لم تكن تتوقع على ما يبدو أنني سأطلب شيئًا كهذا، إذ ارتجّت قليلاً عينا الامبراطورة الأم الذهبيتان اللتان كانت تبدوان هادئتين دومًا.
“تدريب على المبارزة؟”
“نعم. لقد سمعت أنّ جلالة الإمبراطورة تُلقّب بأعظم سيّافة في العالم، لكن لم تتح لي فرصة لمعاينة مهارتها شخصيًا.”
بدأت الإمبراطورة الأم بالكلام ببطء، بملامح لا يُعرف أهي تبتسم أم تعقد حاجبيها.
“الأميرة دائمًا ما تختار كلماتها على نحو استثنائي.”
أوه… هل كان الأمر فاضحًا جدًا؟ راجعت في ذهني اختياري للكلمات.
عند التفكير في الأمر، فإن اللغة المشتركة في قارة فالوثوس، حيث تقع إمبراطورية ريتايل ومملكة لاموري، هي “لغة يوم”، أما في قارة أتان، حيث كانت تقع إمبراطورية جين، فاللغة المشتركة هي “لغة جانغ”. لذا كان من الطبيعي أن أتعلم لغة يوم من الصفر في هذه الحياة.
ومع أنني تعلمت هذه اللغة حديثًا، فإن استخدامي لكلمات لا تناسب سني لا يمكن تفسيره إلا بالعادات القديمة حتى عند تعلّمي المفردات، يبدو أنني تعمدت لاختيار الكلمات الراقية التي تناسب أسلوبي القديم في الحياة.
ولكي تناسبني هذه العادة، لا بد أن أكون في الثلاثين على الأقل هل عليّ أن أبدأ بتعلّم طريقة كلام تناسب سني الطفولي بسرعة؟ لدي الآن بجواري الآنسة مارتينا، وهي مثال جيد يمكنني التعلم منه، فلا أظن أن الأمر سيكون صعبًا…
وأنا أفكر بهذه الطريقة، قالت الإمبراطورة الأم بنبرة خفّت حدّتها قليلًا:
“أنا معتادة على ذلك بسبب ميلتشزيدك”
يبدو أنها ظنت أنني شعرت بالانزعاج وفقدت ثقتي بسبب ملاحظتها تلك لكن الحقيقة أنني لم أنزعج، وإنما راودني مجددًا شعور بأني لا أبدو كطفلة حقًا، ومع ذلك لم أجد ضرورة لإخبارها بذلك، فآثرت الصمت.
“لا أعلم لماذا ترغبين في رؤية مهارات ريانا، لكنني سأعطيك حجة مناسبة.”
مدّت الإمبراطورة الأم يدها ورفعت علبة الشاي التي كانت تحتوي على الأوراق التي استخدمتها لتحضير الشاي قبل قليل.
“أعطِ هذه إلى ريانا وقولي لها إنني وجدته جيدًا بعد أن تذوّقته، وسيكون من المناسب أن تقوم الأميرة بإعداده بنفسها.”
“اليوم؟”
الآن تمامًا هو وقت شاي العصر، ولو ذهبت ثم أعددت لها الشاي، فقد يكون الوقت متأخرًا لتناوله كما أنني سكبت الشاي للتو، وليس من المناسب أن أنهض فورًا غير أن الإمبراطورة الأم أجابت بابتسامة خفيفة:
“لا داعي لإضاعة الوقت، سأستمتع بعطر الشاي وحدي، فانهضي الآن.”
ولم يكن هناك ما يمنع فعلاً لذا، وبموافقتها، وقفت مغادرة مكاني تاركة الشاي دون أن أشربه، في تصرّف يُعدّ خاليًا من اللباقة.
خلال السنوات الثلاث الماضية، تعلمت الكثير عن تركيبة العائلة الإمبراطورية. مثل موقع الدوق الحالي، والعلاقات بين القوى من أسر المصاهرة، والأُسر المقربة من العائلة الإمبراطورية، وغير ذلك.
لكن بعض المعلومات لا يمكن الاستفادة منها لمجرد معرفتها. وبالنسبة لي، كانت “كفاءة الإمبراطورة” من هذا النوع.
طوال السنوات الثلاث الماضية، تكرّر كثيرًا سؤال الناس لي: “كيف لطفلة ألا تبكي عند رؤية الإمبراطورة؟” وكان الإعجاب بمهارات الإمبراطورة العالية في المبارزة أمرًا متكررًا أيضًا.
غير أنني، ربما لانعدام غريزة البقاء لدي، لم أشعر بأي انطباع خاص عند رؤيتها ولهذا لم أكن أستطيع تمييز مدى ما في تلك الأحاديث من حقيقة، وما فيها من مبالغة.
