كانت خطوات الإمبراطور خفيفة وما إن تجاوز حدود الجهة الغربية من قصر الزمرد حتى التصق به مرافقه الإمبراطوري كظله.
دون أن يلتفت إلى الخلف، أصدر الإمبراطور أمره
“أعدّوا قصر جاسبر، بما يليق بطفل في الثالثة أو الرابعة من عمره.”
على عكس قسوته السابقة مع بلانش ، كان الإمبراطور هذه المرة في غاية الرضا عنها.
لكن ذلك لم يكن لأنها ذكية فـإمبراطورية رتيايل كانت مملكة عظيمة تفيض بالعباقرة والموهوبين، حتى إن المرء لو بحث جيّدًا لوجد العشرات من نوابغ هذا العصر.
السبب الحقيقي هو أن بلانش لم تكن تبدو كطفلة في الثالثة من عمرها.
كانت تختلف عن الأطفال الأذكياء الآخرين؛ فهؤلاء مجرد صغار يدور عقلهم بسرعة، لكنهم يظلون يحتفظون بكل سمات الطفولة — يبكون بسهولة، ويضحكون بسهولة، ويسهل خداعهم، ويخافون من أتفه الأشياء، ويفتخرون بذكائهم الفطري، ولا يفهمون منطق الكبار، بل يظنون أن قوانينهم الصغيرة تنطبق على العالم بأسره.
أما هو، فلم يكن يبحث عن طفلة نابغة كهذه.
لقد كان يبحث عن شخص يليق بأخيه الصغير، شخص يشبهه.
كأن في داخلها ثعلبًا ذا تسعة أذناب، أو كأنها تعيش حياتها الثانية، وقد تذوقت من قبل كل صنوف اللذة والترف والثراء والسلطة، حتى لم يبق في الدنيا ما يثير اهتمامها.
كان أخوه كذلك تمامًا طفل في الخامسة، لكن عينيه توحيان وكأنه عاش خمسين عامًا.
مهما قُدِّم له من حلوى أو لُفَّ بالحرير الفاخر، يبقى وجهه خاليًا من أي انفعال — كأنه لا يرى في الحياة شيئًا يستحق التعلق به.
ولأنه كان يحب ذلك الأخ، أراد أن يمنحه صديقًا يفتح له قلبه وحين وقعت عيناه على بلانش شعر بأنها المثال الكامل لما كان يبحث عنه.
وعندما وعدها بالمكافأة مقابل تعاونها، أدرك أنه وجد ضالته.
فإن استطاعت أن تؤدي مهمة رفيقة الأمير على الوجه المطلوب، فماذا يمكن أن يمنحها الإمبراطور مكافأةً لذلك؟
كان سؤالًا لا يستطيع طفل في الثالثة فهمه، وكان من شأنه أن يبهت عيون طفل ذكي في الثالثة، لكنه حين قاله، فهمته بلانش — دون أن تُبدي أي اهتمام.
أي نوع من الأطفال في الثالثة من العمر لا تهمه الحلوى والشوكولاتة والبطانيات الناعمة والحياة التي تلبّى فيها كل رغباته بمجرد دق الجرس؟
لم يكن يعرف الجواب، لكنه كان واثقًا من أمر واحد
أن بلانش روا فاندالوين خُلقت وكأنها موجودة فقط من أجل أخيه.
ولهذا، سواء اهتمت أم لم تهتم، قرر أن يُغرقها في الحلوى والشوكولاتة والحرير والمجوهرات — كما يليق بفتاة ستصبح رفيقة الأمير.
قطع شروده صوت مرافقه الظلي، الذي سأله بتردد
“هل تنوي منحها لقبًا أميريًا، يا صاحب الجلالة؟”
ابتسم الإمبراطور وهو يلتفت إليه، وبدت على وجهه ملامح الرضا.
“ألا ترى أنها تستحق أكثر من أن تُترك لتذبل سدى؟”
لم يكن الظل مأذونًا له بسماع حديث الإمبراطور مع بلانش لذا لم يفهم سبب إعجابه بها.
لكن الاعتراض لم يكن مسموحًا له، فاكتفى بانحناءة خفيفة
“ستكون نعمة عظيمة للأميرة.”
ابتسم الإمبراطور بخفة وقال، بصدقٍ خالص هذه المرة
“آمل أن تشعر هي بالأمر ذاته.”
ظن الظل أن كلماته مجرد مزاح، لكن الإمبراطور كان جادًا تمامًا فهو لم ينسَ أنه إمبراطور أعظم إمبراطورية في القارة، ولم ينسَ أيضًا أن بلانش أميرة من مملكة أخرى.
كم تمنى لو تنسى تلك الطفلة الحمقاء التي باعتها أسرتها كرهينة في هذا العمر الصغير، وتبقى هنا — من أجل أخيه.
