“لذا، قالت آنسة دوقية مارتينا إنها ستساعدني في اختيار الملابس.”
كان المشهد أشبه بلوحة فنية في حديقة مملوءة بأزهار الليسيانشوس، جلست فتاة ذات شعر فضي يشبه ضوء القمر وعينين سوداويين كليل حالك، تقابل فتى بشعر أحمر كالنار وعينين زرقاوين كالبحر.
“لمَ لا؟ آنسة مارتينا ترتدي دومًا ملابس جميلة، أليس كذلك؟ لهذا طلبت منها المساعدة شعرت أن من الأفضل أن أبدو أنيقة في ذلك اليوم.”
كان الفتى يصغي بهدوء إلى كلام الفتاة الصغيرة وهي تتحدث بينما كانت تتصفح كتالوجًا، ثم قال فجأة:
“سيحزن الأمر الإمبراطورة.”
الفتاة كانت بلانش روا فاندالوي، مبعوثة السلام من مملكة لاموري، وقد بلغت الآن السادسة من عمرها، أما الفتى فكان ميلكيشيزيك جورج بندلتون، ولي عهد إمبراطورية ريتايل، وقد بلغ الثامنة وبالطبع، المقصود بـ”الإمبراطورة” التي تحدث عنها ميلكيشيزيك، هي زوجة أخيه، الإمبراطورة ليانا.
كان ميلكيشيزيك وصديقته بلانش يتحدثان عن حفل عيد ميلاد ليانا، الذي لم يتبقَ له سوى ثلاثة أشهر.
“لا يمكنني أن أطلب من صاحبة المناسبة أن تختار ملابسي، أليس كذلك؟”
بعد تلك الحفلة الشاي الفاشلة، لم يتقدم للاعتذار رسميًا إلى بلانش سوى فتاة واحدة: فانيا ساين مارتينا وهكذا، أصبحت فانيا الشخص الوحيد خارج سكان القصر الإمبراطوري الذي تخالطه بلانش.
وإن كان من الطبيعي أن تقتصر لقاءات بلانش على أشخاص معدودين، نظرًا لمكانتها المحدودة، فقد كانت فانيا على العكس، تملك الكثير من الأصدقاء، ولا يُعرف تحديدًا ما الذي أعجبها في بلانش، لكنها كانت تزورها في جناحها كثيرًا أو تدعوها إلى منزلها بشكل متكرر.
ومع تراكم هذه اللقاءات، تطورت العلاقة بينهما لدرجة جعلت بلانش تطلب من فانيا مساعدتها في اختيار ثوب تحضره لحفل ميلاد ليانا.
“الاستعدادات تتكفل بها جلالة الملكة الأم، والإمبراطورة – حسبما سمعت – تكاد تموت من الفراغ هذه الأيام.”
صحيح أن ليانا ستنشغل باختيار الثياب وما إلى ذلك عندما يقترب الموعد أكثر، لكنها تملك الآن متسعًا من الوقت، فليس من الممكن أن تمضي ثلاثة أشهر كاملة كل عام في التحضير لحفل عيد الميلاد.
وبما أن هذه أول مرة تحضر فيها بلانش الحفل، فمن الطبيعي أن تشعر بالتوتر، أما ميلكيشيزيك، فلم يختر حتى الآن ملابسه أو حتى يتفق على نمط اللباس، مما يُبيّن مدى استرخائه.
وبحسب العرف، كان من المفترض أن تتبع بلانش النمط الذي سيحدده هو، كونها الطرف الأقل رتبة، لكن بما أن الوضع انقلب، ربما يكون من الأفضل أن يختار هو ما يتوافق مع زيها.
وبينما كان يفكر في ذلك، ابتسمت بلانش بخجل.
“أردت أن أفاجئها في ذلك اليوم.”
آه، صحيح… هدية الحفل أيضًا كانت سرًا عن الإمبراطورة ضحك ميلكيشيزيك ضحكة خافتة.
“إذًا، متى ستقابلينها؟”
“سأذهب اليوم إلى منزل الدوق.”
إذًا، كان ما يقصده أن يذهب عندما ينهض ميلكيشيزيك كانت عبارة قد تكون مزعجة لو كانا صديقين حقيقيين، لكن ما يربطهما لم يكن صداقة، بل عقد، لذا لم يغضب ميلكيشيزيك .
“آه، حقًا؟ إذًا، هل أوصلكِ حتى منزل الدوق؟”
كانت بلانش لا تزال في طور تثبيت مكانتها داخل القصر الإمبراطوري، ولم يُخصص لها بعد عربة أو سائق.
ولهذا، كانت تضطر إلى تقديم طلب لاستعارة عربة من القصر كلما أرادت الخروج ففكّر ميلكيشيزيك أنه بما أنه سيُستخدم في كل الأحوال عربة تابعة للقصر، فلو استخدم عربته الخاصة وأوصلها بنفسه، لكان ذلك فرصة جيدة ليُظهر علاقته بها أمام الآخرين.
