اتسعت أعين الاثنين في الوقت ذاته مندهشين من كلامي غير المتوقع.
“قلت لنكسره آنسة إلكترا، هل لديكِ أداة يمكنك بها كسر هذا الحجر أم لا؟”
“أجل، بالطبع لدي، لكني سمعت أن حجر اليَشْم يجب التعامل معه بحذر شديد، فيُنحَت من الخارج شيئاً فشيئاً.”
“لكن الأمير لاترو يرى أن هذا ليس يَشْمًا، أليس كذلك؟ إذن، إن كُسِر واتضح أنه يَشْم وفقد شيئاً من قيمته، فذلك أمر سيتحمله الأمير، صحيح؟”
“صحيح، ولكن إن كان في داخله معدن نادر، فقد يتضرّر لو كُسِر هكذا—”
“الآنسة إلكترا، وهي المتخصصة في علم المعادن، حكمت بأنه يَشْم فإن لم يكن كذلك، فلن يكون في داخله ما ينفعها على أي حال وبالمثل، بما أنها واثقة أنه يَشْم، فإنها ستتحمل الخسارة لو لم يكن كذلك، أليس كذلك؟”
كان كلامي منطقياً تماماً، فلم يجدا ما يقولانه.
طبيعي، فطالما كلٌّ منهما يُصر على أن الحجر من حقّ الآخر، فلا يمكن الاعتراض إن أراد أحدهما تحطيمه.
“آنسة إلكترا، تفضّلي، اكسرِيه.”
ترددت قليلاً، ثم التقطت الحجر الذي كانت قد أسقطته سابقاً.
آه، هكذا إذن… لم تكن تعبث به عبثاً، بل لأن الخلاف كان بسببه.
وبالفعل، أظهرت خبرتها كعالمة معادن في سرعةٍ مدهشة أثناء قطعها للحجر.
لا أعلم كيف استطاعت، بتلك الذراع النحيلة، أن تشطر صخرةً كهذه، لكن باستخدام أداةٍ لم أفهم آليتها تماماً، وبعد أن شدّت بعض المسامير وحرّكت شفرةً دقيقة، انقسم الحجر بسهولةٍ كأنها تقطع قالب توفو.
وعندما انكشف سطحه الداخلي، تلألأ بألوانٍ غريبةٍ بديعة.
“إنه اليَشْم.”
قلت ذلك بهدوءٍ مقتضب حتى الآنسة إلكترا، التي كانت تزعم أنه يَشْم، لم تبدُ مسرورةً تماماً، لكني لم أبالِ كثيراً.
انتظرتُ قليلاً علّهما يتبادلان الحديث، لكن الصمت طال، فاضطررت إلى رفع صوتي بنبرةٍ صارمةٍ من جديد.
كم كان هذا المشهد يعيد إليّ ذكريات الجلسات الرسمية التي كنت أضطر فيها إلى تهدئة نزاعاتٍ سخيفة بين المسؤولين حول كلماتٍ تافهة، فيملؤني الأسى.
أي ذنبٍ اقترفتُه في حياتي السابقة لأُبعث من جديد لأؤدّب بالغين مرةً أخرى؟
“صاحب السمو الأمير لاترو، اعتذر واشكر الآنسة إلكترا.”
“… كنت مخطئاً أعتذر لأني قلّلت من شأن بصيرتك، وأشكركِ على هديتكِ القيّمة.”
ربما لأنني كنتُ حاضرة، أو لأنه علم أني لن أتساهل هذه المرة، بدا الأمير لاترو هادئاً مهذباً كما هو في العادة.
وربما لهذا السبب تحديداً، استجابت الآنسة إلكترا بلُطفٍ مماثل وهي تتقبل اعتذاره.
“لا بأس، وأنا أيضاً أعتذر لأنني رفعت صوتي بسهولة … وبالمناسبة، شكراً على حجر الميكا الأبيض الذي أهديتني إياه من قبل، فقد استطعت بفضله إجراء التجربة الحادية والخمسين لإزالة المعادن الثقيلة.”
وهكذا، بعد جهدٍ، نجحت وساطتي أخيراً، وبدأ الاثنان يتحدثان بنبرةٍ هادئةٍ ولطيفةٍ نادرةٍ بينهما.