لو كان في وجه الإمبراطورة ندبة مثلًا، لربما كانت انطباعاتي أقوى.
لذا، كان من الضروري أن أرى كيف تستخدم سيفها، لأقيّم مستواها هل ينبغي لي أن أُظهر حضورًا يطغى على الإمبراطورة؟ وإن كان ذلك مستحيلًا، فهل عليّ أن أستغلّ حضورها لأبرز حضوري أنا؟
“أليست هذه سمو الأميرة بلانش؟ أوراق شاي؟ آه، إن كان الأمر كذلك، فالرجاء الانتظار هنا قليلاً، وسأقوم بإبلاغ جلالة الإمبراطورة.”
استقبلني أحد الفرسان أمام ساحة التدريب حين وصلتُ وأنا أُمسك بعلبة أوراق الشاي بإحكام، مخاطبًا إياي بأسلوب لبق غير أن اللباقة كانت في الكلمات فقط، أما نبرة الحديث فكانت عادية، كما لو كان يخاطب طفلاً عادياً.
بمعنى آخر، عاملني بتلقائية كمن هو دونه.
في حياتي السابقة، لو حصل مثل هذا لكانت نزلت عليه صاعقة من الغضب في الحال أما الآن، فقد كنت أرحب بهذا التحقير فخلال السنوات الثلاث الماضية، أدركت بعمق كم من السهل التعامل مع خصم غافل.
“أريد أن أُسلّمها لها بنفسي!”
قلت ذلك بنبرة فيها دلال زائد، أقرب إلى صوت طفل يلوك كلماته وبالفعل، بدا أن الفارس قد أصبح أكثر تراخيًا في تعامله.
“ولكن جلالة الإمبراطورة في الوقت الحالي مشغولة بمبارزة…”
“مبارزة!”
أفرطت في رمش عيني، حتى اهتزّت أهدابي لدرجة أنها أصبحت تعيق رؤيتي.
“أريد أن أراها لا يمكن؟”
خلال السنوات الثلاث الماضية، علمت أن الناس يضعفون بشكل غريب أمام توسّل بريء من طفل مع أن منع الأطفال من مشاهدة المبارزات إنما يكون بداعي الخطر، وليس لكون توسّلاتهم تُبطل ذلك الخطر، إلا أنني لم أفهم تمامًا لماذا يتهاون الناس في ذلك الموقف.
“لا بأس، دعنا نصطحبها.”
تدخّل فارس آخر بجانبه لم تعجبني طريقته في اختيار الكلمات، لكنني اكتفيت بابتسامة صامتة.
“إنها الطفلة التي رأت القائدة ولم تبكِ ألا يثيرك الفضول لمعرفة كيف ستكون ردة فعلها؟”
بالطبع لم يقل ذلك علنًا، بل قاله كأنه يهمس، لكن سمعي قوي.
وهنا، لا يتعلق الأمر بحاسة السمع فقط، بل بقدرتي على التقاط بعض الكلمات والعبارات المتفرقة، واستنتاج الجملة الكاملة منها من خلال السياق والنبرة.
وعلى أي حال، فقد تمكنت من فهم كل ما قاله، حتى ما لم أسمعه بوضوح.
لكنني تظاهرت بعدم سماع شيء، واكتفيت بالرمش بعيني وبعد أن تبادل الفارسان بضع كلمات همسًا، التفت إلي أحدهما وقال:
“حسنًا، من هذه الجهة، تفضلي.”
سرت خلفه وأنا أحمل العلبة بكلتا يدي كأنها كنز ثمين وبعد أن مشينا قليلاً وسط أشجار كثيفة، لا أعلم إن كانت لصدّ الضوضاء أو لحجب الرؤية، انفتحت الرؤية فجأة أمامي، وظهرت ساحة التدريب بكل وضوح.
“لقد أرهقت خصرك! ألم تُثبّتي ساقيك جيدًا؟ هجومك خفيف وضعيف!”
وهناك، رأيت للمرة الأولى ليانا إنزين بيندلتون بصفتها “فارسة”.
“…واو.”
لم يخطر ببالي حتى أن عليّ أن أتحكم في ملامح وجهي. لقد كان الأمر، ببساطة…
“…جميلة.”
“عذرًا؟”
سمعت صوت الفارس بجانبي وهو يتمتم بذهول حسنًا، في عيني هذا الغِرّ، لا بد أن الإمبراطورة المتزينة دومًا تكون أجمل في نظره تلك التي تتزين بطبقات من الدانتيل، وتتدلّى عليها الأحجار الكريمة الملونة، وتُخفي ابتسامتها خلف مروحة حريرية بتؤدة وأناقة.
