علي أن أَلْفِت انتباهَ صاحب السلطة العليا، أيّ الإمبراطورِ في هذه الحالة ليسَ ضرورِيًّا أن أَنل قُربَه أو رضاه؛ يكفي أن يَلمَحَني الإمبراطورُ ويشعر بالفضول تجاهي.
فبمجرد أن يتحقق ذلك، أتمكن من جعل الآخرين، الذين هم مثلي رهائن سياسيون، يخشونني
وجذب نظر صاحبِ السلطة أمرٌ سهلٌ جدًّا بالنسبةِ إليَّ.
انحنيتُ ببطءٍ متجاوِبةً مع مُقَدِّمَةِ كبيرِ الخَصيان كان علي أن أكُون حَذِرَة حتى في التحية إذ إنَّ جسم الطّفل يَختلفُ في تَوازُنه عن جسمِ الراشِد ، وقد يُؤدي مَيْلٌ بسيطٌ إلى السُّقوطِ.
وبدا أنَّ تحيّتي المَهذَّبةَ، التي لا تُناسِب جسدي الصغيرَ، أَثارت بعضَ الاهتِمامِ؛ فشعرتُ بنَظَر الإمبراطورِ يَتوَقف عَلَيَّ، كما توقَّعتُ تمامًا.
“ما هذا؟ إنّها مجرّد قطعةِ لحم صغيرة!”
لكنِّي لم أَتَوَقَّعْ هذا التّعليقَ كَدتُ أَرفَع رأسي من الدّهشةِ إزراء تلكَ العبارةِ غيرِ اللّائقة التي لم أُخَيِّل يوْمًا أن تُقال في القاعة الإمبراطوريّةِ.
“جلالتُك، نحنُ في القاعة الكبرى.”
ولولا أنّ أحَدًا سبقَني إلى التّعبيرِ عَمًا فكَّرت به تمامًا، لَرفعتُ رأسي.
وبالنّظرِ إلى أنَّ الصوتَ جاءَ من الجهة المقابِلة ، لابُدَّ أنَّها الإمبراطورةُ حسنًا، طالما أنَّ أحدًا منْهُمَا لا يزالُ في مَجالِ العقلِ، فالأمرُ لا يَدعو للقلق ظَلَلتُ أَفكِّر بهذا وأنا ما أَزِلتُ مُنحَنِيَة
لو كان هذا في بلادي، لقلت للإمبراطورِ: ” يا جلالة الملك ، الكلمة مِرآة القلب ؛ فاصْنَع لِسَانَك استِقَامَة…” وإلى هكذا خُطَب طويلةٍ، ولَكُنْت قد كَتَبتُ خمسَ مذكرات استِنكاريّةعلى الأقلّ.
لكنّها ليست بلادي؛ وما دامت السّيَاسَة الخارجيّةُ تَسير على ما يُرام فلا بَأْسَ إن كانَ بعضُهم عاقلًا أو مَجْنونًا.
“آه، فَهِمْت ، يا إمبراطورةُ سأنتبه في المَرّة القادمةِ.”
وبما أنَّ الإمبراطورَ يبدو مُستَعِدًّا للاستماع إلى الإمبراطورةِ، فلم يَعدْ هناك ما يَستَدعِي القَلَق وأثناءَ غَوصِي في هذه الأفكارِ، صَدَرَ أمرُ الانصرافِ.
“الأميرةُ بلانش أَعَدَدْنَا مِن أجلك قَصْر الزّمرُّد فبإمكانِك الآن الانصرافُ.”
هنا جاءَ وقتُ الكلامِ. فَتَحْتُ فَمي، وبذلت جُهدًا في نطقي كلِّ كلمةٍ وقالتْ شفَتايْ كلمةً واحِدةً مُحَفورَةً
“أُعربُ عن امتناني لعنايتِكم الكريمة.”
تَعَمَّدْتُ أن لا يبد نُطقي طِفوليًّا، واخترت كلمة لا يستخدمها الأطفال عَادَة
في الظروف العادية لمَا كانَ هذا ليلفت الانتباهَ مطلقًا لكنّ كل الحاضِرينَ في القاعة الإمبراطوريّة كانوا يُنظِرونَ إليّ، وأنا في الثالثةِ من عمري.
