ما إن عدتُ إلى القصر حتى ارتميت على السرير دون أن أبدّل ثيابي.
“يبدو أنك متعبة جداً، يا سموّك؟”
سألت تولا وهي تفكّ شريط الفستان عني ولم يكن غريباً أن تتساءل — فبعد لقائي بآنسة مارتينا فقط، كنت منهكة كما لو أنني استقبلت الدوق ثم جلالة الإمبراطور واحداً تلو الآخر.
“تولا.”
“نعم، يا سموّك.”
“هل تجدين صعوبة في إعداد ثيابي؟”
بدت متفاجئة من سؤالي المفاجئ، فتأخّر جوابها قليلاً.
“آه، لا، إطلاقاً. لِمَ تسألين؟ هل حدثت مشكلة في اختيار الأزياء…؟”
كنت مغمضة العينين، لكنني كدت ألمس القلق في الجو من حولها يا لي من شخص يُساء فهمه كثيراً اليوم لم أملك حتى القوة لرفع يدي، فهززت رأسي بخفة.
“لا، ليس الأمر كذلك اختياراتك دائماً مثالية أعني أنني، إن لم يكن في الأمر مشقة عليك، أودّ أن أترك لك مهمة إعداد ثيابي من الآن فصاعداً.”
في طريقي للعودة، أدركت أن السبب في أنني لم أشعر بالتعب من خياطة الثياب في حياتي السابقة لم يكن فقط قلّة الخيارات المتاحة، بل لأنني كنت نادراً ما أتدخل في ذلك بنفسي.
عندما منحني جلالته مئة لفة من الحرير وأمرني أن أصنع منها ثياباً، كنت مضطرة حينها إلى الإشراف على التصميمات والتطريزات بنفسي.
لكن فيما عدا تلك الحالات الخاصة، كنت عادة أترك أمر ملابسي لزوجي فرغم قلة الخيارات، إلا أن إعداد مجموعة كاملة من الثياب — الرسمية واليومية وثياب النوم وغيرها — كان بلا شك أمراً مزعجاً.
ولذلك، ما لم يكن الأمر متعلقاً بنصيحة آنسة مارتينا، فإن ترك مهمة الملابس لتولا سيكون عوناً كبيراً لي.
أما إن وجدت تولا أن الأمر متعب، فربما كنت سأفكر بتعيين إحدى الوصيفات لتتولى ذلك عنها.
“بالطبع، يا سموّك ما دمتِ تحتاجين إليّ في ذلك، فسأقوم بأي شيء تطلبونه.”
كانت كلماتها حقاً مؤثرة، لكنني تحدثت بصرامة رغم ذلك.
“أقدّر إخلاصك، لكن عليك أن تخبريني إن شعرتِ بالتعب أنتِ بمثابة يدي اليمنى، شخص ثمين لا غنى لي عنه سيكون خسارة إن شغلتِ نفسك بأمور يمكن لغيرك القيام بها، بينما تتركين المهام الأهم.”
لا أعلم ما الذي قالته بعدها، فقد بدأتُ أفقد وعيي شيئاً فشيئاً بعد أن أنهيت كلامي.
في الغالب، لم تقل سوى كلمات شكر أو طمأنة كان من الواضح ما ستقوله في مثل هذا الموقف، لذا لم أجد داعياً لانتظار ردّها، وذهبت إلى عالم النوم.
كان من السهل معرفة أن الطفلة قد نامت أنفاسها غير المنتظمة أصبحت هادئة ومنتظمة، واسترخى جسدها تماماً.
لا أعلم إن كانت تدرك ذلك أم لا، لكن الصغيرة لم تكن تعرف كيف تُرخي جسدها إلا عندما تنام حقاً حتى عندما تنهار من التعب، يبقى ظهرها مستقيماً وكتفاها مرفوعتين.
الوقت الوحيد الذي كانت تتخلّى فيه عن كل توتر هو حين تنام.
“يا سموّك… طالما كان الأمر من أجلك فلن يكون متعباً أبداً.”
همست تولا بكلمات لن تصل إلى مسامع أحد، وابتسمت برقة.
ربما كان في قولها جرأة، لكنها كانت تنظر إلى بلانش كأنها طفلتها المفقودة.