لكن، وعلى عكس ما ظنه أمرًا لا يحمل إلا مزايا، أومأت بلانش برأسها رافضة.
“لا، لأن آنسه مارنيتا ستسخر مني، لذلك لا أريد.”
“تسخر منكِ؟”
ترددت بلانش قليلًا، وكأنها تجد صعوبة في الإجابة، ثم تمتمت بصوت خافت:
“تقول أشياء من قبيل أن صاحب السمو الكبير يُعاملني بلطف… وتكرّر ذلك كثيرًا.”
“آه، هكذا إذًا.”
ابتسم ميلكيشيزيك ابتسامة خفيفة كانت آنسه مارنيتا، فانيا، تكبره بعام واحد فقط، أي أنها في التاسعة من عمرها وهي في سنّ يكون فيه الاهتمام بمثل هذه الأمور شائعًا.
وفوق ذلك، كان هناك بالفعل تحرك داخل العائلة الإمبراطورية لربطه هو وبلانش ببعضهما البعض من قبل أخيه وزوجته ربما لأن الإمبراطور الحالي وزوجته قد خُطبا عندما كانا في الخامسة من عمرهما وتزوجا بسعادة، فإنهم يريدون أيضًا أن يُزوّجوا وريث العرش الرسمي سريعًا.
وبالطبع، في الظروف العادية، يجب أن تكون زوجة الإمبراطور فتاة من عائلة ذات شأن، قادرة على أن تكون سندًا لقوته لكن ميلكيشيزيك كان لديه بالفعل طرفان من عائلتي المصاهرة عائلة “هالايم” من جهة الإمبراطورة الأم، وعائلة “كايبراهان” من جهة الإمبراطورة.
وبالنظر إلى تلك العوامل، كانت بلانش خيارًا مناسبًا جدًارفهي أولًا من العائلة الملكية، وبلدها مملكة صغيرة ضعيفة، لذا من غير المرجّح أن تدخل في صراعات على السلطة مع عائلتي الإمبراطورة أو الإمبراطورة الأم.
كلا الإمبراطورتين تُعجبان ببلانش، وهي ذكية، لذا كانت قادرة على التواصل الجيد مع ميلكيشيزيك.
مظهرها أيضًا ممتاز، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن تدفق المعلومات من قصر جاسبر قد انخفض تدريجيًا خلال السنوات الثلاث الماضية، فهذا يدل على أنها تعرف كيف تُدير الناس ومن ملاحظاته العابرة، كانت مربيتها أيضًا كفؤة، لذا ستقوم بمهام المرافقة بشكل جيد.
ميلكيشيزيك، الذي كان يرى الإنسان من حيث كفاءته لا من حيث نسبه، كان يعتبرها موهبة يعجبه أمرها من عدة نواحٍ.
“هاهاها، حقًا؟ إذًا سأُراعي ذلك اذهبي الآن، الآنسه بالتأكيد تنتظركِ منذ الفجر.”
“شكرًا على مراعاتك.”
ثم نزلت بلانشي بحيوية من مكانها دون مساعدة، وانحنت له بأدب.
***
عندما دخلتُ الغرفة، كانت الآنسة مارتينا، ابنة دوق، تنظر كاتالوجًا كلما تحرّكت نظراتها، كانت تحرّك رأسها تبعًا لها، فتتمايل خصلات شعرها الليموني المربوطة من الجانبين.
“صاحبة السمو الأميرة بلانش قد وصلت، آنسة فانيا.”
ما إن أعلنت الخادمة قدومي، حتى رفعت الآنسة مارتينا رأسها فجأة وكأنها انتفضت.
“لقد أتيتِ!”
ما ارتسم في عينيها ذات اللون الليموني كان مشاعر الفرح حاولتُ أن أرسم على وجهي تعبيرًا مشرقًا يناسب ذلك، وأومأتُ برأسي.
“لقد… اشتقتُ لرؤيتكِ، فجئتُ بأسرع ما يمكن.”
كانت عبارة محرجة قليلًا، لكن بما أنني قضيت السنوات الثلاث الماضية أُنمّي مهارتي في التملّق، خرجت الكلمات بسلاسة مقبولة.
“أوه، بلانش تحبني كثيرًا فعلًا.”
ابتسمت لي الآنسة بابتسامة لم تخفِ بها شعورها بالفخر ولما رأيتُ سعادتها كطفلة، شعرت بالارتياح وابتسمتُ بلطف وجلست في المقعد المقابل لها.
“ما الذي كنتِ تنظريِن إليِه؟”
“كاتالوج الموسم الجديد من وجهة نظري، أظن أن اللون السماوي يليق بكِ ما رأيك؟ خذي، انظري بنفسكِ.”
ما عرضته عليّ كان رسومات للأزياء، يبدو أن الخياطين قد رسموا تصورات لما يمكن أن يصنعوه من ملابس.
