عندما رفعتُ رأسي، رأيتُ رجلًا وسيماً يبتسم ابتسامةً وادعةً كأنّه لم يُهدِّد أحداً قبل قليل.
كان وجهه، للوهلة الأولى، يبدو غير مؤذٍ، لكنّني كنتُ أعرف تلك النظرة جيدًا — نظرة الحاكم حين يُعجَب بموهبةٍ ويريد امتلاكها.
لم أكن أنوي أن أجذب هذا القدر من الانتباه حقًّا… ولكن بعد أن حدث ما حدث، لم يكن بوسعي أن أتراجع فأمرتُ تولا بأن تُحضِر الشاي، ثم جلستُ قبالة الإمبراطور.
(اجلس ، من فضلك.)
[ إذا حطيت الأقواس () هذا يعني كلام البطله بعد التعديل لانها طفله فنطقها مو مضبوط ]
كنتُ أنوي في البداية أن ألفت نظره في القاعة الكبرى فحسب، لأنّني لم أكن واثقة من قدرتي على تحقيق أكثر من ذلك.
لكن أن تنقلب الأمور إلى لقاءٍ خاصٍّ مع الإمبراطور نفسه… هذا أمر لا يُصدَّق، فرصة ثمينة وشرف عظيم، غير أنّ رأسي لا يعمل كما ينبغي.
كِدتُ أرفع يدي لأفرك جبيني، لكنّي تماسكت لم أكن أستطيع أن أُظهر أنّني متعبة أو محمومة، مهما كان السبب.
(إنّه لشرفٌ عظيم أن أرى سماء الإمبراطورية.)
“آه، سمعتُ مثل هذه التحيات آنفًا، فلنُهملها.”
ليست مجاملةً لأجلي، بل لأنه يريد اختصار الوقت، أيها الصبي المغرور…
كدتُ أرتفع غيظًا، لكنّي كتمتُ أنفاسي وصمتُّ.
“ذلك القول الذي قلتِه آنفًا، هل كنتِ تعنينه حقًّا؟”
رأيتُ أنّ التظاهر بعدم الفهم لن يُفيد، فأجبتُ بصدق
(نعم، كنتُ صادقة.)
ما المشكلة؟ يمكنني أن أضحي بلساني إن لزم الأمر؛ فطالما أن يدي سليمة أستطيع أن أُعبّر بالكتابةً إن كان لساني سيُنقذ رقبة أحدٍ من تابعيّ، فذلك مكسبٌ لي.
ربّما أعجبه صدقي أو جرأتي، إذ بدا على وجهه سرورٌ خفيف.
لو أنّ الإمبراطورة تملك بعضَ هذا الاتزان لكان خيرًا، وإلا فسنشهد طاغيةً متكاملًا خلال خمس سنوات…
بينما كنتُ أُخفي أفكاري هذي قال الإمبراطور
“إذن، حرّكي لسانكِ قليلًا بعد أُريد أن أُقرّر إن كنتِ تستحقّين أن أقطع لسانك أم لا.”
يبدو أنّه يقصد: إن أجبتِ جوابًا بليغًا فلن أُعاقبك.
(ألعلّك بحاجةٍ إلى مهرّج؟)
شعرتُ أنّه يتأمّل وجهي مليًّا وجهٌ لا يزال يحمل مسحة الطفولة، كأنه في العشرين بالكاد، لكنّ عينيه… عينا حاكمٍ لا يرى الناس إلا بقدر نفعهم.
ربّما كان من الأفضل ألا أكون كفوءةً كفاية لألفت نظره…
ضحك ضحكةً خفيفة بعد أن أنهى تأمّله.
“لا بأس بذلك أيضًا، غير أنّي أفضّل أن تكوني أكثر فائدةً من مجرّد مهرّج.”
هل يظنّني في الثالثة من عمري؟ لو جلس طفلٌ في هذا السنّ بهدوء دون بكاء لكان إنجازًا كافيًا، لكنه يبدو كمن نسي معنى الطفولة تمامًا.
لكنّ القائل هو إمبراطور دولةٍ عظمى، وأنا أميرةٌ من مملكةٍ ضعيفة، فلم يكن لي إلّا أن أستمع صامتةً إلى هرائه.
“أتعلمين أنّ لي أخًا صغيرًا؟”
(لم أكن أعلم ذلك.)
لم أُرِد أن أكذب في أمرٍ تافه فيُثير الريبة في رحلتنا الطويلة التي امتدّت شهرًا حتى وصلنا إلى هنا، لم يكن لديّ مصدرٌ موثوق للمعلومات عن الإمبراطورية حتى تولا وهي الثانية في المقام بعدي، لم تكن تعرف شيئًا عن نظام الطبقات فيها.
فكيف لي أن أعرف عمر الإمبراطور أو عدد أفراد أسرته؟
“حسنًا، تعرفين الآن ، لي أخٌ في الخامسة من عمره هذا العام.”
إذن هذا يفسّر الأمر. لم يكن يفهم نُطقي الملتبس بالحدس فحسب، بل لأنّ لديه أخًا في مثل سني تقريبًا، فهو معتادٌ على كلام الصغار.