كانت توقظ بلانش كل صباح، تساعدها في غسل وجهها، تختار لها ما ترتديه، ثم في المساء تُبدّل لها ملابسها، وتغسلها، وتغني لها لتنام.
وكما قالت بلانش ذات مرة، لم تكن تولا مضطرة للقيام بكل ذلك.
فـبلانش في السادسة من عمرها، وطفلة ناضجة بالنسبة لعمرها تستطيع اختيار ثيابها بنفسها وغسل وجهها، وحتى في أشد حالات التعب كانت، إن أيقظتها، تغتسل وتبدّل ملابسها بنفسها قبل النوم.
حتى لو كانت تولا مربية، لم يكن من الضروري أن تهتم بها بهذا الشكل الدقيق بعد الآن وإن احتاجت بلانش إلى المساعدة فعلاً، فهناك خادمات أدنى رتبة يمكن أن يُكلفن بذلك فـتولا لديها الكثير من المهام الأخرى التي أوكلتها إليها بلانش.
ومع ذلك، وحتى الآن، بعدما أصبحت أقرب إلى كونها يدها اليمنى من كونها مربيتها، ما زالت تولا تغسلها وتلبسها بنفسها وتعتني بها بحنان — لأنها تحبها.
ولهذا، فإن تلك الأعمال البسيطة التي لا ضرورة لها أصبحت بالنسبة لتولا لحظات ثمينة تخفف تعبها تماماً كما الآن، وهي تمسح على شعر الطفلة النائمة لتُغرقها في نوم أعمق.
“لذا، سموّك يمكنك أن تطلبِي مني أي شيء تشائين.”
قالت ذلك وهي تطفئ الضوء، ثم بدأت تدندن ترنيمة هادئة بلا مستمع، في الغرفة التي غمرها ضوء القمر والنجوم.
وكان لحنها عذباً إلى حد أنّ من يسمعه — بل حتى من يغنّيه — لا بد أن يرى في حلمه أجمل الأحلام.
***
هل كان عليّ ألّا أعتبر ذلك مجرّد وهم من آنسة مارتينا؟
كان هذا أول ما خطر ببالي عندما استيقظت من نومٍ عميق في اليوم التالي.
“كنت مرهقة بالأمس، فلم أستطع التفكير جيداً…”
لا أذكر تماماً ما الذي قلته، لكن بما أن آنسة مارتينا أبدت تلك الاستجابة لمجرد بعض الكلمات المبعثرة التي تفوهت بها، فهذا يعني أن تصرّف الدوق يمكن بالفعل تفسيره بتلك الطريقة، أليس كذلك؟
“كنت أظن حتى الآن أن الدوق يحب شخصاً آخر مجهول الهوية.”
ذلك الشخص الذي يرى صورته فيّ دائماً كنت أظن أن الدوق يكنّ مشاعر لذلك الشخص — ذاك الذي لم يعد موجوداً، والمحفور في ذكرياته فقط.
ولهذا، كنت أعتقد أن من يحبّه الدوق لا علاقة له بي بل في الحقيقة، كنت أرى أنه إن كان ما يزال يحنّ إلى من رحل، فلن يحب أحداً آخر مجدداً، وهذا أمر مريح بالنسبة لي.
“لكن، هل يمكن أن لا يكون الأمر كذلك؟”
لا يهمّني إن كان يحب آنسة مارتينا أم لا، ولكن ما يهمّني هو: هل في حياته شخص يحبه حقاً؟ وإن وُجد، فهل هو ذلك الشخص من الماضي، أم شخص ما يزال حياً الآن؟
لأنّ الوضع الراهن يدفع الجميع إلى النظر إليّ باعتباري مرشّحة لأن أصبح زوجة الدوق.
لا بأس ما دام الأمر مجرّد ظنّ من المحيطين بي، لكن إن استمرّت الأمور هكذا حتى ينتهي بنا الأمر إلى الزواج فعلاً؟ ثم بعدها يقول الدوق إن قلبه متعلق بامرأة أخرى؟
“سيكون ذلك… مزعجاً حقاً.”
الزواج دون حب لا بأس به لكن الزواج من شخصٍ يحبّ غيرك هو أمرٌ صعب من نواحٍ كثيرة.
