“حسنًا هذا هو كتالوج محل الأزياء ‘هيبتايد’، لذا عليكِ الذهاب إلى هناك هيا، ما دام قد تقرر الأمر، فلننهض إذًا.”
“نعم؟”
وحين فتحتُ عينيّ بدهشة من كلامٍ لم أستطع فهمه، لم تأتِني إجابة، بل لُطفٌ ومراعاة.
“هم؟ ما الأمر، هل أنتِ متعبة قليلًا؟ هل ترغبين في شرب الشاي قبل الذهاب؟”
كنت أشرب الشاي بالفعل منذ لحظات لم يكن سؤالي بسبب الشاي، بل لأنني لم أفهم لماذا يجب أن أذهب إلى محل الأزياء.
إلى محل الأزياء؟ أليس من المعتاد استدعاء أحدهم وأخذ المقاسات ثم يُفصّل الثوب ويُسلَّم لاحقًا؟
لقد رأيت من قبل أنهم يشترون القماش من متجر الأقمشة ويخيطون الثياب في المنزل، لكن أن يُشترى الثوب جاهزًا من محل؟ لم أستطع تصوّر هذا جيدًا.
“لا، ليس الأمر كذلك.”
لكن الآنسة مارتينا بدت وكأن هذا الأمر بديهي تمامًا بالنسبة لها.
هممم، يبدو أن هذا هو المعتاد هنا في القصر الإمبراطوري، كانوا يستدعون الخياطين كما في حياتي السابقة، لكن من الطبيعي أن تختلف العادات بين القصر الإمبراطوري وبيوت النبلاء والعامة وإن كنت أنوي الدخول إلى المجتمع مستقبلاً، فلن يكون من السيئ أن أتعرف على أساليب النبلاء.
“أشعر فجأة بالقلق بشأن أي عربة ينبغي أن أستقلها للخروج.”
“ولم القلق؟ سنُعيد عربة القصر، ونستقل عربتي أنا سأوصلكِ بنفسي إلى القصر.”
“إذن، ماذا عن فارس الحراسة الذي أوصلني إلى هنا؟”
“سيعود مع العربة، وسنتكفّل نحن بالحراسة من الآن فصاعدًا.”
“همم، في هذه الحالة فلا بأس.”
ربما لأنها كانت تفكر في فكرة التسوق، بدا صوت الآنسة مارتينا مفعمًا بالحماس.
“وبما أننا سنخرج، فلنمرّ على مقهى أيضًا سأدفع أنا.”
أن ينتهي بي الحال لقبول شيء من طفلة لم تبلغ العاشرة بعد… كان أمرًا يثير فيّ شعورًا غريبًا، لكنني في النهاية لم أكن سوى طفلة في السادسة من عمرها بل إن مارتينا قد تشعر بالحرج إن أنا حاولت الدفع.
“يا للامتنان سأقبله بسعادة.”
لذا، كتمت شعوري بالرفض وابتسمت ابتسامة مشرقة.
أثناء انتقالي إلى وسط المدينة على متن عربة دوقية، بدأت أفهم كيف تُشترى الملابس في هذا المكان.
قالوا إن الخياطين يفتحون متاجر ويبيعون الملابس فيها من الملابس الجاهزة، إلى تلك المصنوعة يدويًّا بناءً على تصميم جاهز مع تعديلات بسيطة، وصولًا إلى الأزياء المصنوعة حسب الطلب من البداية إلى النهاية، وكلها تُباع في مكان واحد.
“الخياطون الذين يفتتحون متاجرهم حديثًا يأتون أحيانًا إلى القصور، لكن حين يصبحون مشهورين، يعلو أنفهم ولا يأتون بسهولة متجر ‘هيبتايد’ للأزياء هو متجر عريق، لذا حتى نحن، عائلة الدوق، لا يمكننا أن نطلب منهم المجئ إلينا متى شئنا.”
قالوا إن ما سأطلبه هو قطعة مصنوعة يدويًّا مبنية على تصميم جاهز من الكتالوج مع إضافة بعض المتطلبات الخاصة بي. ويبدو أن أطفال العائلات الثرية يفعلون ذلك عادة.
أما الأزياء المصممة بالكامل حسب الطلب فهي أكثر تكلفة وخصوصية، لكنها ملفتة للنظر بشكل مفرط، لذا لا يُفضّل هذا الخيار عادةً.
رغم أن التفاصيل تختلف، إلا أن النزعة إلى الرغبة في التميز عن الآخرين، لكن ليس لدرجة الاختلاف التام، لا تزال موجودة كما كانت.
