لم تكن ليانا تخجل من مهارتها في المبارزة لو كانت تفعل، لما تولّت من البداية منصب قائدة فرسان القصر الإمبراطوري.
فأسرة كايبروهان كانت منذ الأزل السيف الأشد مضاءً في خدمة العائلة المالكة، وليانا كانت فخورة بتلك الحقيقة.
وكان امتلاكها لمهارات قتالية متفوقة حتى بين أفراد أسرتها الفذة، مصدر فخر واعتزاز خاص لها.
ورغم أنها لم تكن قد بلغت العشرين من عمرها حين تولّت قيادة فرسان القصر، لم يجرؤ أحد على الهمس بأنها نالت ذلك المنصب بفضل مكانتها كخطيبة ولي العهد أو لانتمائها إلى أسرة كايبروهان كل الفضل كان لقوتها الساحقة التي لا يُمكن إنكارها.
فقط شيء واحد، كان يبعث على حزنها.
أن الكائنات اللطيفة والضعيفة التي تحبها، تنفر من الدماء والعنف، ولذلك لا يمكنها أن تُظهر جانبها المحارب أمامهم وتدلّلهم كما ترغب.
ولهذا السبب، لم تُرِ ليانا وجهها في ساحة المبارزة أمام بلانش طوال السنوات الثلاث الماضية، ولو مرة واحدة.
لكن كل شيء بات هباءً الآن، وأصبحت نظرات ليانا أكثر حدّة.
“بمعنى أنك خالفتَ التعليمات لأنك تثق بي؟”
ما أوقف نصل الكلمات الذي بلغ طرف لسانها، كان صوت بلانش.
“جلالتكِ.”
بمجرد أن سمعت ليانا صوت بلانش، تداركت الأمر وجمعت نظراتها.
فليس من الصواب أن تُبدي وجهًا مخيفًا أمام طفلة مرعوبة تأنيب الفارس على تصرفه الطائش يمكن أن ينتظر لاحقًا.
“حسنًا، بلانش هل نذهب إلى هناك؟”
هل بدا صوتها رقيقًا بما فيه الكفاية؟
رغم أن ليانا تجيد التنقّل ببراعة بين ملامح الإمبراطورة الحنونة وقائدة الفرسان الصارمة، إلا أنها لم تكن متأكدة الآن إن كانت قد أحسنت إخراج صوتها.
رغبةً في تهدئة الطفلة بسرعة، مدّت يدها لتحملها، لكن بلانش أمسكت بيدها بدلًا من ذلك.
يد الطفلة الصغيرة بدت كأنها لعبة بين راحة يد ليانا الطويلة والرفيعة.
“لقد كنتِ رائعة.”
اتسعت عينا ليانا دهشة من ذلك التصريح غير المتوقع.
“آه؟”
“حقًا، كنتِ رائعة للغاية.”
عندها فقط أدركت ليانا أن وجه الطفلة، التي طالما بدت هادئة، قد احمرّ خجلًا، وأن عينيها تتلألآن ببريق لم تره من قبل.
“أ… تقصدين المبارزة؟”
لم تكن كلمات يُسهل تصديقها، لكنها أرادت التأكد، فجاء الرد أشدّ حماسة.
أمسكت الطفلة بيدها بقوة وهزّت رأسها بحماس.
“نعم!”
ليانا لم تجد ما تقوله، فلم تفعل سوى فتح فمها وإغلاقه مرارًا.
وبعد برهة، لم تخرج من شفتيها سوى سؤال:
“ألم تشعري بالخوف؟”
“أبدًا.”
كان الرد حاسمًا.
لكن حرارة الصوت وبريق العينين أخبرا ليانا أن هذا لم يكن مجرد مجاملة، بل شعور حقيقي نابع من القلب.
حبست ليانا ابتسامة كادت تظهر، ثم نادت على الفارس الواقف إلى جانبها.
“السيد لينتون.”
“ن-نعم!”
لأنه كان قد تلقّى توبيخًا قبل لحظات، بدا التوتر يشد كتفيه بقوة.
“بحسب القواعد، لا يُسمح بدخول المدنيين إلى ساحة التدريب أثناء المبارزة، ولكن──”
كان صوت بلع ريقه عاليًا كالرعد في أذن ليانا الحادة السمع.
عندها خففت نبرة صوتها، وتركت طرفي شفتيها يرتفعان بابتسامة خفيفة.
“لكن بما أن بلانش الأميرة الجميلة قد حضرت، فسأتغاضى هذه المرة فقط.”
“شكرًا جزيلًا! سأكون أكثر حذرًا في المستقبل!”
“جيد.”
ثم، وكأنها تسامح فارسًا عن خطيئة صغيرة، مدت يدًا لبلانش ورفعتها بذراعها الأخرى بخفة.