لهذا، قررت أن أتحقق من الأمر بنفسي — هل يمكن أن يكون للدوق مشاعر تجاه امرأة على قيد الحياة؟
“إن كان رجل يثير المشكلات دائماً مع امرأة بعينها، فهل يعني ذلك أنه يحبّها؟”
ما هو التصرف الصحيح الذي ينبغي على مربيةٍ أن تُظهره عندما تسمع مثل هذا السؤال من طفلةٍ في السادسة من عمرها تراها كابنتها؟
ربما توجد إرشادات رسمية لمثل هذا الموقف في الكتب، لكن تولا لم تكن تعرفها فتصلّبت في مكانها ولم تدرِ ما تقول، بينما تابعت بلانش تناول طعامها بهدوء تام، مطبّقةً آداب المائدة التي أتقنتها دون أن تحتاج تولا لتذكيرها.
“أمّمم… هل ضايقك أحد يا صغيرتي؟”
توقّفت بلانش عن تحريك شوكتها، ونظرت إلى تولا بوجهٍ يقول بوضوح إنها سمعت شيئاً لا يُصدّق.
“هل تقولين ذلك بجدّية؟”
وبالفعل، بعد أن سمعت تولا تعليقها، أدركت أن سؤالها كان سخيفاً فـبلانش كانت حتى في الثالثة من عمرها تثير بكاء الأطفال الآخرين.
لكن قلب الأم — أو المربية التي تحب بصدق — لا يستطيع أن يهدأ بهذه السهولة، فسألتها مجدداً لتتأكد
“على كل حال… لا يمكن الجزم، لذا أردت التأكد فقط.”
ورغم أن بلانش كانت ما تزال تنظر إليها بدهشةٍ طفولية، إلا أنها أجابت بإخلاص هذه المرة — ربما لأنها كانت تحترم تولا.
“لم أكن أتحدث عن نفسي.”
عند سماع هذا الجواب القاطع، زفرت تولا براحةٍ واضحة.
“أفهم… لكن ما الذي جعلك تفكرين في هذا فجأة؟”
“أما قلتِ لي سابقاً إنّ السيدة إلكترا والأمير لاترو يُحبّان بعضهما البعض؟”
“آه، نعم…”
مجرد تذكّر الاسمين جعل تولا تشعر بإرهاقٍ فوري هذان الاثنان اللذان لا يليق تصرفهما بعمرهما أو مكانتهما.
كيف يمكن لأشخاصٍ بهذه المكانة والتعليم أن يتصرّفوا بتلك الطفولية؟
حتى البارحة أثناء العشاء، كانا يتشاجران على أتفه الأسباب، وكل شجارٍ بينهما ينتهي بأن يطلب أحدهما جلسة شاي للمصالحة
حتى إن الخدم في قصر جاسبر أصبحو يتهامسون بأنهما يتشاجران عمداً ليجدا ذريعة لشرب الشاي معاً.
إن كان ذلك صحيحاً، فهما مزعجان حقاً، وإن لم يكن، فهما مزعجان على أي حال.
فالراشدون يفهمون أنه مجرّد شجار حب، لكن الطفلة بلانش قد تسيء الفهم.
ثم إنهما من طبقةٍ واحدة، وكلاهما مقيم في بلدٍ غريب بعيد عن وطنه… ألن يكون من الأفضل للجميع لو عادا إلى بلدهما وتزوّجا رسمياً؟
“عندما أفكر في الأمر، كلاهما — السيدة إلكترا والأمير لاترو — يتصرفان بأدبٍ واحترام مع الآخرين، أليس كذلك؟ لكن مع بعضهما فقط يتشاحنان ويتصيدان الأخطاء، فهل كان هذا سبب ظنّك أنهما يحبان بعضهما؟”
تمنت تولا لو بإمكانها إحضار الاثنين ومواجهتهما لتريهما نتيجة شجاراتهما، قائلة: انظرا، هكذا تُضلّلان طفلة بريئة بمشاجراتكما الغرامية.
“حسناً، هذا صحيح إلى حدٍّ ما…”
“إذن، إن كان رجلاً مؤدباً ويعرف حدود التصرف لكنه يختار أن يمازح ويشاكس امرأة بعينها فقط، ألا يُمكن أن يُقال إنه يحبّها؟”
في تلك اللحظة، لم تستطع تولا سوى أن تغمض عينيها بإحراجٍ ويأس.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 50"