“آه، بالطبع سيكون الأمر كذلك فكلاهما يتمتع بمهارات اجتماعية جيدة وذكاء عالٍ، لذا فهما يحسبان جيدًا ما قد يترتب على الشجار في مكان كهذا من أضرار لكننا نتصرف هكذا دائمًا تحسبًا لما قد يحدث، وإن كان احتمال وقوعه ضئيلاً.”
“لا، في الواقع…”
ارتسمت على وجه تولّا ملامح الحيرة كان وجهها مترددًا، وكأنها غير متأكدة مما إذا كان ينبغي لها إخباري بهذا الأمر. عندها، تحدثت بصوت حازم.
“تولّا ديلوتا، ما الذي تحاولين إخفاءه؟ لا تُفكرين بمعاملتي كطفلة صغيرة حقًا، أليس كذلك؟ تكلّمي.”
فتحت تولّا فمها لتتكلم وأغلقته مرارًا، ثم غطت وجهها وهمست بصوت منخفض:
“من وجهة نظري… يبدو أن بينهما نوع من الإعجاب المتبادل.”
“تقصدين كمنافسين في المجال الأكاديمي؟ شيء من هذا القبيل؟”
“لا، أقصد… الإعجاب بمعناه العاطفي.”
كان على وجه تولّا، التي أنجزت في السنوات الثلاث الماضية تحولًا إلى سيدة مثالية، تعبيرٌ من نوع نادر لم أعهده فيها من قبل؛ نظرة حرج واضحة، وكأنها تقول: “هل حقًا يجب أن أقول مثل هذا الكلام؟”
“ماذا؟”
لكنني كنت أكثر انشغالًا بكلامها من تعبير وجهها إعجاب؟ عاطفي؟ بين هذين الاثنين؟
“أعني، جلالتك لا تزالين صغيرة، لذا…”
كان هذا من أكثر الأشياء إضحاكًا في العالم صغيرة؟ أنا؟ لقد توفيت عن عمر يناهز الخامسة والستين، وتزوجت، بل وأنجبت طفلين أيضًا وكان زواجي ناجحًا إلى حد كبير، بل وذقت طعم الحب كذلك.
ومن وجهة نظري، هذان الاثنان ليسا إلا خصمين لدودين.
“على أية حال، إن كنتِ تثقين بي، فهل يمكنني تولّي أمرهما؟ سأتعامل مع الموضوع بنفسي.”
بعيدًا عن مسألة الثقة بتولّا، فإن فكرة أن بينهما مشاعر إعجاب عاطفية كانت ببساطة غير قابلة للتصديق على الأقل ضمن حدود المنطق الذي أعرفه.
لكن كما قلت لتولّا، فإن احتمالية أن يرتكبا تصرفًا أرعن تظل منخفضة وإن حدث نزاع، فلن يكون إلا مصدر إزعاج للآخرين لا أكثر، دون نتائج ملموسة.
وفوق ذلك، فإن تولّا ستبلغني بسرعة إن شعرت أن الأمر خرج عن قدرتها.
“حسنًا، سأوكل لك الأمر إذًا لكن عليك أن توافيني بالتقارير حتى أتابع الوضع.”
وهكذا قررت أن أوافق على طلب تولّا.
“شكرًا لكِ إذًا، هل تفضلين أن تأخذي قسطًا من الراحة الآن؟”
كنت قد بدأت أعتاد على كيفية العناية بهذا الجسد.
هذا الجسد يحتاج إلى قسط وافر من الراحة فكلما خرجتُ من المنزل، كان عليّ أن أغمر نفسي في ماء دافئ، وأن أخلد إلى النوم أبكر من المعتاد، وأن أنام عشر ساعات على الأقل بما في ذلك القيلولة.
صحيح أنني لم أعد أغفو تلقائيًا إن لم آخذ قيلولة كما كنت في سن الثالثة، لكن تولّا قالت إنه عليّ أن أنام جيدًا في هذا العمر لأواصل النمو بشكل صحي.
وبعد أن سمعت ذلك، فكرتُ أن السبب في قصر قامتي في حياتي السابقة قد يكون عدم حصولي على قسط كافٍ من النوم في طفولتي لذا بدأت أحرص على النوم قدر الإمكان.
“نعم، أيقظيني قبل غروب الشمس.”