وبسبب ذلكَ، لا شك أنّهم سيلقون عليّ نظرة أُخرى، وربّما يتبادلون همسًا قَصيرًا فيما بينهم ` الأميرةُ بلانش من مملكة لاموريه ذَكِيَّةٌ فعلًا.`
ما لم يَحدُثْ طارئ كَبيرٌ، فسيَقفُ الأمرُ عند هذا الحَدِّ فلَن يَكُنْ مِنْ بينِ الوفودِ الصّديقةِ المتدفِّقَةِ مَن يُولِي اهتمامًا أكبرَ بي.
لكنّ هذا بالضّبطِ كُلُّ ما أحتاجُهُ فهذهِ ردة فعل فَقط تُكفِي لإيصالِ انْطباعٍ إلى أولئكَ الرّهائنِ الذين سَيَشارِكونَني قَصْرَ الزمرد بأنَّ كبارَ وزراءِ الإمبراطوريّةِ يَعقِدونَ آمالًا على مستقبلي.
وبناءً على ذلكَ، سيفضِّلونَ مُعامَلَتي بلُطفٍ على إيذائِني، مراعاةً لِعينِ الإمبراطوريّةِ الّتي تُراقِبُ.
وهذا كلُّ ما أحتاجُهُ.
شعرت بأنّ نظراتهم تختلف نحْوًا ما حولي، وانصَرَفتُ من القاعةِ الإمبراطورية راضِيَة تمامًا لَخُطوتي الأولى في يوم وصولي إلى إمبراطوريّة روتايل كانتْ ناجِحةً بما فيهِ الكِفايةِ.
***
لي بايك ريون ، أو بلانش لم تكن من أولئك الذين يُقَلِّلونَ من شأنِ أنفُسِهم.
بلانش كانت تعرفُ تمامًا مدى موهبتِها.
غير أنّها كانت تُبالِغُ في تقييمِ طفلٍ في الثالثة من عمره.
فالطفلُ العاديُّ في الثالثة من عمره لا يمكنه أبدًا، بعد رحلةٍ طويلةٍ امتدّت لشهرٍ كاملٍ دون راحةٍ حتى الوصول إلى العاصمة، أن يبقى هادئًا دون أن يتذمّر أو يبكي.
ولا يعرفُ معنى كلمة “감읍 كامْأُبْ” أي الامتنان العميق، وحتى لو عرفها، فلن يستطيع استخدامها في موضعها الصحيح بتلك الدقّة.
كما لا يستطيعُ أن يُبقي ظهره مُستقيمًا وكتفَيْه مرفوعَيْن بتلك الهيئة الوقورة.
وبسبب قيام بلانش بكلّ ما لا يستطيع طفلٌ في الثالثة فعله، تركت انطباعًا أعمق ممّا كانت تنوي.
“مثيرٌة للاهتمام، هذي الطفلة”
تلك كانت ملاحظة الإمبراطور الذي كان ينتظر رحيل بلانش.
وعند سماع نبرته، اتّسعت عينا الإمبراطورة المجاورة له على شكلٍ مثلّث غاضب.
“جلالتك هناك أمورٌ لا ينبغي للمرء أن يقولها أمام الناس بهذه الطريقة.”
“آه، نعم، صحيح.”
ابتسم الإمبراطور البالغ من العمر اثنتين وعشرين سنةً ابتسامةً مُشرقةً وهو يجيبها.
“إذن، كيف تقيمين أنتِ الأميرة بلانش يا صاحبةَ الجلالة؟”
طفلةٌ استطاعت أن تُخفي إرهاقَها بعد رحلةٍ دامت شهرًا، وتُتقن استخدام كلماتٍ مثل الاعتناء والامتنان بطلاقة، دون أن تكون ثرثارة.
“بدَت لطيفةً وهادئة. …لكن، إرسالُ طفلةٍ في الثالثة؟ لقد بالغت مملكة لاموريه في هذا حقًّا.”
“كما توقّعت، هذا بالضبط ما كنتِ ستقولينه.”
“هاه؟ ماذا تعني بذلك—”
“حسنًا، أدخِلوا المجموعة التالية.”
وبينما تابع الإمبراطور حديثَه، تذكّر طفلاً آخر.
