في حالة الآنسة إلكترا والأمير لاترو، كان الناس يدركون بسهولة أنّ بينهما نوعاً من الإعجاب، لأن كلاً منهما، رغم شجارهما الدائم، لم يكن يتحمّل أن يتحدث الآخرون بسوء عن الطرف الثاني ومع ذلك كانا، رغم شجاراتهما المتكرّرة، يبحثان دائماً عن بعضهما البعض.
لكنّ هذا قد يكون مجرّد منافسة بين خصمين، أو مجرد اختلاف في الطباع فإذا كان الأمر مزاحاً، فربما يدلّ على الإعجاب، لكن قد يكون أيضاً تنمّراً متخفّياً بثوب المزاح.
“صحيح. … مشاعر الإنسان ليست شيئاً يمكن تلخيصه بكلمتين أو ثلاث.”
ظهر على وجه بلانش تعبير يوحي بإرهاقٍ ممزوجٍ بنوعٍ من الإدراك العميق.
كان وجهها يوحي وكأنها في الستين من عمرها، لا في السادسة، فرفعت تولا نبرتها عمداً، لأنها لم تكن تحبّ رؤية الأميرة الصغيرة وهي تتخذ ملامح لا تليق بعمرها.
“ما الذي تنوين فعله اليوم؟ لم تحددي جدولك بعد، أليس كذلك؟ هل تذهبين في نزهة بعد تدريبك البدني؟ الجوّ جميل اليوم.”
“كنت أفكر في زيارة مختبر الآنسة إلكترا والأمير لاترو لا أحبّ وجود متغيرٍ لا أتحكم به تحت سلطتي.”
… ثنائيٌّ بغيض بحق.
نطقت تولا بالشتيمة في سرّها، وهو أمر نادر منها لم تكن تفهم إطلاقاً لماذا تهتمّ أميرة لم تذق طعم الحبّ بعد بمثل هذه المشاحنات السخيفة التي تشبه شجارات العشّاق.
وكالعادة، كان كلٌّ من الآنسة إلكترا والأمير لاترو في مختبره، كما يليق بعلماء يأتون إلى عملهم يومياً بلا انقطاع.
تردّدت قليلاً، إذ بدا لي أن زيارة رجل في مختبره منذ الصباح ليست لائقة، فقرّرت أن ألتقي الآنسة إلكترا قبل الغداء، ثم أزور الأمير لاترو بعده.
وبما أنهما يستخدمان مختبري في قصرِي، فربما كان من الطبيعي أن يقبلا زيارتي المفاجئة برحابة صدر، وهو ما فعلاه حقاً.
“مرحباً بعودتك إلى المختبر، صاحبة السمو بلانش.”
كان مختبر الآنسة إلكترا، المتخصصة في دراسة المعادن، قاسياً، مظلماً، وذا جوٍّ مهيبٍ بعض الشيء كانت ألوان المعادن داكنة، وأدوات تفكيكها وتحليلها تذكّر بأدوات التعذيب أكثر مما تذكّر بالبحث العلمي.
“هل شعرتِ بالاستياء؟”
كان هذا الموقف يستدعي اعتذاراً لطيفاً، لكني اخترت بدلاً من ذلك أن أكون جريئة.
“عفواً؟”
بدت الآنسة إلكترا، التي كانت ترتب بعض العينات المعدنية، متفاجئة بردّي، فالتفتت إليّ، غير أنّها في تلك اللحظة بالذات أسقطت الحجر الذي كانت تمسكه.
صدر صوت ارتطامٍ أعلى مما توقعت، فسارعتُ إلى النهوض.
“هل أنتِ بخير؟”
ولحسن الحظ، لم تُصب قدمها، فالتقطت الحجر مجدداً بسلام.
“آه، نعم لحسن الحظ، الحجر لم يُصب بأذى.”
“لا، أعني…”
“آه، الأرضية تشققت قليلاً.”
“يمكن إصلاح الأرضية، لا بأس في ذلك كنتُ أسألكِ إن كنتِ قد تأذّيتِ.”
“آه!”
حقاً… هذا البرود الأكاديمي غريب في كل مرة حتى أنا أدرك أن السؤال في مثل هذا الموقف يقصد الاطمئنان على السلامة الجسدية.
“أنا بخير، آسفة إن أقلقتكِ.”
“بل أنا من أخافكِ—”
“ما هذا؟ هل حدث انفجار؟!”
وقبل أن أكمل اعتذاري، انفتح الباب فجأة دون استئذان وكان القادم هو الأمير لاترو، الذي كنت أنوي زيارته بعد الغداء.
