بعد أن غسل وجهه الجاف مرة واحدة، واصل حديثه بصوتٍ مكبوت ومضغوط:
“نعم، حسنًا قد يحدث ذلك فنحن من منحناكِ السلطة الكاملة لاستخدام القصر كما تشائين لكن، هل كان من الضروري استخدام ساحة التدريب منذ البداية؟ ألا تذكرين غرفة الاستقبال التي أقمنا فيها حفلة الشاي سابقًا؟ إنها واسعة بما يكفي، لذا فإن التدريبات الأولى يمكن أن تُقام هناك.”
أحنيت رأسي بالكامل.
“ما الأمر هذه المرة؟ لا تقولي لي أنكِ تربين الحيوانات داخل القصر أيضًا؟”
“الأمر أنّ… تُستخدم الآن كمكان لتبادل المعارف بين العلماء.”
“ماذا؟”
اتّسع وجه الدوق دهشة، وكأنه لم يصدق ما يسمعه، لأنه لم يكن يعرف ما الذي يحدث داخل قصر جاسبر حاليًا فترددت قليلاً، ثم بدأت أُفصح له عن أسرار القصر بخجل.
“أعلم أن الأمر قد يبدو غير مريح لأُذنك، لكن بعض من انتقلوا إلى الإمبراطورية، مثلي، أرادوا الاستمرار في أبحاثهم التي كانوا يجرونها في بلادهم… لذلك، عندما احتاجوا إلى مختبرات، قمتُ بإعارتهم بعض المساحات وبما أنهم كانوا يأخذون استراحة خارج المختبرات بين الحين والآخر، بدأوا يتفاعلون فيما بينهم، مما أدى إلى تبادل للمعلومات والنقاشات في غرفة الاستقبال، حتى أصبحت لقاءاتهم هناك يومية.”
كان هذا أيضًا من الأمور التي حدثت على غير ما توقعت فكرتُ أنه في حال دخلتُ إلى المجتمع المخملي للإمبراطورية، فقد أحتاج إلى استقبال الضيوف في القصر كما فعلت في حفلة الشاي السابقة، لذا كنتُ أنوي إبقاء غرفة الاستقبال شاغرة.
لكن رؤية العلماء المتعبين جالسين في الممرات والحدائق وقد انحنى ظهرهم من التعب… آلم قلبي بشدة.
في الربيع، حيث الزهور تتفتح، فكرت أن التجول في الحدائق ومشاهدة الزهور سيكون جيدًا لصحتهم، فتغاضيت عن الأمر لكن حين أتى الشتاء، لم أعد أستطيع النوم من القلق، ماذا لو أُصيب أولئك العلماء الضعفاء بنزلة برد وانهاروا؟
لذا فكرتُ: “ما فائدة ترك المكان فارغًا؟” وجلبتُ كميات من الكراسي، الأرائك، والوسائد، ووفرتُ لهم وجبات خفيفة وشايًا، وجعلتُ غرفة الاستقبال أشبه بغرفة استراحة.
في الأصل، كنتُ أنوي جعل هذا الترتيب لفصل الشتاء فقط، ثم إعادة إغلاقها في الربيع، الصيف، والخريف لكن عندما بدأت النقاشات المثمرة بالظهور من لقاءاتهم، لم أستطع أن أُوقفهم، وهكذا تحولت الغرفة إلى غرفة استراحة دون أن أشعر.
لكن الدوق، الذي لم يكن على علم بعذابي الطويل لاتخاذ هذا القرار، بدا فقط مذهولًا من كل ما يسمعه.
“ما الذي يحدث بالضبط في هذا القصر؟”
بحذر، طلبتُ من تولّا أن تُحضر مخططًا يوضح مواقع المختبرات حاليًا وبعد أن راجع الدوق الأوراق بدقة، وضع يده على جبينه ودلّك ما بين حاجبيه.
“لا عجب… كل مرة أزور فيها القصر، أظن أن الحياة تنبض فيه بشكل لا يتناسب مع شخص واحد يعيش هنا وكنتُ أتساءل دومًا لماذا تستقبليني في غرفة الاستقبال في الطابق الأعلى ظننت فقط أن تجهيزات القصر ممتازة… لكن اتضح أن هناك سببًا خفيًا؟ على الأقل حافظتِ على الطابق الأعلى، أليس كذلك؟”
“آه، هذا… في الأصل، عندما نقلتُ غرفة نومي من الطابق الأول إلى الأعلى، كنت أنوي تأجير باقي الغرف ما عدا غرفة النوم وغرفة استقبال الضيوف لكن عندما قدّمتُ الخطة، رفضها مدير القصر بحجة أنها تخالف اللوائح.”