“على أيِّ حالٍ، ليّ حظٌّ كبير لأنَّ أخيَّ ذكي جداً.”
هنا مفروض أن أُلقي مديحًا من هذا النوع: هذا من فضل جلالتِهِ لكن بما أنه هو نفسه من قال ذلك فلم يبقَ لي ما أقول.
لكنَّ الإبرة الحادّة، ولو أخفيتها في الجيب، فستَبْدي مظهرَها في نهايةِ المطاف ، وهذا ما يقلقني كنتُ أنوي الانتظار حتى يصدر الأمر، لكن إذ تحوَّل الحديث بهذا الأسلوب غير المتوقع بدا كأنه يريد مني أن أُحلِّلَ الوضع بنفسي.
حسنًا هل يريد أن أُداعِبَ اللسان هكذا؟ تزامنًا جاءَت تولا ومعها إبريق الشاي، فوضعت تولا الإبريق أمامنا ثم انسحبت، وأصبح الهدوء يعُمّ من جديد.
( تريد أن أكون رفيقةً لسموّ الأمير؟)
ألقى الإمبراطورُ نظرته وكأنه يستمتع برائحة الشاي ولو أنّ حاستي الشميّة لم تَتطوَّر كليًّا بعد، فقد شعرتُ أنَّ هذه الرائحة ليست مما يسرُّني.
” سيكون ذلك حسنًا “
لمحتُ في عينيه — لوهلةٍ — مَحَبّةً تجاه أخيه.
ربما كان ذلك جانبًا إنسانيًّا للشابِّ الإمبراطور انكشف للحظةٍ؛ فقد ارتخى حِذْره لأنني في الحقيقة لم أتجاوز الثالثة من عمري أدرتُ بصمت وخفضت بصري بهدوءٍ إلى الأسفل
لو عَلِم أنّي لاحظتُ ذلك لَمَا تَصنَّعَ الحذر أمامي مرةً أخرى.
“لكنَّ الحديث هنا عن أخي. لا يمكن أن أُبقي أيَّ شخصٍ إلى جانبه، أليس كذلك؟ أظنّ أنَّ الأميرةَ تُدرك ذلك.”
لم أرغب في الفهم أصلًا توقّعتُ ما سيَتْبِعُ ذلك الكلام فلم أكن أريد أن أفهمه أكثر.
“فأيّتها الأميرة، أثبتي لي ماذا يمكنكِ أن تفعلِي.”
ابتسم الإمبراطورُ لي، وقد خلا وجهه من أيِّ تعبيرٍ يدلّ على المشاعر.
…عقلي أخبرني أنّها فرصة عظيمة إن استطعتُ أن أتحالف مع الدوْق الأكبر، فلن يَجرُؤ أحدٌ من بين الرهائن على الاقتراب مني، على الأقل.
لكنَّ قلبي قَلِق هل يُعقَل أن يجري نقاشٌ سياسيٌّ مع طفلٍ عمره ثلاثُ سنواتٍ من قِبَلِ إمبراطورٍ؟ وهل البقاءُ بجوارِ مجنونٍ ذي سُلطةٍ أمرٌ آمن؟
أليسُ التعاملُ مع الرهائن أنسبُ لطولِ العمر؟
قلتُ بصوتٍ منخفضٍ ( شكرًا على تقديركم لي، لكنَّ مهاراتي لا شيء يُذكر…)
” أميرة ” قاطعَ الإمبراطور كلماتي.
” فكِّري جيّدًا فيما قد يُقدِّمه لكَ الأميرُ إن أصبحتي صديقته.”
فكَّرتُ، ثم أدركتُ ما قد يمنحه الأمير لصديقته هو في أحسن الأحوالُ مصالح مادّية.
يا للعجب… كتمتُ الضحكة التي كادت تفلتُ منّي ، الترفٌ؟ أنا كنتُ ممّن استخدموا ما يستخدمه جلالتُه.
ركبتُ عربةَ الإمبراطور، واستعملتُ الأواني الفضّية التي أنزلها من مائدته، وارتديتُ ثيابًا خاطوها من الحرير الذي أنعمَ به عليّ ، بل إنَّ الإمبراطورَ نفسَه، حين عاد منتصرًا من الحرب، أمرَ أن يُفترش الحريرُ على الطرق من بوابة القصر إلى حيث أمشي، تكريمًا لي.
في حياتي السابقة كنتُ أملك من الثروة ما يقارب ثروةَ ملك، ومن السلطة ما يجعل الوزراءَ بأمرِي، وكان لبيتنا صيتٌ عالٍ في البلاد ومع ذلك، كانت نهايتي بائسةً إلى حدٍّ يُرثى له شنقتُ نفسي بقطعةِ الحرير التي منحني إيّاها جلالتُه ذاك الذي أغدق عليَّ المجدَ والثراء، هو نفسُه الذي طردني في النهاية.