“آه، صاحبة السمو بلانش هنا أيضاً … ولكن ما الذي حدث للتو؟ هل أصيبت الآنسة إلكترا؟”
… لحظة واحدة أيجرؤ على اقتحام غرفة امرأةٍ ناضجة دون استئذان هكذا؟ أيُّ رجلٍ متحضّر هذا؟
بغضّ النظر عن كون هذا حباً أو لا، كان لا بدّ من وضع الأمور في نصابها فجمعت كل ما أملك من صرامة في ملامح طفلة في السادسة، ونظرت إليه بوجهٍ جاد.
كنت في الأصل أريد فقط أن أعرف إن كانت مشاعر الآنسة مارتينا والدوق حباً حقيقياً، ولهذا فكرت أن أراقب حالة مشابهة بين شخصين مقربين في العلاقة مثل الأمير لاترو والآنسة إلكترا فبحسب ما قالته تولا، ما بينهما هو حب، لذلك ظننت أن مراقبتهما قد تساعدني على فهم قلب الدوق.
لكن ما رأيته أمامي الآن أثار فيّ دماء الإدارة والمسؤولية، فلم أستطع أن أتغاضى عن الأمر.
أياً يكن هذا الشعور، حبّاً كان أم غيره، فلا بد من مراعاة حدود اللياقة.
“صاحب السمو الأمير لاترو.”
يبدو أنّه التقط نبرة العتاب في صوتي، فاعتدل في وقفته فوراً.
“أعتذر عن مقاطعتي الحديث إن لم يكن هناك أمر طارئ، فسأنسحب…”
“تفضل بالجلوس.”
ارتجف قليلاً من نبرة أمري الحازمة، ثم نظر إلى الآنسة إلكترا متردداً كان عليه أن ينظر إليها قبل أن يفتح الباب لا الآن.
“صاحبة السمو، لا داعي، أنا بخير…”
“بصفتي مديرة قصر جاسبر، لستُ بخير ولقد كنت أنوي الحديث معكما على أي حال، فبما أنكما هنا، فلنجعلها جلسة واحدة اجلسا والآنسة إلكترا أيضاً، تفضّلا إلى هنا.”
كانت تلك معلومة سمعتها من تولا قبل قدومي، ولم تفاجئني كثيراً، فشجاراتهما تكاد تحدث يوماً بعد يوم.
“لكن هذه المرة كان الأمير لاترو هو الذي—”
“من المخطئ ليس مهماً، آنسة إلكترا.”
خفضت رأسها وهي تكتم احتجاجها.
“لقد مرّ عامان منذ أن أنشأتما مختبريكما هنا، ومع ذلك، هذه الجدالات لا تتوقف، بل تزداد وتيرتها وهذا هو موضع القلق.”
لولا أن تولا منعتني، لاتخذت إجراءً منذ زمن، حتى لو كان ما بينهما حباً فعلاً فمثل هذه النزاعات يجب أن تبقى خلف الأبواب، لا أمام الجميع.
في الأصل كنت أنوي التحدث مع كلٍّ منهما على حدة لأتحقق من حقيقة مشاعرهما، لكن بما أنهما أمامي الآن، فقد بدا لي أن مراقبتهما معاً قد تكشف الفارق بين الكراهية البحتة والعلاقة التي تخفي وراءها شيئاً أعمق.
“ظننت أنكما، رغم اختلاف مجاليكما في دراسة المعادن والأحجار الكريمة، تستطيعان تبادل المعرفة والاستفادة من بعضكما البعض ولهذا سمحت لكما بمختبرين متجاورين لكن إذا كان التعاون بينكما مستحيلاً، فربما عليّ أن أنقل أحد المختبرين إلى مكان آخر.”
“لا، هذا—”
“سنتصرّف بعقلانية.”
لم أكن قد حدّدت حتى من الذي سيُنقل، لكن مجرّد ذكر الاحتمال جعلهما يستسلمان فوراً مما يدل على أن علاقتهما ليست سيئة تماماً.
“أعتذر… لم أنتبه لما حولي سأكون أكثر حذراً من الآن فصاعداً.”
حقاً، من الصعب فهم السبب الذي يجعل شخصين بهذا القدر من الذكاء واللباقة يتحوّلان إلى وحشين عند التعامل مع بعضهما البعض زففت أنفاسي وسألت
“حسناً لا بأس، فالاحتكاك أمر طبيعي في البحث العلمي، لكن كثرة الشجارات لا تُحتمل فما الذي حدث البارحة بالضبط؟”
تبادل الاثنان النظرات بصمت، مترددين في الكلام.