“إذن، سأقوم باستقبال الضيفة لبعض الوقت، وأنتم تابعوا تدريبكم الحر.”
“أمرك، سيدتي!”
رغم أن القائدة كانت فعلاً تتصرف على هواها، إلا أن فرسان فيلق الفرسان الإمبراطوري كانوا قد بايعوا ليانا، الإمبراطورة والقائدة، بولاءٍ متجذر في أعماق عظامهم.
وانطلقت ليانا وبلانش تاركتين الفرسان خلفهما، الذين لم يُبدِ أيٌّ منهم تذمُّراً، وما إن تأكدوا أن القائدة قد ابتعدت بما فيه الكفاية، حتى بدأوا يتناجون همساً.
“واو، إنها فتاة سيكون لها شأن كبير حتى نحن، عندما كنا مجندين جدداً، كانت أجسادنا ترتجف لمجرد تلقينا نظرة حادة من القائدة.”
“حقاً لا بد أن يكون المرء على هذا المستوى حتى يُعتبر صديقاً لسمو ولي العهد، أليس كذلك؟”
“عندما سمعت الشائعات، ظننت أنه لا يمكن أن توجد فتاة كتلك، لكن رؤيتها بعينيّ أثبتت أن الشائعات كانت أقل من الواقع!”
صحيح أن الشخص الذي جعل الفرسان يشعرون بالتوتر كانت ليانا، لكن ما انطبع في أذهانهم بعمق كان بلانش، التي رأوها لأول مرة اليوم.
وبينما كان الجميع يتحدثون بدهشة عن جرأتها، إذ إنها لم تكتفِ بعدم التوتر أمام ليانا، بل أمسكت بيدها قائلةً إن النزال كان رائعاً، أطلق أحدهم ضحكة خفيفة وعلّق مازحاً:
“بهذا القدر من الجرأة، ألن نراها مستقبلاً وهي تنضم إلينا كفارسة جديدة؟”
“هيا، حتى وإن كان الأمر كذلك، فهي أجنبية─”
“هيه، لدينا أيضاً من وُلدوا في دولٍ أخرى، لا تكن عنصرياً─”
ضحك البعض من الدعابة، والبعض الآخر أشار إلى واقعيتها، بينما ذهب آخرون يمازحون من أطلق الملاحظة الواقعية، وسط هذا المزيج من التفاعلات، قال أحدهم بنبرة غير مبالية:
“من يدري ربما من الأرجح أن نراها مجدداً كشخص نهب له قسم الولاء.”
كانت عبارة تُلمّح إلى احتمال أن تصبح بلانش الإمبراطورة القادمة.
وفي تلك اللحظة، خيّم الصمت بين الفرسان، وبدأوا يسترجعون في أذهانهم ملامح وجه ولي العهد المعروف جيداً لديهم، ووجه الأميرة التي غادرت للتو.
“…ما علينا، يبدوان كزوجين متناسبين فعلاً.”
قال أحدهم مبتسماً بفتور، وعاد الفرسان إلى تدريباتهم الذاتية، متخلّين مؤقتاً عن تخيلاتهم بشأن مستقبلٍ لا يعلم أحد إن كان سيأتي، وإن أتى فلن يكون إلا بعد زمنٍ طويل.
لكن ذلك الاحتمال بقي محفوراً بعمق في قلوب جميع الفرسان الذين كانوا هناك.
***
حقاً، كانت ليانا ذات حضور طاغٍ بدليل أنني أنا نفسي لم أستطع أن أنسى ذلك المشهد منذ ذلك اليوم.
وقد استمرت آثاره حتى وصلت إلى وقت احتساء الشاي الأسبوعي مع الدوق إذ ذهب يتأملني بتعبير متجهم، حين رآني أعبث بفنجان الشاي شارداً على غير عادتي، وسألني ببرود:
“ما الذي حدث بالضبط؟ لا أظنني رأيتك يوماً بهذه الحالة من الذهول.”
رغم أن ذهني كان تائهاً، إلا أنني كنت أحتفظ ببعض القدرة على التفكير، فجمعت ما تبقى لديّ من تركيز وأجبت:
“لقد رأيت مشهد نزال جلالة الإمبراطورة.”
“آه…”
كان ذلك التفسير وحده كافياً من المؤكد أن الدوق قد شاهد هو أيضاً ليانا وهي تشهر سيفها صمت الدوق للحظة وجيزة، ثم سأل مجدداً:
“هل شعرت بالإرهاق أمامها؟”
الإرهاق؟ ربما يمكن القول ذلك أيضاً لكنني كنت أعرف كلمة تصف الأمر بشكل أدق.
“لقد سُحِرت بها.”
كنت أفهم أولئك الذين قالوا إنهم شعروا بالإرهاق، لكنني لم أكن مقتنعه.
“كانت جميلة.”