كان ذلك الطفلُ هو شقيقه الأصغر، الدوق ميلتشزيدك جورج بِنْدِلتُن، وريث العرش الحالي، الذي يفصله عنه سبعة عشر عامًا.
طفلٌ نال لقب الدوق في الخامسة من عمره، ومن المقرّر أن يعتلي العرش يومًا ما.
طفلٌ ناضجٌ بالنسبة لسنّه، لا يُظهِرُ حالته أو نقاط ضعفه، ويعرفُ متى يُخفي قدراته ومتى يُظهرها، تمامًا مثل بلانش التي رآها قبل قليل.
“يستحقّ الأمر أن أتحقّق منه.”
العقابُ لا يصنعُ من العصفور صديقًا للصقر فلكلّ إنسانٍ ندٌّ يليق به.
ولم يلتقِ الإمبراطور حتى الآن من يليق بأن يكون رفيقًا لشقيقه.
فإن كانت بلانش هي تلك الرفيقة المناسبة، فلن تُشكِّل مكانتُها كأميرةٍ من مملكةٍ صغيرة أيَّ عائق.
فما يهمّ حقًّا هو سعادةُ شقيقه.
لذلك قرّر الإمبراطور أن يلتقي بلانش مرّةً أخرى.
وهكذا تحقّق تأثيرٌ يفوقُ ما كانت بلانش تُخطِّط له.
⸻
كان جسدُ الطفلةِ ذاتِ الثلاث سنوات هشًّا للغاية، فما إن وصلتُ إلى الغرفة المخصّصة لي في قصر الزمرد حتى سقطتُ على الأرض مغشيًّا عليّ.
آخر ما أتذكّره كان صرخةَ تولا وهي تندفع نحوي، ثمّ انطفأت الرؤية.
وبين الفينة والأخرى كنتُ أستعيد وعيي قليلًا، فكانت تولا تُطعمني الحساء أو الماء، ثم أغفو من جديد.
“…استيقظتِ؟”
“…كيف تجرؤين على…”
استعدتُ وعيي تمامًا حين سمعتُ صوتًا قادمًا من الخارج.
لم يكن السبب ضجيجَ الصوت، إذ لم أستطع تمييزَ أكثر من نصف كلماته، بل كان السبب نبرةَ الغضب التي امتزجت به.
لقد سمعتُ هذا الصوت من قبل… آخر مرةٍ كان ذلك حين وقفتُ أمام الإمبراطور.
أي إنّ صاحبَ الصوت الآن هو نفسُه، غاضبٌ كما في ذلك اليوم.
فاستيقظَ في داخلي أثرُ الصدمة القديمة، ونزلتُ من السرير متدحرجةً.
كان السريرُ مرتفعًا على قامةِ طفلةٍ في الثالثة، فكأنّي سقطتُ سقوطًا، لكنّ الألم لم يَعُدْ شيئًا يُذكر أمام الموقف.
“لسانك طليق جدًا… هل تريدين أن أجعله أكثر حريةً؟”
ولحُسن الحظ، حين فتحتُ الباب، كانت رقبةُ تولا لا تزال في مكانها.
أسرعتُ أزحفُ وأركعُ أمام الإمبراطور، حتى شعرتُ بحرارةٍ في جلدي حيث احتكّ بالأرض.
“اهيي قلالة الجلية (أُحيِّي الجلالَةَ العليَّة).”
منذ أن أصبحتُ في هذا الجسد، كنتُ أكره أن يُلاحظ الناس لثغتي، لذلك نادرًا ما كنتُ أتكلّم أمامهم، وإن اضطررتُ للكلام، كنتُ أختار كلماتٍ لا يصعب نطقها.
لكن في هذه اللحظة لم يكن هناك مجالٌ للحساب أو التأنّي.
“آه، ومن تكون هذهِ ؟ أخيرًا أُكرِمتنا برؤيه وجهها الثمين.”
من تلك الجملة وحدها أدركتُ ما حدث قبل أن أنهض.
الإمبراطور جاء فجأةً لزيارتي، و تولا ارتبكت وأخبرته أنني مريضةٌ طريحةُ الفراش، لكنّه لم يُبالِ.
“أمه قله حطئي (إنّه كلّه خطئي).”
