“لكن هذا قد أُعِدَّ من أجل الآنسة مارتينا، لذا أرجو أن تتقبليه.”
يا لها من متاعب.
كان من السهل تخمين أنّ الدوق قد وضع خططًا متعددة من أجل مستقبلي غير أنّ ما يدور في رأس الدوق لا يخصني، لذا كنت أنوي تجاهله وكأنني لا أعلم شيئًا.
لكنّه أفصح الآن عن نيّته في تقديمي لبعض معارفه في الأكاديمية وهذا يغيّر الأمور تمامًا.
ففي هذه الحالة، سأضطر إلى دفع ثمنٍ حتى لقاء الخطة التي وضعها الدوق انظري، حتى الآنسة مارتينا نفسها تعترف بأنّ الدوق هو الأَوْلى إنْ كنتُ سأدفع ثمنًا.
حقًّا، هل يجب أن أطلق السهم أولًا إن أردتُ الإمساك بالجنرال؟ دون أن أشعر، كانت الخنادق تُردم ببطء.
ولأُخفي مرارتي، ابتسمتُ عمدًا ابتسامة مشرقة.
“يُقال إنه زينة تُعلَّق على السوار، لا أعلم إن كان سيعجبكِ.”
ومع ذلك، لم تمدّ الآنسة مارتينا يدها لتأخذه رغم تشجيعي لها.
“حقًّا، هل يمكنني قبوله؟”
قبل فترة قصيرة فقط كانت تشتعل كراهيةً تجاه الدوق، فما الذي جعلها تبدو منكمشة هكذا الآن؟
تملّكني الفضول لمعرفة ما الذي قاله لها الدوق بالضبط تمتمتُ في سري مستاءة، ثم أمسكتُ بيد الآنسة مارتينا.
“بالطبع، هذا عربون شكرٍ لأنّ الآنسة مارتينا أولتني اهتمامًا وعنايةً.”
بالطبع لم يكن ذلك صحيحًا فأنا من أولئك الذين يؤمنون بأنّ النتائج وحدها تتحدث عن كل شيء.
لكن لم يكن أمامي خيار آخر، إذ بدا أنّ الآنسة مارتينا لن تقبل التميمة ما لم أقل ذلك.
“أها، فهمت.”
ربما راقها تظاهري، إذ ابتسمت بخفة وتناولت العلبة بيديها، ويبدو أنّها كانت تنوي فتحها في المنزل.
“أتمنى أن تعجبك.”
“ما دمتِ أنتِ من قدمها، فكل شيء سيكون جميلًا.”
ليكن، فذلك يكفيني تبادلنا بضع كلمات ونحن نتناول جيلي اليوسفي ونتحدث عن حفلة الشاي في ذلك اليوم.
ولأرفع من معنويات الآنسة مارتينا، ركزتُ في حديثي على مدى روعتها وهيبتها كمضيفة بارعة في ذلك اليوم.
فلو أثنيتُ على الحفل نفسه، لربما تواضعتْ قائلة إنه بفضل مساعدة الآخرين، ولانكمشت ثانية.
“… بلانش”
“نعم، تفضّلي.”
“هل… ستذهبين إلى الأكاديمية؟”
ما بال الجميع مهتمًّا بذهابي إلى الأكاديمية؟ بدأتُ أتساءل عمّا قاله الدوق لها تحديدًا لعلّه يضغط عليّ فقط من أجل إثارة بعض الشائعات.
“لا أعلم … الأمر بعيد جدًا ولا أستطيع الجزم.”
قبل وقتٍ قصير كانت تغلي غضبًا على الدوق، وها هي الآن تبدو خاضعة له تمامًا يبدو أنّ الآنسة مارتينا واقعة بالفعل في قبضة الدوق.
وأيًا يكن ما سأقوله الآن، فربما يصل مسامعه، لذا وجب عليّ أن أكون حذرة في كلامي.
لم يعد يعجبني أن تستمر الأمور هكذا، فلا بد أن أتحدث مع الدوق قريبًا.
“أنا… لا أظن أنني سأحقق نتائج جيدة في الأكاديمية.”
أي بمعنى آخر: لن أذهب.
لكن يبدو أن تعبيراتي المواربة كانت غامضة جدًا على طفلةٍ صغيرة، إذ لم تفارق ملامحَها نظرةُ القلق.
“أتعلمين، الأذكياء عادة ما يميلون لمصاحبة الأذكياء مثلهم، أليس كذلك؟”
هل كان ذلك صحيحًا؟ حاولتُ استرجاع صداقاتي السابقة… لعلها كانت كذلك.
“إذن، إن ذهبتِ إلى الأكاديمية، هل ستصبحين أقرب إلى أصدقاء آخرين غيري؟”
كانت كلمات الآنسة مارتينا حذرة، وكأنها تتلمّس ردة فعلي، فابتلعتُ ضحكتي المُرّة.