وفيما كان يفكر بذلك، واصل الإمبراطور سيره بخطى مفعمة بالرضا.
***
المكان الذي اجتاحه الإمبراطور لم يُخلّف وراءه سوى الدم كنتُ ممددة على الكرسي، لم أستطع حتى أن أنهض منه، ورأسي مسند إلى ظهره.
“يا أميرة…!”
هرعت تولا، التي كانت تنتظر في الخارج، مسرعة نحوي لتلتقطني قبل أن أنزلق يا لحسن الحظ لو سقطت من هذا الكرسي بهذه الحالة لكانت إصابتي خطيرة حقًا.
“هل أنتِ بخير؟! هل تشعرين بحرارة؟ ألا تشعرين بالإرهاق؟”
كان قلقها صادقًا، لكن كان عليّ أن أقول شيئًا قبل أي شيء آخر أمسكتُ بيدها التي كانت تمسّ وجنتي وجبهتي
“ (تولا).”
“نعم، يا أميرة هل يؤلمكِ مكان ما؟”
“أنتِ مسؤوليتي.”
يبدو أنّ في مملكة لاموري النظام الطبقي ليس صارمًا، لذا لا أعلم كيف ستتلقى كلماتي لكنني، التي وُلدت وعاشت حياتها في الإمبراطورية جين حيث النظام الطبقي شديد الصرامة، كنتُ دومًا الشخص الذي يتحمل مسؤولية الآخرين.
وحالياً، بما أنني أميرة وتولا هي مربّيتي، فهذا يعني أنها ضمن من أقسمت على حمايتهم.
“لذلك، إن حدث أمر ما، عليكِ أن تناديني فورًا.”
لو أنني لم أستيقظ في الوقت المناسب… لو أنني أدركت الموقف متأخرة قليلًا… لو أنّ فضول الإمبراطور تغلّب على غضبه، لكانت تولا قد ماتت ولن يكون هناك أي فرق.
لقد رأيتُ مثل تلك المآسي كثيرًا في حياتي السابقة، خصوصًا في نهايتها.
لذا، على الأقل في هذه الحياة، لا أريد أن أمرّ بمثل ذلك مجددًا حتى لو كان الثمن أن أواجه موتي الثاني بهذه الطريقة.
“سأحميك.”
كانت هذه الجملة ذاتها التي قلتها في حياتي السابقة — لابنتي.
لكن بخلاف ابنتي التي وثقت بي حينها، لا أعلم إن كانت تولا ستصدق كلماتي.
فمهما كان من تتحدث أمامها ذا مكانة أعلى، من الصعب أن تأخذ على محمل الجد كلام طفلة في الثالثة من عمرها جاءت رهينة وتقول إنها ستحميها.
ومع ذلك، لا بدّ أنها أدركت أنني كنتُ صادقة ربّتُ بخفة على ظاهر يدها وتبسّمتُ بهدوء.
“اذهبي ونامي الآن.”
بدت تولا وكأنها تريد قول شيء، لكنّها في النهاية أغلقت فمها وتراجعت بخطوات هادئة.
وبقيتُ أنا وحدي، أغرق في أفكاري.
هدفي في الوقت الحالي بسيط حماية الأطفال الذين جُلبوا إلى هنا بسببي.
ولتحقيق ذلك، لم يكن أمامي سوى خيارين إما أن أعيش كالشبح بصمت، أو أزرع في قلوبهم انطباعًا بأنّ الاقتراب مني سيجرّ لهم المتاعب.
أما الخيار الأول فقد فات أوانه بالفعل، لذا لم يبقَ لي سوى الثاني عليّ أن أجتاز اختبار الإمبراطور وأكوّن علاقة مع الدوق.
“المشكلة هي… إلى أي حدّ يجب أن أذهب؟”
إظهار كلّ المواهب ليس دومًا أمرًا جيدًا فكما يمكن للهزيمة في معركة أن تؤدي إلى النصر في الحرب، كذلك ليس النجاح في كل مهمة هو الطريق الصحيح دومًا.
فكيف يجب أن أتحرك؟
هل عليّ أن أنجح في هذه المهمة أم أن الفشل هو الخيار الأفضل؟
هل أُظهر كلّ قدراتي أم أُخفي بعضها؟
مهما كان، عليّ على الأقل أن أبدو وكأنني أبذل جهدي لكن ما الوسيلة المناسبة لذلك؟
ظللتُ أفكر وأفكر حتى غلبني النعاس ولم أستطع مقاومته لكن كلّ ذلك التفكير ذهب هباءً، إذ إن الوسيلة جاءتني بنفسها، في هيئة بطاقة دعوة.
“ (حفلة شاي؟ )”
نطقتُها ببطء حتى لا يختلط النطق، فأومأت تولا برأسها.
“نعم يبدو أن جميع مبعوثي السلام قد وصلوا، ولهذا قررت جلالة الإمبراطورة فتح الدفيئة لإقامة حفل بهذه المناسبة.”