لكنني كنتُ، دائمًا، أؤمن أن الإنسان يكون في أجمل حالاته عندما يفعل ما يُجيده فالعالِم عندما يقرأ، والحاكم عندما يدير شؤون الناس، والمحارب عندما يمسك بسيفه، والفلاح عندما يحرث أرضه، والملك عندما يحكم — عندها فقط يسير العالم كما يجب، وفق منطق الأشياء وسننها.
ومن هذا المنطلق، فإن ليانا إنزين بيندلتون كان من المفترض أن تكون محاربة لا إمبراطورة فارسة أو جنرالًا، أيًّا كان، ما دامت تحمل السيف كان من المفترض بها أن تقيم في ساحة المعركة، لا في القصر الإمبراطوري.
“أوه، هل كنتِ أنتِ يا بلانش؟”
يا ترى كم من الوقت بقيتُ مدهوشةً على تلك الحال؟
كانت ليانا تتحرك كأنها ترقص، كأن بتلات الزهور تتطاير مع خطواتها، ثم في لحظة، توقفت، ووقفت أمامي ورغم أنها أنهت تواً جولة من المبارزة، فإن وجهها لم يحمل حتى قطرة عرق واحدة.
“آسفة، هل أفزعكِ الصوت؟ تعالي، بدلًا من الوقوف في هذا المكان المترب، ما رأيك أن نشرب الشاي هناك؟”
قالت ليانا ذلك بوجهٍ ودود وهي تلاطفني، لكنها رمقت الفارس الواقف بجانبي بنظرة حادة.
“من الذي جلب طفلةً إلى مكانٍ خطرٍ كهذا؟”
الفارس الذي كانت ملامحه قبل قليل مملوءة باللعب والمزاح حين أحضرني، أصبح الآن مرتبكًا بشكلٍ يُثير الشفقة.
“لـ… لقد كنتُ إلى جانب سمو الأميرة طوال الوقت، فلا أظن أنها كانت ستتأذى ثم إنكِ كنتِ هنا أيضًا، فلا خطر من أن تطير الأسلحة أو تصيبها──”
“بمعنى أنك خالفتَ التعليمات لأنك تثق بي؟”
قالت ليانا ذلك بصوتٍ بارد، ونظرتها كانت حادة كالشفرة.
لو كان شخصًا عاديًا مكان ذلك الفارس، لارتعد كما فعل هو بالضبط، لكنني، رغم ذلك، لم أتمالك نفسي من أن أفتتن بها.
ربما لأنني حصلتُ في أواخر حياتي على لقب المستشار الأعلى، فقد ظن كثيرون في كتب التاريخ أنني كنتُ رجل حكم وإدارة، لكنني كنتُ في الأساس محاربًا.
ولأجل ذلك، لم أكن أفتتن يوماً بعباقرة السياسة أو الاقتصاد أما أولئك الذين يملكون عبقرية في فنون القتال، فلم أملك يومًا أمامهم إلا أن أُسحر.
أولئك الذين يمكنهم تغيير مجرى المعركة بمجرد وجودهم الذين يكونون محورًا تدور حوله ساحات الوغى الذين يمكن أن يصبحوا أبطالًا منقذين للأمة.
منهم من سمعت عنه فقط عبر الشائعات، ومنهم من هزمته بنفسي، لكن حتى أولئك الذين جززتُ رقابهم بيدي، لم أستطع إلا أن أُقدّر عبقريتهم.
وليانا إنزين بيندلتون، كانت تشبه تمامًا أولئك العباقرة الذين لم أملك إلا أن أحبهم وأُعجب بهم في النهاية.
ولذلك، في هذه اللحظة، وقعتُ في أسرها.
لم يكن ما جهلته ليانا هو وجود زائر فليانا كانت حساسة للغاية تجاه الحركات والأصوات، وكانت قد أدركت منذ البداية أن شخصين يقتربان من ساحة التدريب، بل وحتى أنهما يتألفان من فارس واحد وشخص غير مدرّب.
ما لم تكن تعرفه ليانا هو أن الزائرة كانت بلانش نفسها.
صحيح أن ما كانت تمارسه يُسمى “مبارزة”، لكنه في الواقع كان تدريبًا لأفراد الفِرقة، ولذلك لم ترَ ضرورة لإيقافه في منتصفه، بل تابعت بضرب أفرادها ضربة بعد الأخرى.
ولم تكتشف هوية الزائرة بعينيها إلا بعد انتهاء التدريب بالكامل وربما لم يلاحظ الفرسان مدى دهشتها حينها، لأن ليانا، على عكس طبيعتها المعتادة، كانت بصفتها قائدة الفرقة قادرة على التحكم بعضلات وجهها ببراعة كاملة.
“من الذي جلب طفلةً إلى مكانٍ خطرٍ كهذا؟”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
التعليقات لهذا الفصل " 35"