بدت الإجابة غير متوقعة، إذ ارتسمت على وجه الدوق ابتسامة محرَجة مرت سريعاً.
“هذا حقاً…”
تمهّل الدوق في اختيار كلماته وقال:
“وجهة نظر فريدة.”
على ما يبدو، الآخرون لا يرون في ذلك المشهد جمالاً كنت أفهم رد فعلهم هذا، لكنني لم أكن قادراً على تقبّله.
“لست أعلم إن كانت وجهة نظر فريدة، لكنها ردّة فعل منطقية.”
وجود ليانا طاغٍ، ومهاراتها مؤكدة لا شك فيها أفهم تماماً لماذا لا يستطيع أحد التهاون معها.
لكن، مهما كانت محاربة، أليس ذلك مستوى يرقى إلى مصافّ الفن؟ لا ينبغي أن نهابها، بل أن نُجِلّها في حياتي السابقة، سمعت بلقب “الاستراتيجي العبقري” و”القائد العبقري”، لكن لقب “مبارِزة عبقرية”؟ لم أسمع به قط، فكان الأمر أشبه بالمهزلة والذهول بالنسبة لي.
أترى، لعلّ غياب الحروب عن هذه القارة جعل الناس يترعرعون على نحو هش في أيامنا، إن ظهر شخص بتلك العظمة، كان الجميع يتسابقون لدعوته إلى الولائم وتكوين صداقة معه.
“هل تعلم أنك تُظهر الآن أعتى تعبير عرفته منك منذ أن عرفتك؟”
قال الدوق وهو يضحك بخفة، وكأن ما سمعه يفوق تصوره.
“هل لديك اهتمام بالسيف؟”
لا يمكنني القول إنني لا أملك ذلك فأومأت برأسي بخفة لكنني لم أقصد بذلك سوى أنني، كقائد عسكري، مهتم بالمواهب؛ ولم أكن أرغب بتعلم المبارزة بنفسي. غير أن الدوق يبدو أنه فهِم الأمر بشكل مغاير.
“إن رغبت، يمكنني أن أرتب لك معلماً لتعليمك المبارزة.”
لكن تعلم أي شيء لا يُعد خسارة بأي حال ففي حياتي السابقة، كنت أملك من المهارة ما يكفي للقضاء على عشرة أو خمسة عشر عدواً في ساحة المعركة.
“وبما أن ساحة التدريب موجودة هنا بالفعل─”
كنت أُفكّر في عرض الدوق بإيجابية حين نُطق فجأة كلام أربكني فتحدثت بتردد:
“أ- بشأن ذلك… لا يمكننا استخدام ساحة التدريب الآن.”
“هاه؟ لماذا؟ هل لأنها تُركت دون استخدام؟ لا تقلق، سنقوم بالتنظيف والصيانة قبل استخدامها بالطبع.”
“لا، ليس هذا ما قصدته…”
“إذاً، ماذا هناك؟”
بللت شفتيّ الجافتين بطرف لساني وأجبت بخفوت:
“…هناك حيوانات تجريبية تُربى في الساحة حالياً، لذا لا يمكن استخدامها.”
“ماذا؟”
رمش الدوق بعينيه الكبيرتين، وقد بدتا وكأنهما اتسعتا بمقدار مرة ونصف بدأت أحاول تبرير الموقف بتلعثم:
“هناك أحدهم يقوم بدراسة فروق نتائج التدريب بين الأنواع المختلفة من الحيوانات، وكان بحاجة إلى مساحة واسعة لهذا الغرض وساحة التدريب مع الغابة المحيطة بها بدت مثالية لإنشاء منشأة هناك… الحيوانات بحاجة إلى مساحة للتنقل أيضاً… على أية حال، لهذا السبب قمنا بإزالة المرافق وبناء حظائر.”
وهل كنتُ أرغب أنا بذلك؟ الإنسان يجب أن يتعلم الدفاع عن نفسه ولو بالحد الأدنى، لذا كنت أرغب بترك مساحة للتدريب أيضاً.
لكن حين قرأت الاقتراح الذي قدمه السيد أفيتلاندري، الذي يُجري أبحاثاً على الحيوانات، بدا منطقياً ومغرياً للغاية فكّرت، إذا كانت البذور تُحسَّن عبر الأبحاث، فلم لا تُحسَّن الماشية كذلك؟
ألن يكون مفيداً في تربية الحيوانات إذا فهمنا سلوكياتها وخصائصها والاختلافات بين الأنواع؟ حين فكرت في الأمر على هذا النحو، شعرت أنه لا فائدة من إبقاء المساحة مهجورة بلا استخدام.
“يا لهذا الـ…!”
كان وجه الدوق يوحي بأنه على وشك التفوه بشيء، لكنه أدرك في النهاية أن التوبيخ الآن لن يُجدي نفعاً.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
التعليقات لهذا الفصل " 36"