وبعد أن تأكدتُ من أنّ الجوّ بينهما استقرّ، غادرت المختبر.
“… ما زلت لا أفهم.”
لقد تأكدت من أن علاقتهما ليست سيئة كما تخيّلت، لكن… هل يمكن أن يكون هذا هو الحب فعلاً؟ لا، ما زلت لا أستطيع تصديقه.
في نظري، الحبّ يعني أن تمتنع عن كل ما يؤذي من تحبّ، أن تُكرّس نفسك له بصمت، أن تخفي مشاعرك حتى لا تلمسها نسمات الريح، وألا تدع ظلك نفسه يُفشيها.
“آه، الآن فهمت.”
فجأة أدركت السبب الذي جعلني لا أستوعب أمراً بدا لتولا بديهياً جداً.
لأن الحبّ الذي عشته طوال حياتي لم يكن عادياً.
ففي حياتي، كان الحبّ يعني الكتمان، والإخفاء، والسكوت.
إذن، ليس جهلي بما يفعلانه هو ما جعلني لا أفهمهما.
بل لأنني، ببساطة، لم أختبر قطّ النوع الآخر من الحبّ الذي يعبّر عنه الناس بصراحةٍ ووضوح.
كنت فقط أتقبّل بعقلي ما يقوله الناس عن الحبّ، أنه شعور يدفعك إلى الاهتمام بالآخر والحرص عليه، دون أن أفهمه بقلبي حقاً.
لذلك لم يكن ما أحتاجه هو المراقبة كما ظننت.
“… لا مفرّ إذاً من سؤال الدوق بنفسه.”
إن كان ما يفعله الدوق مع الآنسه مارتينا من مزاحٍ خفيفٍ نابعٍ من الحبّ أم لا، فلن أستطيع معرفته وحدي.
الطريقة الوحيدة هي أن أسمع منه مباشرة.
حتى لو كذب عليّ، فلن أقدر على اكتشاف الكذب، لكن لا طريق آخر أمامي.
فأنا حقاً لم أعرف في حياتي سوى نوعٍ واحدٍ من الحبّ — ذلك الذي يُخفى في الظلال.
***
صادف أن اليوم التالي كان من أيام شاي بعد الظهر مع الدوق ولأجل أن أفتح الحديث عن الآنسة مارتينا، قررتُ أن أرتدي السوار الذي وعدتُ بارتدائه لأول مرة في حفلة الشاي معها.
“هم؟ ما الأمر حتى ترتدين زينة اليوم؟ رغم أن لونها يليق بلون شعرك.”
وكما هو متوقع من دوقٍ يتمتّع بملاحظة دقيقة، فقد أدرك وجود السوار بسهولة.
“إنه سوار الصداقة الذي صنعته مع الآنسة مارتينا كنا قد اتفقنا على أن نرتديه معًا في حفلة الشاي.”
ابتسم الدوق وهو يتفحّص السوار الذي كان يمسك بمعصمي.
“سوار صداقة؟ يبدو أن الآنسة مارتينا تحب فعل أمورٍ لطيفة كهذه.”
إذن فالدوق يرى مارتينا لطيفة وبينما كنتُ أحتفظ بهذه المعلومة المهمّة في ذهني، ذهب يمرر أصابعه على السوار متسائلاً بخفة
“هل أصنع لكِ واحدًا أنا أيضًا؟”
لم أكن أعلم إن كان يريد إحراجي أم أنه يرغب برؤية مارتينا وقد بدت محبطة.
لكن لو صنعتُ سوار صداقة معه، فسيتعيّن عليّ أن أضعه في المقام الأول، مما يعني أنني لن أرتدي السوار الذي أهدتني إياه مارتينا.
ولعلّ هذا هو مغزى مزاحه، لذا رددتُ عليه بهدوء
“بما أن لديّ ذراعين، فلا أرى في ذلك اختيارًا سيئًا.”
كانت تلك طريقةً مهذّبة للقول: سواء كان حبًّا أم مزاحًا، أرجوك لا تجرّني إلى الأمر.
“هاهاها!”
ضحك الدوق ضحكة خفيفة، ولم يبدُ عليه أيّ انزعاج، فقررتُ ألا ألتفّ حول الموضوع أكثر
“سمو الدوق.”