هي محقة في حياتي السابقة، لم أكن أرتبط إلا بأشخاصٍ حكماء، هادئين، يبدون وكأنهم يدركون أسرار العالم.
“مستحيل.”
لكن السبب لم يكن أنني اخترتُهم بنفسي.
بل لأنّ غيرَهم لم يكن ليبقى بجانبي أصلًا.
كانوا دائمًا من يبتعد أولًا، قائلين إنّ كمالي المفرط يجعلهم غير مرتاحين. الإنسان، حين يكون مثاليًا أكثر من اللازم، يُصبح بلا إنسانية، هكذا كانوا يقولون.
لذا، ليست الآنسة مارتينا من يجب أن تقلق بشأن ابتعادي، بل العكس هو الصحيح.
فهي وحدها من كانت لطيفة معي بلا مقابل، لكنّها ستحيط نفسها مستقبلًا بأشخاص أكثر مرحًا وتوافقًا معها من فتاةٍ جادة ومتحفظة مثلي.
فما إن تخوض أول حفل تقديمٍ لها وتعتاد أجواء المجتمع المخملي، حتى تجد لنفسها أصدقاء جدداً.
وأنا أعلم ذلك، لأنني دائمًا ما كنت الطرف الذي يُترك خلف الآخرين في العلاقات.
“بالطبع، ستظلين دائمًا أعزّ صديقاتي، يا آنسة مارتينا.”
لكنني قلت ذلك لأنني جرّبت هذا كثيرًا أولئك الذين أحبوني يومًا ما وانجذبوا إليّ، سرعان ما شعروا بالثقل من وجودي ورحلوا.
أما الآنسة مارتينا، التي لم تبلغ العاشرة بعد، فمن الطبيعي أنها لا تعرف ذلك أن تظن أن هذه الصداقة ستدوم إلى الأبد، هو امتياز الأطفال وحدهم.
لهذا اكتفيتُ بابتسامةٍ لطيفة، دون أن أبدّد أوهامها الجميلة.
***
إلى أي حدٍّ بالضبط نشر الدوق حوله أفكاره عن خطط حياتي؟ لقد لمح بذلك أمام الآنسة مارتينا… فهل يا تُرى قال الأمر نفسه للإمبراطور وزوجته؟ أو حتى للإمبراطورة الأم؟
هل بقي لي طريق أستطيع اختياره بإرادتي؟ طريق لا علاقة له بما خطّطه الدوق لي؟
ما إن راودتني تلك الفكرة حتى شعرتُ بأنّ أطراف أصابعي قد تجمّدت.
لقد سئمتُ من أن يقرّر الآخرون حياتي بدلًا عني.
الميزة الوحيدة التي نلتها من عيشي لحياةٍ ثانية هي تلك الحرية البسيطة: لا أحد يعلّق عليّ آمالًا، لذا يمكنني أن أفعل ما أشاء دون قيود.
كنتُ مجرد طفلةٍ لا تساوي شيئًا سوى كونها رهينة وطالما بقيتُ في موضعي كرهينة، كان بوسعي أن أختار ما أشاء.
أما صديقة الدوق في اللعب، فكل ما يُنتظر منها هو أن تُسلّيه، لا أن تقوم بشيءٍ حقيقيٍّ بالفعل.
لكن الآن، يريد الدوق أن يحدّد مسار حياتي يريد أن يجعلني أفعل شيئًا أن يضع مستقبلي في متناول قبضته، حيث يستطيع التحكّم به كما يشاء.
وأنا، هذا الأمر… حقًّا…
“يبدو أن ملامحك ليست على ما يرام.”
شعرتُ بحرارةٍ أعلى قليلًا من حرارة بشرتي تلامس وجنتي.
رفعتُ رأسي، فرأيتُ وجه الدوق وجهًا لا يزال يحمل ملامح الطفولة، مع أنّ عينيه الزرقاوين الهادئتين تفيض نضجًا لا يليق بعمره، وتغطي جبينه خصلاتٌ متموّجة من الشعر الأحمر.
اليوم هو موعد جلسة الشاي الأسبوعية بيني وبينه، اليوم الذي كنتُ أنتظره منذ أن سمعتُ من الآنسة مارتينا أن الدوق هو من أعدّ بنفسه قائمة المدعوين لحفلتها.
“صاحب السمو الدوق.”
شعرتُ وكأن خنجرًا من الجليد قد انغرس في قلبي وأنا أنطق.
“كم عدد الخطط التي أعددتها من أجلي؟”
كم تبقّى من الطرق التي أستطيع بها الإفلات من قبضتك؟
منذ أن سمعتُ تلك الكلمات من الآنسة مارتينا…
بل ربما منذ يوم حفلة الشاي نفسه، وهذا السؤال يلازمني في زاويةٍ من عقلي والآن خرج نصفه فقط إلى الهواء.