وحين كنت على وشك الاستلقاء على السرير، طرأ في ذهني سؤال، فسألت تولّا:
“بالمناسبة، تولّا.”
“نعم؟”
“هل تحتاجين شيئًا ما؟”
“عفوًا؟”
بدت ملامح الارتباك على وجه تولّا.
“أعني، على الصعيد الشخصي. كمناديل يد، أو حُليّ مثلاً…”
“لا، لا حاجة لي بشيء.”
ثم أغلقت الستائر وسارت نحوي بوجه يملؤه القلق، وسألت:
“لماذا تسألين عن أمر كهذا فجأة؟”
“فقط، فكرت أن أهديك شيئًا…”
لقد تذكرت أنني لم أقدّم لتولّا أي “هدية” من قبل، بعدما رأيت الآنسة مارتينا تفرح بما قُدِّم لها.
صحيح أنني أُعطي تولّا مصروفًا مناسبًا يُبقيها محتشمة ومرتاحة، ولا أتدخل في نفقاتها أو أراقبها إذ شعرت أن من الأسهل لها أن تشتري ما تحتاجه بنفسها، لأن طلب شيء مني قد يكون محرجًا.
لكن مارتينا فرحت بهدية لم تكن مناسبة لها حتى، فهل تكون قيمة الهدية في ذاتها، لا في فائدتها؟
وإذا كنت سأُهدي تولّا شيئًا، فربما ستفرح كما فرحت مارتينا.
“إن كنتِ ترغبين بإعطائي شيء، فيمكنكِ فعل ذلك فحسب.”
“أي شيء؟”
“ما الذي ترغبين بإعطائه؟”
ليس الأمر أنني أرغب بإعطاء شيء بعينه…
أمسكت بيد تولّا التي كانت تُغطي جسدي بالبطانية، وأخذت أُدلّك ظاهر يدها تلك اليد التي تعتني بي كل يوم.
“بل أريد فقط أن تفرحي به.”
لم أكن ماهرة في إسعاد الآخرين حتى حين قررت أن أتحمّل مسؤولية تولّا، لم أتمكن من الوعد بجعلها سعيدة.
لكن، مارتينا فرحت، وهذا أمر حقيقي.
إذًا ربما، أستطيع أن أجعل تولّا تفرح أيضًا بقيت تولّا صامتة وهي تمسك بيدي، ثم تمتمت بهدوء:
“يا لكِ من شخصٍ محبوب…”
ثم ربّتت على يدي باليد الأخرى التي لم أكن أمسك بها.
“أنا سعيدة لأنكِ تفكرين بي، سيدتي.”
آه، ها هي تناديني “سيدتي” مجددًا تلك عادة لم تفارق تولّا بعد صحيح أنها لم تعد تستخدمها خارجًا، لكنها لا تزال تُناديني بها حين نكون بمفردنا.
“مجرد تفكيرك بي يجعلني سعيدة.”
جبل وراء جبل، غموض وراء غموض على الأقل، الآنسة مارتينا تلقت شيئًا ما أما تولّا فلم تتلق شيئًا سوى بضع كلمات، ومع ذلك فهي تقول إنها سعيدة لم أكن أفهم كيف يكون ذلك.
لكن رغم أنني لم أفهم، فإن تولّا بدت سعيدة فعلًا وذلك كان كافيًا لي.
كانت بلانش تبدو وكأنها تود قول الكثير، لكنها ذهبت تُغمض عينيها شيئًا فشيئًا، حتى غرقت في النوم تولّا لم تُبعد يدها، بل بقيت تُمسك بها بابتسامة رقيقة.
ربما كان الناس يختلفون في تقييم بلانش بعضهم يرى أنها محظوظة، وآخرون يرون حياتها مُحزنة، كونها تخضع لتقلّبات الكبار وأهوائهم.
لم تكن تولّا تعلم إن كان مجيء بلانش إلى هنا، وكونها أصبحت رفيقة الدوق، بل وأثارت اهتمام الإمبراطورة والإمبراطورة الأرملة، أمرًا جيدًا حقًا.
لكن بالنسبة لتولّا، كان من الجيد أن بلانش باتت أكثر “طفولة” من ذي قبل.
خلال السنوات الثلاث الماضية، لم تُصبح بلانش أكثر نضجًا، بل أصبحت أصغر سنًا في سلوكها ومع أنها لا تزال ناضجة مقارنةً بأقرانها، فإن التحول كان ملحوظًا.
