نتيجةً لركض بلانش حتى تعرّق أسفل قدميها، فقد غرقت في النوم فور انتهائها من العشاء، على عكس ميلتشزيدك ، الذي قضى يومًا هادئًا ومسترخيًا، فبقي لديه من النشاط ما يكفي لزيارة الإمبراطورة الأرملة بعد العشاء.
“هل استدعيتني، يا والدتي الملكية؟”
الإمبراطورة الأرملة راتشيا بيا بندلتون استقبلت ابنها وهي لا تزال تقليم شجرة الزينة كما كانت وبينما كانت تعتني بالشجرة المزروعة في إناء صغير، فتحت راتشيا باب الحديث بسؤالٍ عن الأحوال.
“حسنًا هل شقيقك بخير؟”
لكن السؤال كان عن الابن الأكبر أن تسأل الأم عن حال الابن الأكبر بينما تحدث الابن الأصغر، فذاك مشهد غريب بالفعل، غير أن ميلتشزيدك أجاب كأن الأمر معتاد.
“نعم، إنه بصحة جيدة جدًا.”
“جيد، لا حاجة للمزيد إذًا لقد بلغ أعلى المناصب في سن العشرين، فماذا يمكن أن نرجو له غير الصحة؟”
كان سؤالًا محرجًا يصعب الرد عليه، لذا تظاهر ميلتشزيدك وكأنه لم يسمعه وتجاوزه.
“لا أظن أن سبب استدعائي هو سؤال عن حال أخي، أليس كذلك؟”
رفعت راتشيا طرف شفتيها بابتسامة خفيفة، وأخيرًا التفتت بنظرها إلى ابنها.
“تبدو مستعجلًا اليوم، على غير عادتك.”
“في سني، يجب أن أنام في العاشرة مساءً لذا عليّ أن أدخل في صلب الموضوع، وأنهي الحديث سريعًا، ثم أذهب للنوم.”
كانت حجة منطقية في الحقيقة، لم تستدعِ راتشيا ابنها في هذا الوقت من الليل لمجرد تبادل الحديث، لذا بدأت بالكلام مباشرةً في الموضوع.
“حسنًا ما رأيك بتلك الطفلة المدعوة بلانش؟”
تردد ميلتشزيدك في الرد، وهو أمر نادر الحدوث لم يكن الأمر تفكيرًا جديدًا بقدر ما كان إعادة تأمل في نتيجة وصل إليها مسبقًا.
“إنها طفلة من النوع الذي يعجب به الكبار.”
كان تقييمًا غريبًا لو قال إنها طيبة، أو خبيثة، أو ذكية، أو تجيد التملق، لكان من السهل فهمه أما أن يصفها بأنها “من النوع الذي يعجب به الكبار”، فذلك أمر يصعب سبر معناه.
وخصوصًا أن من قال هذا هو طفل في الخامسة من عمره، مما يجعل مغزى الكلام أكثر غموضًا.
“أيعني ذلك أنها لا تعجبك؟”
“لا، بل إنها جيدة جدًا إنها أول طفلة في سني أتمكن من التواصل معها بالكلام.”
أمال ميلتشزيدك رأسه قليلًا، وتابع حديثه بهدوء.
“لكن تصرفاتها تجعلني أشعر بأنها طفلة صيغت لتناسب أذواق الكبار فالكبار، كما تعلمين، يتضايقون من الأطفال عندما يتصرفون كالأطفال حقًا، لكنهم يشعرون بعدم الارتياح إن بدوا كبارًا أكثر من اللازم.”
هذه المرة، كانت راتشيا هي من لزم الصمت.
ما أشار إليه ميلتشزيدك لم يكن سوى طريقة تعامل الكبار معه.
فباستثناء بعض الأقارب بالدم، لم يكن هناك من يعامله على طبيعته سوى ريانا، أما بقية الكبار فكانوا يجدون صعوبة في التعامل مع دوق ناضج قبل أوانه.
بل وربما، لولا كونه وليّ العهد التالي، لما فكر أحد حتى في تزويجه إلى بناتهم.
“الأميرة بلانش ، من هذه الناحية، تتمتع بتوازن مثالي فهي ناضجة إلى الحد الذي لا يسبب الضيق، وتتصرف كطفلة إلى الحد الذي لا يبدو مبتذلًا لطيفة بما يكفي لأن تُحب، ورقيقة بما يكفي ألا تكون مزعجة.”
كان من الصعب تصديق هذا الكلام حتى بعد سماعه لو كانت بلانش في الثالثة والعشرين، لكان منطقيًا لكنها في الثالثة من عمرها؟
هذا أمر مختلف عن نضج ميلتشزيدك فالنضج هو مجرد تقدم الطفل نحو البلوغ، لكن أن تعرف كيف تتصرف بما يناسب أذواق الكبار، فذلك يتطلب أكثر من النضج؛ يتطلب مهارة اجتماعية.