وكانت تلك حقيقةً.
تولا لا ذنبَ لها.
صحيحٌ أن مملكة لاموريه والإمبراطورية ريتايْل كلاهما مَلَكيّتان، لكنّ شدّةَ النظام الطبقي تختلف من بلدٍ إلى آخر.
ربما في لاموريه النظامُ الطبقيُّ متراخٍ، أمّا في ريتايل ، فصارمٌ لا هوادة فيه.
لذا، حين أمرَ الإمبراطورُ بإحضار طفلةٍ مريضةٍ في الثالثة من عمرها، فزعت تولا، لكنّ الإمبراطور غضب من جرأة مربيةٍ وضيعةٍ تجرؤ على الاعتراض عليه.
ومع ذلك، فحتى من موقعٍ محايد، أرى أنّ الخطأ ليس خطأ تولا.
بل خطأ مملكة لاموري
فحين تُرسل مملكةٌ صغيرةٌ شخصًا إلى إمبراطوريةٍ صارمة، يجب أن تُعِدَّه جيدًا للتعامل مع فروق المكانة.
وإلّا فستنعكس العواقب عليهم.
لكن… ربما هذا ما يجعلهم مملكةً صغيرة
أما الخطأ الآخر فهو خطئي أنا.
فعلى الرغم من أنّ الجسدَ جسدُ طفلةٍ في الثالثة، إلّا أنّ داخله عقلُ وزيرٍ في الخامسة والستين.
كان عليَّ أن أتوقّع هذا الموقف، وأن أُوصي تولا مسبقًا: “إن طلب أحدُ كبار الإمبراطورية مقابلتي، فلتسكبي الماء البارد عليَّ لتوقظيني مهما كان الأمر.”
بما أنّ من في لاموري لم يُحسنوا التعليم والإعداد، فمسؤوليّةُ ما يحدث الآن تقع عليَّ.
“ليغظع جلالته لثاني ويعابني جيفما يشاء تأديبًا على حطئي (ليَقْطَعْ جلالتُه لساني ويعاقبْني كيفما يشاءُ تأديبًا على خطئي).”
قلتُ ذلك وأنا منحنيةٌ أطلبُ الرحمة.
بصراحةٍ — وبصوتٍ مُبهمٍ لدرجة أنني تردَّدتُ قبل أن أختارَ كلماتٍ أوضح — كان نطقي مُتلعثماً لكن سواءً أدركَ الإمبراطورُ ما قلتهُ من خلالِ الجوِّ العام أم فعلاً فهمَه حرفيّاً، فلم يُعِدْ سُؤالي.
“هل هذا خطؤك؟ آه، تقصد أنّك نِمتَي بعد أن أوصيتَها بألّا توقظك حتى لو جاء الإمبراطور؟ أهذا ما تعنيه؟”
أنا نفسي أصابُني الدُهْشُ؛ لكن حقّاً هذا الأسلوبُ مع طفلٍ في الثالثةِ من عمرِه؟! لماذا لامورَ لا تُظهِرُ امتنَانَها لي مئات المَرّاتٍ ؟لو لم أكن أتذكّرُ حياتي الماضية لَبَكَى أيُّ طفلٍ ذكيٍّ كان في موقفي الآن بل إنَّه لَو استيقَظَ وأتى مسرعًا لما كان ليرى إلا المربّيةَ الميّتةَ.
(العَبدُ يُحمَلُ على إثمِ سيدِهِ فَبِقَصْرٍ إن قَصَّرْتُ في إدارةِ مرؤوسي فَالعَيبُ عليَّ، فلتُعاقِبَنِي يا صاحبَ الجلالة.)
لا يزال جسدي مثقلاً بالإرهاق، وكنت أشعر بألم في كل جسدي نتيجة ارتخاء التوتر الذي كنت أحمله ومع ذلك، لم أستطع أن أغرق في الغيبوبة بهذه الحال، فكدت أحبس أنفاسي العميقة التي كادت تطلق عن ارتياحي، ورفعت رأسي بصعوبة.
وعندما رفعت رأسي، رأيت أمامي شابًا وسيمًا يبتسم ابتسامة لطيفة وكأنّه لم يسبق له أن صرخ على أحد.
التعليقات لهذا الفصل " 3"