“سأعرف على أي حال من الآخرين، فلتقولا لي أنتما بنفسيكما.”
“… الآنسة إلكترا أهدتني حجراً معدنياً.”
“قلت لك إنه جَوهَر يا هذا!”
“وأنا قلتُ إنه مجرّد حجر.”
“أنتم الاثنان.”
أوقفت الجدال بين الاثنين قبل أن ترتفع أصواتهما أكثر، ومنحت الكلمة للأمير لاترو الذي بدا أكثر هدوءاً.
“كما قلت، أمس أهدتني الآنسة إلكترا حجراً أكبر قليلاً من قبضة اليد قالت إن هناك تاجراً يخلط بين أنواع مختلفة من المعادن في تجارته، وإن من بين المعادن التي اشتراها مؤخراً كان هناك حجر يشبه اليَشْم، وقد يفيدني في بحثي.”
“هل شكرتها على ذلك؟”
الأمير لاترو الذي أعرفه عادةً لا ينسى أن يبدأ بالامتنان، فهو يدرك جيداً أن قيمة الهدية ليست في محتواها، بل في نية من يقدمها.
“ذلك…”
“إذن، لم تفعل.”
إن كان لا يقدم حتى أبسط كلمات الشكر، فحتى لو كان ما بينهما حباً، فما جدوى مثل هذا الحب؟
لكن الآنسة إلكترا، التي لم تدرك الشك الذي خطر ببالي، ظنت أنني أتحدث عن آداب التعامل فحسب، فسارعت إلى تبريره.
“ليس الأمر كذلك نحن نتبادل مواد البحث فيما بيننا باستمرار… لذا لم نرَ حاجة لأن نبالغ في عبارات الشكر في كل مرة.”
رغم أنني رأيت أن العلاقات الوثيقة تستوجب التعبير عن الامتنان بوضوح أكثر، إلا أنني اعتبرت الأمر بسيطاً ما دام هناك تفاهم بينهما.
“حسناً، ثم ماذا حدث بعد ذلك؟”
“ذلك الحجر من نوع اليَشْم، لو كان فعلاً كذلك، فهو نادر للغاية لذلك فحصته بعناية، لكن بدا لي أنه لا يحتوي على اليَشْم إطلاقاً فقررت أنه لا حاجة لي به وأعدته إلى الآنسة إلكترا.”
“قلت لك أن تحاول نحته أولاً لترى! لو كان يَشْماً حقيقياً فسيظهر بمجرد أن تُقَلِّم سطحه قليلاً!”
“وإن لم يكن كذلك؟ إن كان مجرد حجرٍ عادي فكل ما سأفعله هو إضاعة وقتي، ثم إنه من مقتنياتك أنتِ ولو كان بداخله معدن نادر، فإن معالجته كما يُعالج اليَشْم قد يتلفه تماماً.”
“لقد كان هديةً مني لك، حتى وإن لم يكن بداخله يَشْم بل شيء آخر، فالأمر من اختصاصك أنت الآن.”
حسناً، يبدو جلياً أن كلاً منهما يحمل مشاعر تجاه الآخر، لكن أحاديثهما ما زالت في نظري أقرب إلى مشادات بين خصمين منها إلى حديث عاشقين إن كان هذا حباً، فلابد أن أول طفلٍ حاول التقرّب مني في الماضي كان مغرماً بي أيضاً.
ترى، هل تولا لا تدرك بعد صِغر سنّها أن مشاعر الناس لا تقتصر على الحبّ وحده؟ أم أنني أنا، لأنني أحببت شخصاً واحداً فقط، لا أستطيع أن أقبل بوجود أشكال أخرى من المودة؟
مهما يكن، فقد أدركت أنني لا أستطيع فهم أولئك الذين «يعبّرون عن إعجابهم بالمشاكسة»، فقررت أن أتدخل لإنهاء الموقف.
“إذن، الأمير لاترو كان يرى أن الحجر ليس يَشْماً، ولذلك أراد أن تعودي لاستخدامه أنتِ في بحثكِ، بينما الآنسة إلكترا كانت تعتقد أنه يَشْم، وأرادت أن يقوم الأمير بنفسه بصقله ليتأكد من ذلك، أليس كذلك؟”
“أه… يمكن القول ذلك، نعم.”
“يمكننا تلخيص الأمر بهذا الشكل.”
أخذت نفساً عميقاً ثم قلت بحزم
“إذن، اكسروا الحجر.”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 51"