جلست إلى الطاولة أتابع مجرى الحديث وأنا أساير الكلام بردود مناسبة، محاوِلةً فهم سير الحوار والاندماج فيه، حتى جاء الخادم بعد قليل يحمل الشاي الذي أعدّه بعناية.
فانحنت نحوي الطفلة الهادئة ذات الضفيرتين، الجالسة إلى يساري
“هل هو شاي إلتين؟”
أن تتعرف على نوع أوراق الشاي بمجرد استنشاق رائحته، فذلك يدل على مهارة كبيرة.
“نعم، صحيح لقد عرفته من الرائحة فحسب، هذا مذهل حقًا.”
“لقد تذوقت أنواعًا كثيرة من الشاي… ولكن، مع ذلك، أليست إلتين اختيارًا جريئًا لمن في سنّك؟”
“لقد أوصى لي به صاحب السمو الدوق.”
قلت ذلك لأُبرز علاقتي بالدوق غير أنّ التوصية بهذا النوع من الشاي لطفلة صغيرة قد يُفهم على أنّها نوع من التضييق، لذلك احتسيت رشفة صغيرة ثم ابتسمت بلطف وأضفت
“ذوقي وذوق صاحب السمو الدوق متشابهان إلى حدٍّ كبير.”
يبدو أنّ مقصدي وصل إليها، إذ ابتسمت الفتاة ابتسامة خفيفة.
“إن كان شاي إلتين يعجبكِ، فعليكِ تجربة لو بلان أيضًا.”
“لو بلان؟ حسنًا، سأجربه في المرة القادمة إذًا.”
لو بلان؟ لم أسمع بهذا النوع من قبل لكنني ظننت أني لو طلبت من الخادم فسيجد لي ما أريد غير أنّ الفتاة هزّت رأسها مبتسمة ابتسامة خفيفة.
“كلا، لن تجديه هنا إنه مرّ بعض الشيء على الأطفال ولكن إن رغبتِ، يمكنني أن أُهديك بعضًا من أوراقه.”
كان من الممكن أن أطلبه لاحقًا من الدوق أو من الآنسة مارتينا لو عرفت اسمه فحسب، لكنّ الأمر لم يكن متعلّقًا بالشاي نفسه، بل بالفرصة التي يتيحها التواصل المتبادل.
“آه، صحيح! أنا سيرا باين دو وايرس الابنة الكبرى لأسرة دو وايرس النبيلة.”
كان من المفترض أن تقدم نفسها حين جلستُ إلى الطاولة، لكن يبدو أنهم جميعًا يعرفن بعضهن بعضًا، ولصِغَر سنّها لم يخطر ببالها ذلك.
“آه، صحيح أنا لورا ساندبرغ ويلينغدون، الابنة الثانية لأسرة إيرل ويلينغدون.”
في حياتي السابقة، ما كان ليحدث شيء كهذا.
حينها، كنت لأوبّخهنّ بغضب بغضّ النظر عن مكانتهنّ أو أسرتهنّ، لكنّ ذلك كان في الماضي، أما الآن فمررت بالأمر برفق.
“أما أنا، فاسمي بلانش روا فاندالوين، أميرة مملكة لاموراي.”
كانت على وجوه الفتيات نظرات تقول: “ولمَ تذكرين شيئًا نعرفه جميعًا؟”
لكن تبادل الأسماء والنَّسب بين من يلتقون لأول مرة جزء من آداب اللياقة ربما سيدركن ذلك حين يكبرن قليلًا.
“يبدو أنّ الآنسة دو وايرس على دراية كبيرة بفن الشاي.”
وضعت الآنسة دو وايرس يدها على فمها وضحكت برصانة.
“في الحقيقة، أنا ملمة أكثر بالنباتات فأخي عالم نبات.”
علم النبات… حين سمعت ذلك، تذكرت الشخص الذي استحوذ على جزء من تفكيري منذ أن ذُكر اسم شركة جوليان التجارية قبل قليل.
“آه، صحيح أعرف أحدهم أيضًا، وهو مختص بالأعشاب الطبية، وكان مهتمًا كثيرًا بالشاي.”
لم أفصح عن كل ما أعرفه، بل تركت كلامي مفتوحًا عمدًا وكما توقعت، التقطت الطرف الذي تركته لها.
“حقًا؟ ربما سمعتُ به من قبل ما اسمه؟”
في تلك اللحظة، رفعت فنجاني وارتشفت رشفة صغيرة، محافظَةً على توازنٍ دقيق: لا أبدو مترددة، ولا مستعجلة.