“أليس ذلك طبيعيًا؟ من هو مدير القصر الآن؟ ينبغي أن يُكافأ.”
استدار الدوق تلقائيًا كما لو كان ينوي استدعاء مساعده، لكنه تذكّر أنه لم يرافقه في حفلة الشاي، فعاد لينظر إليّ بدا جادًا لدرجة أنه فعلاً يفكر في منح مدير القصر مكافأة بسيطة.
“لكن، ألا يستطيع هؤلاء العلماء تدبير غرفة لأنفسهم؟ كيف وصل الأمر إلى هذا الحد؟”
“في البداية، كنا نؤجر المساحات فقط لمن يحتاج تجهيزات خاصة… لكن مع مرور الوقت، بدأ أولئك العلماء بالتعاون مع آخرين، وصاروا يترددون على القصر كثيرًا، ومن ثم، كما ذكرتُ، بدأ التبادل بينهم، مما جعل الجميع يريد إجراء أبحاثه هنا فبدأتُ بإعارة غرفة تلو الأخرى، حتى وصلت الأمور إلى ما هي عليه الآن…”
وبما أنني راعيتُ مسألة التبادل بين العلماء عند تجهيز المختبرات، فقد كان من بينهم من كان بإمكانه إجراء أبحاثه في قصره الخاص بشكل أكثر راحة وسعة.
فكرتُ أن أفتح بعض الغرف الإضافية لتوسيع المساحات لهم، لكن القوانين منعتني من ذلك رغم أنني كنتُ أعلم أن مدير القصر تصرف حسب القواعد، إلا أنني شعرتُ نحوه ببعض الغضب حينها.
تأمل الدوق مخطط القصر الذي تحوّل بالكامل إلى جناح بحثي، باستثناء الطابق الأعلى المخصص لمالك القصر والجناح الجانبي المُعد للخدم، ثم أشار إلى مشكلة جديدة بوجهٍ متوتر:
“انتظري قليلاً إذًا من يُموّل هذه الأبحاث؟ لا تقولي لي أن نفقات الحفاظ على مظهرك تذهب إلى هذا المكان.”
أسرعتُ بنفي ذلك برأسي فحتى لو كانت العائلة الإمبراطورية سخية في منح مخصصات فخمة لمرافق الدوق وللسفراء السلميين، فلا يمكنني أن أتحمّل وحدي تمويل كل هذه الأبحاث.
لو كنتُ في وضعي السابق، حين كنتُ أتحكم بميزانية دولة كاملة، لربما كان الوضع مختلفًا.
“لا، بالطبع تلك مسؤوليتهم فقط…”
فقط، في ظروف خاصة، كنتُ أقدّم القليل من المساعدة.
“فقط؟ الطريقة التي تقولين بها هذا تُشعرني بالقلق.”
“العلماء بطبعهم لا يُحسنون إدارة المال، أليس كذلك؟ وحين رأيت بعضهم يفوّت فرصًا جيدة بسبب فشلهم في إدارة التمويل… شعرت بالأسى فساعدتُهم في مثل تلك الحالات فقط.”
أغلق الدوق عينيه بإحكام وضغط على صدغيه هل كان الأمر حقًا مثيرًا للدهشة إلى هذا الحد؟ راجعتُ تصرفاتي للحظة، لكن مهما فكرت، لم أجد فيها خطبًا كبيرًا.
أليس دعم العلماء للنهوض بالعلم وسيلة لإعلاء شأن الدولة؟ كنتُ فقط أكرر ما كنتُ أفعله عندما كنتُ رئيسة للوزراء.
صحيح أنني لستُ رئيسة وزراء الآن، لكن…
“هل كان حلمكِ أن تصبحي مديرة مركز أبحاث؟ أم أننا لسنا سفراء سلام، بل مؤسسة تجمع الباحثين؟ ما هذا العدد من الباحثين؟”
حسنًا، إن كان من يُرسلون كرهائن إلى الإمبراطورية من النبلاء أو أفراد الأسر المالكة، فهم في العادة بلا سند، بلا نفوذ سياسي، ولا قدرة على حماية أنفسهم، وغالبًا ما يكونون إما يتامى مثلي أو أشخاصًا غارقين في العلم لا يعلمون ما يدور في العالم.
لكن بدا أن الدوق لم يسأل بدافع الفضول الحقيقي، بل كتنهيدة من قلبه، لذلك لم أشأ أن أعلّق على تلك الجزئية، بل حاولتُ تبرير موقفي مرة أخرى.
“لكني… نظرًا لما يتفضل به جلالته من عناية وتقدير، لم أكن بحاجة لصرف نفقات الحفاظ على المظهر فأنا لا أغادر القصر أصلًا.”
