ الممدودتين وضحك بخفة، ثم قدّم إليّ الزهرة من جديد.
بابتسامةٍ خفيفة
“لن أحبّك ما حييت فهل تتزوجينني رغم ذلك؟”
“نعم، بكل سرور.”
ربما، فكرتُ، يمكن أن نشكّل معًا زوجين متناسبين على نحوٍ غريب — هو، الذي يلهث وراء من لا يمكنه امتلاكها، وأنا، التي تحبّ شخصًا لا وجود له في هذا العالم.
وهكذا تناولتُ الزهرة من يده، وأنا أبتسم بصمت.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 59"