ثم فتحت شفتيّ بعد لحظة صمت مدروسة
“الأميرة ديلايلا.”
“ ديلايلا ؟ هل تقصدين ديلايلا كلسيوم؟”
يبدو أنّها تعرفها بالفعل وهذا طبيعي، فالأميرة ديلايلا كانت حديث الأوساط الأكاديمية بعد أن نشرت بحثًا حول تأثير نبتة برايكن التي لم تكن تنمو في الإمبراطورية لَتَايل، وكان البحث عن طريقة تناولها وتأثيرها موضع اهتمام واسع.
قد لا تكون الآنسة دو وايرس بلغت السن الكافي لقراءة ذلك البحث، لكنها على الأقل سمعت باسم الأميرة.
“نعم.”
“وهل تعرفينها شخصيًا؟”
“إنها تقيم في القصر الإمبراطوري بصفتها مبعوثة سلام.”
كان من الطبيعي ألا تعرف الآنسة دو وايرس الصغيرة مكان إقامة الأميرة ديلايلا ، على عكس شقيقها الأكبر مثلًا.
لكن حين علمت أنها قريبة إلى هذا الحد، اتسعت عيناها دهشة.
“في القصر الإمبراطوري؟ ومنذ متى؟”
“منذ اعتلاء شقيقي العرش فقد كانت تلك المرة الوحيدة التي استقبلنا فيها وفد سلام.”
وعندها، انضم الدوق من الطاولة المجاورة إلى الحديث.
في الظروف العادية، كان ذلك ليُعد قلة أدب لا تُغتفر، لكن لا أحد في هذا المكان يجرؤ على توبيخ الدوق على تصرف كهذا ولم أكن أعرف السبب في ذلك.
لذا، شارك الدوق في الحديث بكل بساطة وهو يحمل فنجانه في يده.
“إنّ جلالته يبذل دائمًا أقصى جهده من أجل ازدهار الإمبراطورية وتقدمها.”
لو سمع أحد كلام الدوق وحده لظنّ أن بعثة السلام ما هي إلا وسيلة لاستقطاب المواهب، مع أن الحقيقة أنها أشبه بالأسرى.
لكن في كل الأحوال، كان ارتفاع مكانة مبعوثي السلام أمرًا يصب في مصلحتي أيضًا، لذا أيّدت كلامه.
“بالضبط، فالقصر الإمبراطوري يعجّ بالأشخاص المميزين، وليس الأميرة ديلايلا فحسب.”
“بل وحتى الأميرة بلانش نفسها تُعد من أذكى الشخصيات إنّ التحدث معها يكشف دومًا عن عمق معرفتها.”
كان صوت الدوق واضحًا ونقيًّا يسهل تمييزه، ولعل ذلك بفضل دراسته لفن الإلقاء.
ورأيت الأنظار تتجه نحوي شيئًا فشيئًا، فتنحنحت قليلًا وأطلقت صوتي بأقصى صفاء ممكن لا يمكن أن أضيّع الفرصة بعد أن مهد لي الدوق الطريق.
“أنتم تبالغون، لقد تعلمت فقط مما علّمني الآخرون بلطف.”
تبدو كلمات تواضع، لكنها في جوهرها اعتراف بذكائي.
“أوه؟ هل سموّ الأميرة بلانش تهتم بالتحصيل العلمي إذن؟”
سألتني الآنسة ويلينغدون، صاحبة النظارات التي كانت قد رحبت بي عند وصولي، بعينين لامعتين.
“لا أعلم بعد، لم أحدد تخصّصي بعد.”
في الحقيقة، لا أظن أن مستقبلي سيكون في المجال الأكاديمي أصلًا.
لكن من أسلوب حديث الآنسة ويلينغدون، بدا أنها تنتمي إلى أسرة من العلماء، ولذلك فإن إظهاري اهتمامًا بالعلم سيساعدني على توطيد علاقات جيدة.
ثم إنني حقًا كنت أملك معرفة واسعة في مجالات مختلفة.
“في مثل هذا العمر، من المبكر تحديد التخصص — ثم إنك لم تصلي بعد إلى سن الالتحاق بالأكاديمية.”
يبدو أنني بالغت قليلًا في التظاهر، إذ ضحكت الآنسة ويلينغدون بخفة عندها فقط علمت أن الالتحاق بالأكاديمية هنا له سن محدد، خلافًا لما كان في الإمبراطورية جين.