حتى الملابس، لم أكن بحاجة لتفصيلها بنفسي فكل موسم، كان جلالته يرسل لي خياطًا حتى أنني لم أكن أعلم أنه يجب الذهاب إلى مشغل الأزياء لتفصيل الفساتين، إلى أن اضطررت لفعل ذلك لحضور الحفل.
وبالإضافة إلى ذلك، كانت ليانا والإمبراطورة الأم ترسلان لي من وقت لآخر أدوات فاخرة لا يستعملها سوى أفراد العائلة الإمبراطورية، والإمبراطور، رغم أنه لا يظهر أبدًا، يرسل أشخاصًا للعناية بصيانة القصر كلما احتاج إلى ذلك.
والوحيدة التي كنتُ أراها باستمرار كانت الآنسة مارتينا ، التي من المفترض أن تعيش على مصروفها الخاص، لكنها كانت دومًا تخرج محفظتها وتقول إن فتاة مثلي لا بد أنها لا تملك مالًا في بلادٍ غريبة مثل هذه.
ببساطة، لم يكن هناك أي مجال لصرف المال.
حين رأيت المال يتراكم أمامي، فكرت: “أليس من الأفضل استثماره في أولئك العلماء الذين يعملون جاهدين في المختبرات؟” لا أظن أنني ارتكبتُ خطأً بذلك.
“هل تعنين أن هذه نتيجة (قصور) تصرفي أنا؟”
تفاجأتُ من استخدامه المفاجئ للغة كلاسيكية رسمية، مما جعلني أرتبك.
هل هذا الفتى لا ينوي فعلًا إخفاء هويته الحقيقية؟
لكن، إن لم يكن قد رأى متجسدين آخرين من قبل، فربما لا يخاف من أن يُكشف أمره لأن من لا يعلم بإمكانية التجسد، لن يظن أبدًا أن من أمامه يستخدم مثل هذا الأسلوب لأنه شخص بالغ يعيش في جسد فتى.
“لا، لم أكن أرغب في إلقاء اللوم على جلالتك… بل أردتُ القول إن بفضلكم، استطعتُ الاستثمار في ما أحبّ.”
وحين سارعتُ لتدارك الموقف، تنهد الدوق تنهيدة طويلة، ثم شرب ما تبقى في فنجانه دفعة واحدة فأسرعتُ بإعادة ملئه، فشربه مرة أخرى مباشرة أليس ساخنًا؟ فحتى الكمية الجديدة التي سكبتها كانت لا تزال دافئة بفضل جهاز التسخين…
على أيّ حال، عندما سكبت له كوبًا آخر، توقّف الدوق أخيرًا عن شرب الشاي كما لو كان يشرب ماءً، وأخذ يتفحّص الكوب بهدوء.
“هل الأمر ليس اهتمامًا حقيقيًا بفنّ السيف، بل مجرّد ولعٍ بدعم من يملك موهبة؟ بالنظر إلى أنك أنشأت معهدًا كاملًا في القصر؟”
تردّدتُ للحظة قبل أن أُجيب دعمي للعلماء كان فقط لأنني رأيت الحاجة لذلك، وليس لأن قلبي يخفق عند رؤيتهم كما يحدث حين أرى محاربًا موهوبًا.
لكن حتى خفقان قلبي عند رؤية محارب، في النهاية، هو رغبة في ضمّ الموهوبين، وليس لأنني أريد أن أصبح محاربةً عظيمة.
من هذه الناحية، كان حُكم الدوق صائبًا وخاطئًا في آنٍ واحد صحيح أن لدي اهتمامًا أكبر بفنّ السيف، لكن ليس لرغبة في أن أصبح مبارِزة أو عالِمة، بل لأنه طمعٌ في الموهبة.
“إذا كان هناك ما ترغبين به، فسأدعمه لكِ إن كنتِ ترغبين في تعلّم فنّ السيف، فسأجلب لكِ معلّمًا لذلك، وإن كنتِ ترغبين في تأسيس معهد بحثي، فسأشيّد لكِ مبنىً كاملًا باسمي ليكون مركزًا للأبحاث لكن، حتى أتمكّن من فعل ذلك، عليّ أن أعرف أولًا ما الذي ترغبين فيه.”
قبضتُ على يدي بلا داعٍ من شدّة الارتباك كان مجرى الحديث سريعًا للغاية حتى أنني لم أعد قادرة على مواكبته أن يُطلب مني أن أقول ما أرغب به؟ وكأنّ كل شيء سيتحقق بمجرد قوله… وكأنّ كلمة واحدة تكفي لأن أحصل على كل ما أريد.
“هل لي أن أسأل عن السبب؟”
“عن أيّ سبب؟”
“لماذا تفعل كل هذا لأجلي؟”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 37"