ومهارة كهذه يصعب حتى على الكبار امتلاكها، فكيف بطفلة في الثالثة؟
“أتظن أن مملكة لاموريه قامت بتعليمها ذلك؟”
“لو كان بالإمكان تعليم طفلة في الثالثة لتصبح هكذا، فيجب حينها أن يُعاد تقييم مملكة لاموريه من جديد.”
“إذًا، فطبعها؟”
“أليس ذلك أكثر احتمالًا؟”
كان رأيًا صائبًا من الصعب تصديق أن مملكة صغيرة محصورة بين قوتين عظميين لديها القدرة على إعداد رهينة بهذا الشكل المتقن لذا فإن من الأسهل افتراض أن بلانش وُلدت وهي تملك جاذبية طبيعية.
“إن كان ما تقوله صحيحًا، فربما يجدر بي أن أخصص لها بعض الوقت.”
مع أنها تحمل لقب الإمبراطورة الأرملة، كانت راتشيا لا تزال مسؤولة عن إدارة شؤون القصر ولو كانت بلانش مجرد طفلة محظوظة، لما كان لدى راتشيا وقت لمقابلتها حتى وإن كانت رفيقة لعب لابنها الثاني.
لكن تقييم ميلتشزيدك أثار فضول راتشيا، ولهذا قررت ألا تكلّف أحدًا بلقاء بلانش بدلًا منها، بل أن تقابلها بنفسها.
“…لا بأس في ذلك، لكن لما لا تمنحينها بعض الوقت قبل استدعائها؟ تبدو متعبة في الآونة الأخيرة بسبب حفل الشاي.”
ابتسمت راتشيا برقة، ودفعَت الإناء الذي أنهت تهذيبه جانبًا.
وقد كان ذلك إشارة منها إلى أنها لا تأخذ رأي ميلتشزيدك بعين الاعتبار، لذا اكتفى هذا الأخير بكونه أوصل رأيه، واعتبر ذلك كافيًا.
***
بالكاد أغمضت عيني للحظة، لكن عندما فتحتها مجددًا، كان الصباح قد حلّ بالفعل.
“لقد استيقظتِ تمامًا في الوقت المعتاد بدا أنك كنتِ مرهقه البارحة، ألم يكن من الأفضل أن تنامي قليلاً بعد؟ سأوقظك بعد ساعة.”
بما أن تولّا كانت حاضرة، فلا بد أن الوقت الآن هو الوقت الذي اعتدت الاستيقاظ فيه.
لا شك أن جسدي قد تغيّر، ولكن يبدو أن العادات قد انتقلت معي، فكنت أستيقظ في نفس الوقت الذي اعتدت عليه في أيام إي باي ريون وبما أنني أحتاج الآن إلى قدر مختلف من النوم، فقد بدأت أخلد إلى النوم أبكر من ذي قبل وأحرص على أخذ قيلولة في النهار أيضًا.
“لا، سأأخذ قيلولة لاحقًا بدلًا من ذلك، أرجو أن يكون الإفطار خفيفًا.”
ربما لأن التعب لم يزل بعد، لم يكن لدي شهية في الماضي، كنت سأكتفي بفنجان من شاي التمر وأُنهي الأمر، لكن هذا الجسد يحتاج إلى أن ينمو، فلا يمكنني إهماله.
“سأبلغ المطبخ بذلك.”
في الحقيقة، كان من الممكن أن أكلف خادمة عادية بمثل هذا الأمر فمن حيث المبدأ، تُعدّ تولّا ثاني أعلى سلطة في هذا القصر بعدي.
لكن تولّا كانت تصر على تولي كل ما يخصني بنفسها ما لم أطلب منها شيئًا آخر وتقول إن الحاضنة لا بد أن تهتم بكل صغيرة وكبيرة.
ولأني أيضًا أرتاح في أن تتولى تولّا، التي أثق بها أكثر من أي أحد، كل ما يتعلق بأموري، فقد تركت لها حرية التصرف.
ثم إنني حصلت على مهر صغير قد يصبح جوادًا أصيلاً، فعليّ أن أربيه أولًا، وبما أن الإمبراطورة الأم تراقبني الآن، فعليّ أن أكون حذرة في تصرفاتي لفترة من الوقت لذا، طالما ليست هناك ضرورة لإرسال تولّا خارجًا، فقد أصبحت الخطة أكثر مرونة مما كنت أتوقع.
لكن من أصبحت أكثر مرونة هي تولّا، لا أنا.
“الجسد الصغير مزعج للغاية.”
اغتنمت خروج تولّا من الغرفة لأتنهد بعمق صحيح أن الجسد العجوز فيه بعض الإزعاج، لكنه كان مألوفًا لدي بعد عشرات السنين، أما هذا الجسد الصغير فهو يعيقني ويثير أعصابي.