أما الدوق، فمال برأسه قليلًا، ويده لا تزال تلامس وجنتي، كأنه لم يفهم ما أقصده.
لكن على الرغم من براءة ملامحه، خرج صوته رائقًا وواثقًا
“الالتحاق بالأكاديمية، أو بالمدرسة الحربية، أو أن تصبحي زهرة المجتمع الراقي كما أنتِ الآن، أو أن ترافقيني إلى الشمال لتحظي بحياةٍ هادئةٍ حرّة، وأخيرًا… العودة إلى مملكة لامور خمسة خيارات، أليس كذلك؟”
كانت كلماته تنساب بسلاسةٍ تامة، وكأنها جوابٌ كان قد أعدّه سلفًا، حتى شعرتُ بالاختناق.
فعلى عكس ما أظنه عنه—بأنه مثلـي قد عاش حياةً سابقة—فهو لا يرى فيّ سوى طفلةٍ في السادسة من عمرها، لذا لم يكن ليتوقع مثل هذا السؤال.
ومع ذلك، أجاب بهذه السلاسة التامة… أي أنه فكّر طويلًا وعميقًا في مستقبلي، لدرجة أنه يستطيع الردّ بلا تردد حتى على سؤالٍ مباغت كهذا.
“ولماذا؟”
لم تُفاجئني الخيارات الأربعة الأولى، فهي كلها مسارات تبقيني داخل دائرة تحكّمه ومن الطبيعي لمن يجد متعته في التحكّم بحياة الآخرين أن يتخيّل مثل تلك الطرق.
أما الذهاب إلى الشمال معه، فلا أعلم ما يعنيه تحديدًا.
لكن عودتي إلى مملكتي… فذلك أمرٌ مختلف تمامًا فمهما كانت مملكة لامور تابعة للإمبراطورية وتخافها، فالمسافة المادية بيننا تبقى قائمة.
والذين يرغبون في التحكّم بحياة غيرهم لا يحتملون أن يبتعد هدفهم عن مجال رؤيتهم يريدون دومًا أن يبقوا الطرف الآخر في متناول أيديهم، ليتمكّنوا من مراقبة كل حركةٍ وسكنة.
فلماذا إذًا وضع الدوق ضمن خططه خيارًا يعيدني إلى مملكتي؟
“بصدق؟”
“بصدق.”
أبعد يده عن وجنتي، رفعها أمامه، ثم ابتسم برفق.
“لأنني أتساءل إن كنتُ قادرًا على جعلكِ سعيدة.”
كدتُ أترنّح رمشتُ بضع مرات حتى أستعيد وضوح بصري.
لو لم يكن ذلك الكلام مصحوبًا بتحكّمه الكامل في حياتي، لربما تأثرتُ به حتى البكاء.
“هل أبدو بائسةً لهذه الدرجة؟”
“لا أقول إنكِ بائسة، لكنك بالتأكيد لا تبدين سعيدة.”
“وإن قلتُ إنني سأجعل نفسي سعيدةً بنفسي، هل ستصدقني؟”
بالطبع لا فأنا لم أكن يومًا سعيدة طوال خمسةٍ وستين عامًا من حياتي.
لكن الدوق لا يحتاج إلى معرفة ذلك وما إن قلتُ تلك الكذبة الجريئة حتى ارتسمت ابتسامة جانبية على فمه.
“كلا، هذا مستحيل.”
اللعنة، لقد كشف أمري ما الخطأ الذي ارتكبته؟ لا أظن أنني أظهرتُ تذمّرًا أو شكوى من حياتي…
قال الدوق بنبرةٍ هادئةٍ متزنة
“لقد قلتُ لكِ من قبل إنني ضعيف أمام أمثالك.”
آه، هذا صحيح… هل كان يقصدني أنا إذن؟ لا الآنسة مارتينا؟
“ولذلك فأنا أعرف جيّدًا هذه الفئة من الناس — أمثالك لا يمكنهم أن يصبحوا سعداء بمفردهم أبدًا.”
انخفضت عيناه قليلًا، وبرودة نظرته كانت غريبةً إلى حد أنني لم أعد أفرّق هل ما فيها غضبٌ أم ضجر.
“لأنهم لا يملكون الدافع إلى أن يكونوا سعداء من الأساس.”
أغمض الدوق عينيه للحظة، ثم فتحهما من جديد، وقد عاد الدفء إلى نظرته كما كانت لكنّ البرد ظلّ يجتاح ظهري كما لو سُكبت عليه دلاءٌ من الجليد.
“قولي لي، بأنك تريدين أن تصبحي سعيدة.”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 58"