مع أنني لم ألتحق بأي معهد حتى في ذلك الوقت.
“على كل حال، إن رغبتِ في دخول الأكاديمية مستقبلًا، أخبريني فجدي يشغل منصب عميد الأكاديمية الوطنية، وقد أستطيع مساعدتك.”
ربما لن أسلك طريق العلماء ولن أدخل الأكاديمية، لكن وجود صلة بعميد الأكاديمية الوطنية فرصة ثمينة.
فحتى إن لم أكن طالبة هناك، يمكنني تكوين علاقات مع الأساتذة أو الخريجين، مما يتيح لي فرصًا كثيرة لاحقًا.
وهو ما قد يساعدني على دعم العلماء الذين يعملون في قصر جاسبر أيضًا.
ومن الطريف أني، حين فكرت بالأمر، أدركت أن ما أفعله يصب في خدمة ازدهار الإمبراطورية كما قال الدوق، رغم أنني لستُ إمبراطورة، ولا حتى من رعاياها.
ومع ذلك، كانت هذه فرصة رائعة بالنسبة لي، ففتحت عينيّ على اتساعهما، ووضعت يدي على فمي تعبيرًا عن الدهشة، وقلت بحماس
“حقًا؟! مجرد سماع ذلك يسعدني للغاية، شكرًا جزيلًا لكِ.”
على أي حال، جميع الحضور في هذا المكان هم أطفال لا تتجاوز أعمارهم العشر سنوات.
ولأنّه من غير الممكن الحصول على التزام جاد منهم، اكتفيت بتقديم الشكر بطريقة مناسبة، وأنهيت الحديث بمجرد تدوين بعض الملاحظات في ذهني حول أسرة ويلينغدون.
بعد أن تذوّقت الشاي الذي أوصاني به الأطفال وتبادلت التحيات مع جميع الحاضرين، توجهت أخيرًا نحو الطاولة التي كان يجلس عندها الدوق.
كنت أظنّ أنّه مع اقتراب نهاية حفلة الشاي، سيكون من المناسب أن أختمها برشفة أخيرة برفقته، إذ ستضفي صورة جميلة على المشهد.
“أنتِ حقًا تعرفين كيف تلتقطين أجواء المكان جيدًا.”
يبدو أنّ الدوق أيضًا شعر بأن هذه ستكون آخر رشفة، فقد ابتسم بخفة فور جلوسي إلى الطاولة وبدأ حديثه.
“لا أعلم كيف كانت حفلة الشاي بالنسبة لصاحب السمو الدوق، أما أنا فاستمتعت بها كثيرًا.”
ومن خلال حديثي مع الأطفال، أدركت أنّ غالبية الحاضرين اليوم هم من الذين ينوون السير في طريق العلماء، أو أنهم وُلدوا في أسر علمية أصلاً.
أما الآنسة مارتينا فربما لم تكن تعرف عن جماعة العلماء المقيمين في قصر جاسبر، لذا يبدو أن حضورها كان مصادفة.
على أي حال، بما أنّ موضوعات الحديث كانت في نطاق معرفتي العلمية، كان من السهل عليّ المشاركة في الحوار، مما جعل الحفل ممتعًا إلى حد كبير.
لو لم أكن قلقة بشأن تحيّز الصداقات، لكنت فضّلت أن أقتصر على تكوين علاقاتي مع الحاضرين فقط.
لكن، بالنسبة للدوق الذي حضر الحفلة خصيصًا من أجلي، كان من الطبيعي أن تكون هذه المواضيع غير مثيرة لاهتمامه، إذ لم أرَ منه أي اهتمام بالعلم من قبل، بغضّ النظر عن ذكائه الواضح.
“كان لعطر الشاي أثره الطيب.”
أجاب الدوق، لكنه بدا وكأنه يلمّح إلى أنّ الحفلة نفسها لم تكن ممتعة بالنسبة له.
هممم… هذا شعور يجعلني أظن أنّ عليّ تقديم شيء مقابل ذلك، وهو أمر مزعج فبصفتي مجرد رهينة، لا يمكنني تقديم أي مقابل للدوق.
وبسبب العادات المتجذّرة منذ حياتي السابقة، شعرت بالقلق والانزعاج بلا سبب، حتى جاء شخص ليملأ هذا الفراغ.
التفت لأرى إن كانت الآنسة مارتينا قد أتت لتجلس معنا، لكنّ ما وجدته كان شخصًا غير متوقع يجلس هناك.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 54"