“أتحدّثي.”
“إن كنت تحمل في قلبك ميلًا نحو الآنسة مارتينا، فلتصارحني بصراحة أعدك بأن أساعدك.”
ظهر ارتجافٌ خفيف على وجه الدوق بعد سماع كلامي.
“الأميرة بلانش.”
“تفضل، سموك.”
“اعتبريه طلبًا أو أمرًا، كما تشائين، لكن أرجوكِ لا تشغلي نفسك بأمورٍ لا داعي لها.”
ليست هذه من الأمور التي لا داعي لها.
قد لا يدري الدوق، لكن الآنسة مارتينا تظن أن بيني وبينه شيئًا ما.
حتى إنها قالت إنها سترفضه إن أحبّها حفاظًا على صداقتها معي.
فإن تركنا الأمور على حالها، فلن تتحسن العلاقة بينه وبين مارتينا أبدًا.
وإن لم يكن يكنّ لها مشاعر، فالأمر لا يهم، لكن إن كان يعجب بها فعلًا، فعليه أن يوضّح ذلك الآن.
“ليست مسألة تافهة يا سموك ألم يبدأ النقاش بالفعل حول من ستكون دوقة المستقبل؟”
لو كان الدوق شابًا عاديًا وكانت مارتينا فتاة عادية، لما كان لذلك أيّ معنى.
إذ من المعتاد أن تُبرم الخطوبات في منتصف سنّ المراهقة وتُقام الزيجات في أوائل العشرينات.
لكن الدوق هو الدوق، واختيار دوقة الدوق يجري الآن على قدمٍ وساق.
“… بما أنك أثرتِ الموضوع، فكوني صريحة معي أنتِ تعلمين أن أبرز المرشحات هي أنتِ، أليس كذلك؟”
مرّر الدوق أصابعه على ما بين حاجبيه بتعب وقد بدا هذا التصرف منه ناضجًا على نحوٍ يجعلني أتساءل إن كان ينوي فعلًا إخفاء عمره الحقيقي.
“أعلم، ولهذا أسألك يا سموك.”
كما قال، فقد بدأت الشائعات بالفعل تربط بيني وبينه.
ومادامت الأسرة الإمبراطورية متورطة في الأمر، فمسألة كوني دوقة أم لا لم تعد بيدي.
لكن إن كان في قلبه ميلٌ نحو امرأة أخرى، فالوضع مختلف تمامًا.
إن كان يحبّ أحدًا، فعليه أن يقول لي قبل أن أُعلن خطوبتي عليه، لأن تراجعه بعد ذلك سيجعلني أنا الطرف المهجور.
“إن كان في خاطرك شخصٌ ما، فسأساعدك لتكونا معًا لذا لا تتردّد في إخباري.”
“هاه…”
أنزل الدوق يده من على أنفه وذهب ينقر بخفة على الطاولة.
“هل السبب أني لم أُهْدِكِ جوهرة؟ أليس واضحًا أني أكثر من يرحّب بكِ كمرشحة للدوقة؟”
كنتُ قد توقعت شيئًا من هذا القبيل، لكن سماعه مباشرة منه كان أمرًا آخر.
ولم أدرِ إن كنتُ عليّ أن أتنفس أم أتنهد بأسى حين أجبته
“لكنك لا تريد أن أتزوجك بدافع الحب، أليس كذلك يا سموك؟”
إن سرور الدوق بي كان على الأرجح لأنني أصلح أن أكون أكثر الدوقات كفاءةً، لا أكثر.
لكن هذا الدور أستطيع أن أؤديه حتى من دون الزواج منه، بأن أساند الزوجة التي سيختارها هو.
إذن، إن كان في قلبه ميلٌ نحو امرأةٍ أخرى، فليخترها هو بدلاً مني.
فأن أكون المساعدة الحرة خيرٌ من أن أكون الدوقة المقيّدة بالواجب.
تأملني الدوق برهة، ثم سأل بصوتٍ هادئ
“هل تحتاجين إلى ذلك؟”
هززتُ رأسي نفيًا، فربما ظن أنني أرفض هديةً ما، فقال من جديد
“لا، قولي لي ألم أقل إنني سأعطيكِ كل ما تحتاجينه؟ هل ما تحتاجينه هو… الحب؟”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 52"