لا أستطيع حتى النزول عن الكرسي وحدي، وعليّ أن أتناول ثلاث وجبات متوازنة في العناصر الغذائية يوميًا، وأن أقضي نصف اليوم تقريبًا نائمة.
“متى سأكبر، بحق السماء؟”
ليتني عندما أفتح عيني المرة القادمة، يكون قد مرّ عشر سنوات على الأقل، لن أضطر إلى التخلي عن أشياء بسبب حدود جسدية.
وضعت يدي الصغيرة والبدينة على عيني وضغطت برفق في حياتي السابقة، كان الأصدقاء يتحدثون كثيرًا عن إعادة عيش الحياة مرة أخرى.
كانوا يتساءلون عن مدى البهجة والروعة التي قد يشعر بها المرء إذا عاش مجددًا، وهو يمتلك كل أجوبة الحياة، في جسد شاب يافع ونضر كم ستكون تلك الحياة براقة وفاخرة.
لكن رأيي لم يتغير آنذاك ولا الآن لم أكن بحاجة إلى طريق يُسلك مرتين كنت أفتقد جسدي المتداعي الذي كان يطيعني كما أشاء، أكثر من اشتياقي لجسد ينمو ويكافح ليكبر.
ربما لا يفهم الآخرون ذلك، لكن تلك الحياة في ذلك الجسد كانت حياتي الحقيقية بحق.
وبينما كنت أتناول الحساء بلا شهية، جاءت تولّا تحمل رسالة.
“لقد وصلتك رسالة من سمو الدوق.”
أيعقل أنه ينوي زيارتي مجددًا اليوم؟ شعرت بشيء من القلق وأمرت تولّا أن تحضر لي سكين الرسائل.
“ها هي، سموّكم.”
ولأني ما زلت لا أجيد استخدام سكين الرسائل، فتحت تولّا الظرف وأخرجت المحتوى بدلاً عني.
[تناولي العشاء مبكرًا اليوم واتركي المساء فارغًا.]
رغم أن العبارة كانت مبهمة، فقد أدركت فورًا المعنى آه، يبدو أن الإمبراطورة الأم تنوي استدعائي.
قبل يومين فقط، أثناء العشاء، قالت الإمبراطورة إن العائلة الإمبراطورية والدوق يتناولون العشاء معًا كل يوم.
ولذا، إن استدعاني أحد في وقت العشاء لأمر غير العشاء، فلن يكون سوى الإمبراطورة الأم وما من أحد سوى ميلتشزيدك يمكنه أن يبلغني بذلك.
“تولّا، قولي للمطبخ أن يُعدّ العشاء قبل ساعتين من المعتاد اليوم.”
“أمرك”
رغم أن شهيتي لم تعد، إلا أنني لا بد أن أكون مستعدة تمامًا لمقابلة السيدة العليا في الإمبراطورية مزّقت قطعة خبز وغمستها في الحساء وأكلتها بعزم.
“لا بأس، لا بأس الكبار يحبونني.”
تمتمت كأنما لأقنع نفسي رغم أن ذلك كان صحيحًا، إلا أنه بدا وكأنه كلام خالٍ من اليقين، لأنه من زمن بعيد.
لكنها كانت الحقيقة من كانوا أصغر مني ظنّوني صارمة، ومن كانوا في سني رأوني منافسة وحرصوا على مراقبتي، أما من هم أكبر سنًا فقد رأوني فتاة مميزة.
وكان كل من التقيت من الكبار أصحاب مناصب عليا، ولم يكن لديهم سبب لمنافستي وحين وصلتُ إلى مكانة قد تشكّل تهديدًا لهم، كانوا قد تقاعدوا أو فارقوا الحياة.
نعم، هذه خصم يمكنني التنبؤ بتصرفاته، ويمكنني الوثوق بقدرتي على التعامل معه.
صُدمتُ حين واجهتُ مودة الإمبراطورة أو الأطفال الآخرين لأنني لم أكن معتادة على تلقي مشاعر إيجابية من أناس في أواخر مراهقتهم أو أوائل عشريناتهم أما بالنسبة للإمبراطورة الأم، التي في مثل هذا العمر، فالأمر مختلف فأنا أعرف كيف أنال إعجابهم.
“……فقط أحتاج لإعادة ترتيب ذهني.”
إذاً، ما أحتاجه هو شيء واحد فقط أن أستحضر ذاكرتي من عشرات السنين الماضية.
حرّكت عضلات وجهي لأعدّل تعابيري على عكس الصغار الذين كانوا يحبونني كلما تصرفت كطفلة ونطقت بلسان قصير، فإن الإمبراطورة الأم على الأرجح ستحبني أكثر إن تصرفتُ بغير طفولية.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 27"