“كنا ننتظركما، آنسة فانيا، آنسة بلانش تفضلوا من هذا الاتجاه.”
وحين وصلنا إلى محل الأزياء، استقبلنا موظف أنيق المظهر وأرشدنا إلى الداخل وما إن التفت من كانوا مجتمعين داخل المحل إلينا، حتى همست الآنسة مارتينا في أذني:
“عادةً ما يختار الزبائن الملابس في الخارج ويطلبون التعديل عليها، لكن بما أن عائلتنا مرموقة، فهم يقدمون لنا غرفة خاصة وبما أن وجهك غير معروف بعد، فقد استخدمت نفوذي قليلًا من أجلك.”
لم أكن أدرك مدى عظمة هذه العائلة تمامًا، لكن رؤية الآنسة وهي تفتخر بذلك كانت لطيفة، فأظهرتُ مبالغة متعمدة في الانبهار.
“كما هو متوقع من الآنسة مارتينا كنت قلقة بشأن كيفية التحضير، ويبدو أن طلبي منك كان قرارًا صائبًا.”
أشرق وجه الآنسة مارتينا فرحًا من إجابتي، حتى خِلت أنها تسعد بسهولة مفرطة، ربما لصغر سنها، مما جعلني أقلق لأجلها.
هل يجب أن أعلّمها أن المعروف لا يُقدَّم مجانًا؟ وبينما أنا منشغلة بالقلق على طفلة ، عاد الموظف الذي قادنا إلى الغرفة الخاصة حاملاً بعض المأكولات الخفيفة.
“هل لديكم تصميم معين تودون مشاهدته؟”
“أرغب في رؤية هذا النوع.”
وبدون تردد، وكأنها معتادة على هذه الأمور، عرضت الآنسة مارتينا التصميم الذي اخترته مسبقًا فابتسم الموظف بلطف وهز رأسه موافقًا.
“كما هو متوقع من الآنسة فانيا ذوقكِ رفيع جدًّا هذا أحد أكثر التصاميم رواجًا هذا الموسم.”
لا أعلم إن كان كلامه مجاملة، لكن معرفة أن كثيرين يرتدونه كانت مطمئنة لن يكون ملفتًا للنظر بشكل مزعج إذًا.
“هل يمكن تفصيله ليناسب مقاس هذه الطفلة؟”
“بالطبع سنضبط التفاصيل حسب شكل الجسد، لذا لا داعي للقلق من أن يبدو رديئًا.”
“حسنًا، أرني العيِّنات.”
وبعدما انحنى الموظف بأدب وغادر، همست لي الآنسة مارتينا:
“لا تقلقي لكونه تصميمًا شائعًا، فحفلة ميلاد جلالة الإمبراطورة لا يحضرها الأطفال، لذا ستكونين الوحيدة التي ترتدي هذا الثوب هناك.”
… يبدو أن الآنسة مارتينا كانت تحاول طمأنتي، لكن بالنسبة لي، التي كانت سعيدة بإمكانية الاندماج وسط الآخرين، فقد كانت تلك أنباء سيئة.
“حفلة الميلاد لا يحضرها الأطفال؟ لكن، سمعت أن في الحفلات التي يحضرها صاحب السمو دوق العرش، يُسمح للأطفال بالحضور أيضًا.”
“نعم. لكن كثيرًا من الأطفال يبكون عند رؤية جلالة الإمبراطورة، لذا لا تتم دعوتهم إلى حفلة الميلاد.”
آه، صحيح هكذا كان الأمر قالوا إن الأطفال والحيوانات يبكون عند رؤية الإمبراطورة ولأنني لا أتحمّل الضغط بل أتجاهله، فقد كنت أنسى ذلك مرارًا لو كان في وجهها ندبة أو اثنتان، لكان من الصعب عليّ نسيان هذا الأمر.
“إذًا، ألا تحضرين أيضًا، آنسة مارتينا…؟”
تعمدتُ ألا أخفي قلقي حين سألت، ويبدو أن خطتي نجحت، إذ ذابت ملامح الآنسة مارتينا في لحظة واحتضنتني بشدة.
“آه يا إلهي، ما العمل؟ لكن حقًّا لا يمكنني الحضور لا يُمنح التصريح بذلك أصلًا، لأنهم لا يريدون إفساد يومٍ مبهجٍ مثل هذا.”
“إذا لم يُمنح التصريح، فلا حيلة لنا إذًا… آسفة لأنني سببت لكِ الحرج.”