من يعرفني حقًّا يدرك كم هي زائلةٌ مباهج الدنيا، ولهذا لم يكن لعرض الإمبراطور أن يُغريني بشيء
لا أريد سوى أن أعيشَ حياةً متواضعةً هانئةً
لو لم يهتمّ بي أحدٌ لكُنْتُ فضّلتُ هذا الخيارَ فالخيارُ هذا أفضلُ لي.
“هل تعلمين كم عددَ الذين يشاركونك السكن في قصر الزمرد؟”
غير أن ما يستطيع الإمبراطور أن يمنحه لي، ليس بالضرورة كله خيرًا
نظرتُ إلى إصبعه الذي كان يضغط بلطفٍ على ظهر يدي الصغيرة الممتلئة تساءلتُ في نفسي: هل تقدر يدي هذه على أن تحيط حتى بإصبعه الواحد؟ كان الفرق بين حجم اليدين يشبه تمامًا الفارق في السلطة، وهو ما جعلني أستشعر بوضوح المسافةَ بيني وبينه.
لم يكن لي اهتمامٌ بما قد يمنحني من فخامه أو ثراء لكني اهتممتُ بما قد يجرّه عليّ من محن.
مثلاً قد يطال عُنقَ تولا فصَمَتُّ.
“حاليًا، من يسكنُ قصر الزمردِ معنا أربعةٌ: أنتِ، الأميرة جيانيل من تاتيين، الأميرة ويشيان من تشيبيتشا، والأميرة كانيك من جِرنيا.”
كان توقعِي صائبًا كنت قد مرِضتُ مؤخرًا فلم أكن أعلمُ كم عددُ الساكنين في القصر، فمن الجيدِ أن أحصل على هذه المعلومات بسهولة.
“يبدو أنكِ تفهمين وضعكِ، لكن هل تظنين أن الآخرينَ كذلك؟”
لم يقصد الإمبراطور سوى أن يخبرني أنَّ الملوكَ الذين حُشروا معًا في نفسِ القصرِ سيعضّونَ بعضَهم البعضَ كالحشراتِ السامَّةِ، ومع ذلك هو ضغطَ عليهم عمداً.
حسنًا، عندما يكون فرقُ القوةِ بين الدولِ واضحًا فلا حاجةَ للمملكةِ لتحمّل تبعاتِ نزاعاتِ الأمراء، فذلك كله في صالحِ الإمبراطورية.
يا لحظي العجيب… متى كانتِ الحياةُ سهلةً لي؟ تنفستُ زفرةً لا يصدرُ لها صوتٌ؛ وإن كانَ الإمبراطورُ قد لاحظَها لَعلّهُ تغاضى عنها.
وكما توقعتُ، لم يُؤاخِذْني الإمبراطورُ بتهمة التجديف.
“هل ترغبينَ في وقتٍ لتفكِّري؟ “
لم أعد أحتاجُ للتفكيرِ فيما قد يُقدِّمه لي، بل فكرتُ فيما يريدُهُ هو.
الامبراطور ريدُ رفيقَ لعبٍ للدوق لكنه يريدُ أن يختبرني قبل أن يعرِّفني عليه فماذا ستكونُ طبيعةُ الاختبار؟
لو أراد فقط أن يهدّدَ لَكانَ أسرع أن يقولَ لنقطعْ عن تولا رأسَها أو ألّا؟ لكنّهُ لم يفعل بل بدأ يتحدّث عن سكانِ قصر الزمرد، وكأنّه يريدُ أن يختبرَني فيما يخصّ ذلك.
( أنا لم أزل في الثالثة من عمري هل تريدون من مثلي أن تُنْفِذَ توحيدَ الأمراء؟»)
إذن الاختبارُ واحدٌ: أن أصبحَ آخرَ الحشراتِ السامّةِ التي تدبُّ في القصرِ وتضبطُ شؤونَ الأمراءِ الذين حُشروا هناك كدُيدانٍ سامّ.
“حسنًا، مهما يكن، لا أعني منك أن تتحكّم في جميع أفراد العائلة الملكية، الذين يبلغ عددهم عشرات، وأنت في الثالثة من عمرك.”
كلمة جميعهم كانت تتردد بصدى مخيف جدًا.
“حاولِي فقط فرض النظام داخل قصر الزمرد، عندها سأعطيك منصبًا رفيعًا.”
منصب رفيع؟! لم أتمالك نفسي، وكم تمنيت أن أصرخ بأقذر الألفاظ، لكن كتمتها
إذا لم تستطع أن تسمع هراء أصحاب السلطة بأذنٍ وتدعَه يمرّ بالأخرى، فلن تقدر على تولّي منصبِ رئيسِ الوزراء.
“سأبذل جهدي، سيدي.”
“طموحك جيد.”
ابتسم الإمبراطور وعيناه شبه مغلقتين بدا وجهه ودودًا للوهلة الأولى، لكنني لم أنسِ النظرة خلف الجفون.
وبصفتي شخصًا عاش 65 عامًا يراقب الناس، يمكنني التأكيد: تلك النظرة، إن حولتني إلى عدو، فستكلفني حياتي، وإن جعلتني حليفًا، فستعصر حياتي حتى آخر قطرة.
التعليقات لهذا الفصل " 4"