أوه، فهمت سواء كان الأمر لإعطاءهم ساحة يتنافسون فيها كالحشرات، أو لإيصال رسالة بأنهم تحت المراقبة، فالفكرة ذكية ومفيدة.
وبالنسبة لي، إنها أخبار جيدة أيضًا.
“لكن، إن لم تكوني قد تخلصتِ من تعب السفر بعد…”
“أخبريهم أنني سأذهب.”
لم يكن من الصعب عليّ كسب الناس إلى جانبي.
فأنا التي كنتُ آمر الوزراء والقادة العسكريين — الذين تُخفي قلوبهم عشرة ثعابين — هل سأعجز عن إغواء بعض الأمراء الصغار السذج؟
ما كنتُ أحتاجه حقًا هو مجرد مكان أستطيع فيه لقاء البقية الثلاثة فالمنطقة مقسّمة، ولن تتاح لنا فرصة اللقاء مصادفة.
وها هم يُقدّمون لي هذه الفرصة بأنفسهم! بل وأكثر من ذلك، سأتمكن من مقابلة الإمبراطورة عن قرب — وهي ليست بشخص يسهل التعامل معه — فكيف لي أن أضيّع مثل هذه الفرصة؟ حتى لو تحطّم جسدي، يجب أن أذهب.
“نعم، سأفعل.”
كانت نظرات تولا نحوي مليئة بالشفقة، لكنني تجاهلتها كلّ هذا لأجلك يا صغيرتي، لتبقي في أمان.
وعندما تلقيت بطاقة الدعوة وقرأت محتواها، اكتشفت أن الموعد كان قريبًا على نحو غير متوقع — اليوم ذاته.
مهما كان الجميع يعيشون داخل القصر فتقصر عليهم مسافات التنقّل، فإن إقامة الحفل في اليوم نفسه بدت سريعة للغاية ومع ذلك، لم يكن هناك سبب يدعوني للاعتراض؛ فالظهور في موقف لافت، وبشكلٍ غير مرغوب فيه، لن يجلب لي سوى المتاعب لاحقًا.
لذا، من الأفضل أن أترك مسألة الاعتراض والتمسّك بالمنطق للبالغين، وأكتفي أنا بإعطاء تولا أمرًا بسيطًا أن تبحث إن كان لديّ ثوبٌ يليق بحفل الشاي في النهاية، الطفلة ذات الثلاث سنوات لا تحتاج لأن تقلق بشأن مثل هذه الأمور.
في النهاية، أكبر مشكلة لديّ ليستُ في المكانة الاجتماعية، بل في أن جسدي لا يزال في الثالثة فقط لو كنتُ في الثامنة عشرة… لا، لو كنت حتى في الثالثة عشرة، لكان بوسعي أن أرسل دعوات للأُسَر المالكة وأنظّم لقاءً بنفسي، أو أن أقرأ عدّة كتب في المكتبة، أو أستخرج معلومات عبر محادثات مع الناس.
لكن من الصعب أن يُلبّي أحد دعوة مرسلة من طفلةٍ في الثالثة، ومن الصعب أن يجد من يناقش الشؤون الدولية طفلةً صغيرة لا تُفهم نطقها.
لذلك فالكمّ المعلوماتي ضئيل جدًّا أنا لم أتمكّن حتى من حصر عدد الممالك التي أرسلت رُهائن بعد.
لو كنت في الثالثة عشرة لكان بإمكاني اكتشاف ذلك كله في غضون ساعتين.
لذا، لا بدّ من ألا أفوّت مثل هذه الفرصة.
كم هي ثمينةٌ هذه الفرصة التي تسمح لي بحضور مجلسٍ يجمع الكثيرين — فحتى إن غِبتُ عن الكلام واكتفيتُ بالاستماع، فإنني سأجني فائدة كبيرة من سماع ما يقال.
وأفراد العائلة المالكة المقيمون في قصر الزمرد، حتى لو لم يتمكّنوا الآن من ترتيب لقاء منفصل، فإذا خلّفْتُ لهم انطباعًا سيستطيعون لاحقًا أن يجدوا لي فرصًا.
لذلك، هدفُي اليوم ليس استقطابَ كلّ رجال ونساء البلاط في قصر الزمرد؛ فهذا عمل يمكنني التمهّل فيه فيما بعد.
جمع المعلومات ، التركيز على أفراد العائلة المالكة.
قبضتُ يديّ بقوةٍ واشتعلت عزيمة في صدري لأنّ فترة سيطرتي على السلطة كانت طويلة، لذا فإن البدء من الصفر مجدّدًا يمنح شعورًا مختلفًا لم يكن ذلك ممتعًا تمامًا، لكنه على الأقل كان دليلًا على أن الإرادة قد عادت إليّ.
التعليقات لهذا الفصل " 5"