أصبحت تنام قيلولة، ولم تعد مهووسة بالقراءة أصبحت تُكوِّن صداقات، وتتمشى في الحديقة، وتعتني بالحيوانات.
والآن، ها هي تقول إنها تريد أن تُسعد تولّا تلك الفتاة التي، عندما جاءت لأول مرة، كانت تُصرّ على أنها ستَحمي تولّا.
“سيدتي…”
انحنت تولّا وهمست في أذن الفتاة النائمة:
“إن كنتِ سعيدة، فأنا أيضًا سعيدة.”
تلك كانت مشاعرها الحقيقية كانت تشعر بالسعادة كلما رأت بلانش تتصرف كطفلة، تُخفف من توترها، وتفرح بأمور بسيطة وكأن بلانش ، التي وُلدت وكأنها راشدة، أُتيح لها الآن أن تعيش حياة الطفولة.
“لذا، أرجوكِ… كوني سعيدة دومًا.”
همست تولّا بتلك الكلمات، ولم تُبعد يدها الصغيرة، بل بقيت إلى جوارها حتى مرّ الوقت، وخيّم الغروب، وانتهت قيلولة الفتاة الصغيرة.
بما أنني اخترت ما سأرتديه في عيد ميلادي، فإن التحضيرات المادية قد أُنجزت تقريبًا فالملابس والهدايا كلها أصبحت جاهزة وما تبقى الآن هو أمور معنوية، مثل كيفية ترك انطباع لدى النبلاء.
لذا، قررت أن أزور الإمبراطورة الأرملة فهي الراعية التي وثقت بي وانتظرتني لثلاث سنوات، وكان لا بد لي من إطلاعها على التقدم الذي أحرزته.
“هل تسير التحضيرات كما يجب؟”
رفعت رأسي، فالتقت عيناي بعينيها الذهبيتين اللتين كأنهما من ذهبٍ مُذاب كانت دومًا نظرتها تشبه نظرة الطيور الجارحة.
“أقوم بكل شيء على مهل، وبشكل متتابع.”
ابتسمت ابتسامة رقيقة، ثم رفعت إبريق الشاي في الوقت المناسب سكبت الشاي في الكوب الذي سبق أن وضعت فيه زهرة واحدة، فما إن لامسه الماء الساخن حتى تفتحت الزهرة بالكامل وعندما تأكدتُ من اتجاه تفتحها، دفعت الكوب باتجاه الإمبراطورة الأرملة.
“تفضّلي.”
رفعت الإمبراطورة الأرملة الكوب واستنشقت عبير الشاي.
“رغم أن التوقيت ودرجة حرارة الماء تختلف في كل مرة، إلا أنك دائمًا تُخرجين أفضل ما في الشاي أليس هذا غريبًا؟ هل هو موهبة؟”
لم تكن موهبة، بل خبرة فقد أعددت الشاي لعقود من الزمن صحيح أن الطرق هنا تختلف قليلاً، لكن في إمبراطورية جين، كان تحضير الشاي يعد من أصول الثقافة ورفاهية الطبقة العليا وكان يكفيني أن أُمعن النظر في أوراق الشاي لأُدرك كيفية ومدة استخلاصها.
“ما زلتُ أفكر في كيفية الدخول إلى القاعة.”
بينما الإمبراطورة هي البطلة، وكانت تتولى إعداد الحفل، لم يكن أمامي إلا أمرٌ واحد أستعد له: أن أترك أثرًا في نفوس الحاضرين أن أُثبت أنني أستحق دعم الإمبراطورة الأرملة، وأن أكون رفيقة للدوق.
لكنني لا أملك حضورًا طاغيًا كالإمبراطورة، ولن أتناول أمور الحكم، لذا فإن ترك أثر قوي يتطلب خطة دقيقة ومدروسة.
ربما بفضل الثقة المتراكمة طيلة السنوات الثلاث، أو لأنها أرادت أن تختبرني، فإن الإمبراطورة الأرملة لم تسألني عن التفاصيل بل اكتفت بقولها:
“حسنًا، إن احتجتِ إلى شيء، فاطلبي.”
وبما أنها منحتني هذه الفرصة، فلديّ أمر أرغب في طلبه:
“إذًا… هل يمكنني مشاهدة جلالة الإمبراطورة وهي تتدرّب على المبارزة؟”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
التعليقات لهذا الفصل " 34"