سأقضي يومًا كاملًا مع دوق العرش وحدي مجرد التفكير في ذلك جعل أنفاسي تضيق، لكن لم يكن بإمكاني الاعتراض.
“سأزورك في القصر في اليوم التالي إذًا، ونقضي اليوم كله سويًا، ما رأيكِ؟”
ربما شعرت بالشفقة عليّ لأنني تراجعت بسهولة، فاقترحت الآنسة مارتينا عرضًا جديدًا هل بالغت في التظاهر بالاستسلام؟
كنت على وشك أن أقول لها ألا تقلق، وأن الأمر لا يستدعي كل هذا، لكن عندها فُتح الباب مجددًا.
“أعتذر على إبقائكما في الانتظار لقد عدّلت بعض التفاصيل في التصاميم كنماذج أولية، لكن بما أننا سنضبط المقاسات لاحقًا، فيرجى فقط الانتباه إلى الشكل واللون.”
كما قال الموظف، فقد كانت هناك ملابس ملونة مُعلقة على علاقة الثياب التي أحضرها معه وبما أننا سنذهب إلى المقهى لاحقًا، فلا بأس إن حاولت تهدئتها هناك اتخذت قراري بسرعة وتحدثت:
“أريد اللون البنفسجي فقط تخلَّ عن بقية الألوان كلها، وأحضر فقط الفساتين التي تندرج تحت درجات البنفسجي، حتى إن كانت بتصاميم مختلفة.”
ربما لأنني كنت صامتة طوال الوقت ثم تحدثت فجأة، بدا الموظف مندهشًا لكن ذلك لم يدم سوى لحظة، إذ سرعان ما تمالك نفسه وانحنى بأدب.
“نعم، حاضر الرجاء الانتظار قليلًا فقط.”
وبعد أن خرج الموظف مرة أخرى، نظرت إليّ الآنسة مارتينا التي لا تزال تحتضنني بدهشة.
“إذًا لم يكن التصميم هو ما أعجبكِ، بل اللون؟”
“نعم، شيء من هذا القبيل.”
لم أخبرها بأن التصاميم بدت كلها متشابهة في عيني.
عادةً عندما تقول شيئًا كهذا لمحبي الأزياء، يبدأون بسرد الفروق الدقيقة بين التصاميم، حتى إن شرحوها، لا أفهمها، ثم يحاولون التأكد إن كنت قد استوعبت، مما يسبب لي صداعًا لذا، كان من الأفضل أن أبقى صامتة منذ البداية.
“لم أكن أعلم أنك تحبين اللون البنفسجي! لم ترتديه من قبل، أليس كذلك؟”
ذلك لأن اللون البنفسجي كان في داخلي مرتبطًا بالإمبراطور لكن عندما رأيت الفساتين البنفسجية، أدركت فجأة أنه لم يعد هناك ما يمنعني من ارتدائه الآن لذا ببساطة، رغبتُ في ارتداء البنفسجي في هذا اليوم المهم بالنسبة لي.
لعلني حينها أستطيع أن أتصرف بثقة، كما كان يفعل جلالته.
“لم يكن لدي فستان بنفسجي.”
لكن لا يمكنني قول كل ذلك لآنسة مارتينا، التي لا تعرف أنني عشت حياة سابقة، لذا اكتفيت بجواب مبهم وبما أنني لم أملك حقًّا أي فستان أو إكسسوار بنفسجي، فقد بدا جوابًا مقنعًا في نظرها.
“آه، هكذا إذًا لنشترِ بعض الإكسسوارات أيضًا إن اشترينا شريطًا أو منديلًا بنفسجيًّا، يمكنك استخدامه كزينة حتى عند ارتداء فستان بلون آخر.”
رغم أنني لا أحب اللون البنفسجي حقًّا، إلا أن امتلاك بعض الإكسسوارات منه لا يضر خاصة المنديل، فقد يكون جيدًا كهديّة لاحقًا.
“نعم، موافقة.”
وما إن أومأت برأسي بموافقة صادقة حتى عاد الموظف، هذه المرة بعلاقة ثياب مليئة بألوان البنفسجي فقط.
“سأعرض لكِ أولًا التصميم الذي ذكرتِه سابقًا.”
كنت قد تخلّيت تمامًا عن محاولة تمييز التصاميم واختيار ما يناسبني منها، لذا بدلًا من بذل جهد فعلي، ركّزت كل طاقتي على صنع تعبير وجه يُظهر أنني متحمسة وواثقة.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
التعليقات لهذا الفصل " 32"