لكن، مهما أطلعتني عليه، لم يكن لديّ ما أقوله لأن كل ما كنتُ أهتم به عند النظر للملابس هو إن كانت توافق الآداب والتقاليد أم لا.
يبدو أن الناس هنا غالبًا ما يتبعون الموضة ويرتدون الملابس ذاتها بشكل جماعي، بينما في حياتي السابقة، كان كل شيء، من الألوان إلى التطريز، محددًا بصرامة وفقًا للمكانة الاجتماعية، ولهذا اعتدت على ذلك.
التنين يخص الإمبراطور، والعنقاء تخص الإمبراطورة أما أنا، فكنت أرتدي غالبًا الحرير الأسود المطرّز بخيوط فضية بصورة السلحفاة السوداء لدرجة أن جلالته منح لابنتي اسمًا يتضمن “هَيُن” (السلاح أو السواد).
“لستُ بارعة في هذه الأمور، لذا سأعتمد على ذوقكِ يا آنسة.”
“لا يجوز هذا! هذا يوم ظهوركِ الأول في المجتمع الإمبراطوري، لذا رأيكِ مهم أيضًا هيا، تعالي إلى هنا لقد جمعتُ كل كاتالوجات بيوت الأزياء المشهورة هذه الأيام، فلنختر معًا ما يناسب ذوقك.”
…هل كان عليّ أن أكتفي بكلمات منمقة تقول إنني أثق بذوقها؟ شعرت بالرهبة ما إن رأيت سماكة الكاتالوج الضخم.
أنا فعلًا… حتى في حياتي السابقة، لم أكن أفهم شيئًا في الملابس كنت أرتاح أكثر للتقاليد الصارمة التي كان الكل يتذمر منها.
“انظري هنا موضة هذا الموسم هي أقمشة الموصلين، لكننا أطفال، لذا يكفي أن نحاكي الإحساس العام، أليس كذلك؟ لهذا السبب، حتى شخص متحفّظ مثلك سيجد أسلوبًا يعجبه.”
حتى بمجرد السماع، شعرت أنني لن أجد أي زي يعجبني لكنني لم أستطع مقاومة يد الآنسة التي جذبتني من ذراعي.
ثم أمضيتُ ساعتين كاملتين أستعرض مئات التصاميم التي بدت كلها متشابهة في البداية كنتُ قادرة على التفريق بينها، لكن مع مرور الوقت، بدأت تبدو متطابقة لا يفرقها إلا اللون.
وبين تلك الملابس التي لم أكن أعرف ما المختلف فيها، اخترتُ أكثرها وضوحًا في اللون.
“…هذا يبدو الأفضل.”
كان بنفسجي اللون لون جلالة الإمبراطور.
“هذا؟ أوه، لم أتوقّع أن تختاري شيئًا بهذه النعومة! بما أنكِ دائمًا ترتدين ملابس تغطي الرقبة بالكامل، ظننتُ أنكِ ستختارين أسلوبًا كلاسيكيًا مجددًا.”
وكما قالت الآنسة مارتينا، عندما أعدتُ النظر في الفستان الذي اخترته بناءً على اللون فقط، وجدته يكشف الرقبة، وأكمامه قصيرة حتى تنورته قصيرة بالكاد تصل إلى الركبتين.
هل أنا من اختارت هذا الزي حقًا؟ شعرت بالصدمة وهممت بتغيير رأيي، لكن الآنسة مارتينا سبقتني.
“لكنّه أنيق ومنعش تمامًا في الواقع، كنت أظن أن ملابسك خانقة جدًا بالنسبة للصيف.”
منعش ومناسب؟ مع أن هذا اللباس يكشف الكثير من الجلد؟ في حياتي السابقة، لم أكن لأرتديه حتى كقطعة داخلية!
شعرت بالذهول، لكن بعد أن ألقيت نظرة على ملابس الآنسة مارتينا، بدأت أتفهم الأمر فالآنسة نفسها كانت ترتدي زيًا يكشف الكوعين ومؤخرة العنق والركبتين، لكنها لم تبدُ مبتذلة، بل لطيفة فحسب.
آه، هكذا إذًا طالما أن الزي لطفلة، فلا بأس إن أظهر بعض الأطراف.
عندما فكرتُ بهذا الشكل، أصبح التصميم مقبولًا خصوصًا أنني عندما ألقيت نظرة سريعة مجددًا على الكاتالوج، بدت كل التصاميم متشابهة بعض التنانير أطول قليلًا، أو الأكمام مزينة لتغطي الكوعين، أو الزينة موضوعة عند العنق… وهكذا.
هل يجب أن أعيد نفسي لدائرة الاختيار من جديد؟ أم أستسلم لحقيقة أن الأطفال هذه الأيام يرتدون مثل هذه الملابس؟ وبينما كنت ما أزال غارقة في التردد، وقبل أن أصل إلى قرار، نهضت الآنسة مارتينا من مقعدها.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
التعليقات لهذا الفصل " 31"