لم يمضِ على تأسيس مختبر الأميرة ديلايلا سوى أقل من شهر، لكنه بدا وكأنه مستهلك منذ عشرة أعوام.
بمعنى آخر، لم يكن هناك أي تنظيم أو ترتيب على الإطلاق.
قالت الأميرة مبررة:
“الرائحة مزعجة بعض الشيء، أليس كذلك؟ ذلك لأنني أُجري بحثًا حول الفروق في فعالية نبات السرخس عند تناوله نيئًا أو مغليًا.”
رغم أنها بدت وكأنها تعتذر، إلا أن الرائحة كانت تبعث على الطمأنينة في نفسي كانت أشبه برائحة سلق الخضراوات البرية.
قلت:
“إنها طيبة في الحقيقة أشبه برائحة الشاي نوعًا ما.”
أجابت:
“همم، من ناحية أننا نغمر النبات في ماء مغلي، فقد تكون الفكرة متشابهة.”
لم تكن ذراعها تؤلمها على ما يبدو، فالأميرة حملتني وظلت تتحدث بحماس عن مدى تقدم بحثها مع أنها كانت تقول قبل قليل إنني ثقيله عليها.
قالت فجأة:
“آه صحيح، لا بد أنكِ ضُيّقتِ ذرعًا بكلام لا يهمك، أليس كذلك؟ هذه عادة سيئة عندي.”
انتقلت من الحديث عن تقدم البحث إلى شرح سبب اعتقادها أن فعالية نبات السرخس تختلف حسب طريقة استهلاكه، ثم أخذت تسرد أسباب استخدام البشر لهذا النبات منذ البداية ومعدلات استخدامه حسب المناطق، إلى أن بدا وكأنها استعادت رشدها أخيرًا.
بالنسبة لطفل عادي في الثالثة من عمره، فإن هذا الحديث لا يمكن فهمه إطلاقًا أما أنا، رغم امتلاكي لبعض المعرفة بالأنثروبولوجيا، فلم أستطع فهم أي من المصطلحات النباتية المتخصصة التي استخدمتها، وقد أنهت حديثها باعتذار مفاجئ.
قلت:
“أووم، لا، لم يكن مزعجًا كان ممتعًا.”
لكن هذا لم يكن كذبًا فأنا حقًا كنت أحب الاستماع إلى مثل هذا الكلام حتى وإن كان من الصعب عليّ فهمه.
بسبب ضيق الوقت والقدرات، لا يمكنني أن أدرس كل المجالات بنفسي لكن في الحياة، لا بد أن أحتاج إلى تلك المعارف عاجلًا أم آجلًا وحتى لو استعنت بخبير في التفاصيل، عليّ على الأقل أن أكون قادرًا على شرح ما أريده لذلك الخبير، أليس كذلك؟
ولهذا، الاستماع إلى حديث خبير متحمس كان وسيلة فعّالة جدًا لاكتساب هذا المستوى من المعرفة.
قلت لها:
“لكن قبل قليل، قلتِ إن السرخس لا ينبت في هذه المنطقة.”
فقالت بدهشة:
“أأنتِ تذكرين ذلك؟”
إن لم أستطع تذكر ما قيل قبل عشر دقائق، لما استطعت أن أكون رئيس وزراء كتمتُ ضحكتي بصعوبة عندما سمعت هذا المديح، الذي لم أسمعه منذ زمن بعيد نعم، الأطفال الصغار ينالون المديح لمجرد أنهم يتذكرون بعض الأمور.
كنت قد نسيت هذه الحقيقة، بعدما قضيت نصف حياتي قائدًا عامًا للجيش، والنصف الآخر زعيمًا لعشيرتي.
قلت ببساطة:
“لأنه كان ممتعًا.”
لكنني لم أستطع قول الحقيقة كاملة، فقلت بدلًا من ذلك ما ظننت أن الأميرة ديلايلا تود سماعه.
قالت وهي تتأملني بعينين حانيتين:
“تشبهني وأَنا صغيرة… ربما يكون لدى سموّك موهبة في هذا المجال أيضًا.”
من سمات الباحثين أنهم يحاولون استدراج كل من يُبدي اهتمامًا بمجالهم وإن لم أكن حذره ، فسوف تُغرقني بالأطروحات والمؤلفات حول علم الأعشاب.
فسرعان ما غيرت الموضوع قائلًا:
“لكنه لا ينبت هنا، فهل لا يُشكّل ذلك مشكلة في البحث؟”
أجابت بعد لحظة من التفكير:
“آه، نعم.”
ويبدو أن حمل طفلة تقترب من الرابعة كان مرهقًا للذراعين الضعيفتين لعالمة نحيلة مثها، فقد أنزلتني على الطاولة لتجلس أمامي وتجعل مستوى نظرنا متقاربًا.
قالت:
“بما أن النبات لا ينمو هنا طبيعيًا، فلا يُستخدم في الإمبراطورية على الإطلاق وبالتالي، لا أحد يبيعه هنا… لذا أتلقى كميات قليلة منه من موطني الأصلي، لكن الكمية غير كافية لإجراء تجارب شاملة.”
قلت متسائلةً :
“لأن المناخ غير مناسب؟”
“نعم، السرخس حساس جدًا للتغيرات في درجات الحرارة… درجة الحرارة نفسها مناسبة، لكن الإمبراطورية تتميز بتغير كبير في المناخ بين الفصول.”
كان هذا هو الجواب الذي أردته رمشتُ بعينيّ وكأنني بريئه لا أفهم شيئًا، وقلت:
“أليس بناء بيت زجاجي حلًّا جيدًا؟”
ضحكت الأميرة بلطف، ظنًا منها أن هذا اقتراح بريء من طفل لا يعرف شيئًا.
قالت:
“بناء بيت زجاجي أمر معقد نوعًا ما.”
وكان كلامها صحيحًا فالبيوت الزجاجية تحتاج إلى كميات ضخمة من الزجاج، والحصول على إذن من الإمبراطور لبناء منشأة داخل القصر أمر صعب جدًا من غير المرجح أن تتمكن الأميرة ديلايلا، التي أُحضرت من وطنها للبحث، من تحقيق ذلك بنفسها.
فقلت لها:
“في قصر إقامتي الجديد، وعدوني ببناء بيت زجاجي صغير.”
كان الدوق قد أساء فهم اهتمامي بالأزهار، فألحق بي خمسة من البستانيين في قصر جاسبر، وعرض عليّ أيضًا بناء بيت زجاجي إذا رغبت.
ربما أراد أن يمكنني من رؤية الزهور حتى في الشتاء، لكن أول ما خطر في بالي عند سماع ذلك كان الأميرة ديلايلا فعلماء الأعشاب يعانون كثيرًا من صعوبة تأمين الأعشاب الطبية شتاءً.
“هل تريدين أن أعيره لكِ؟”
ارتجفت عينا الأميرة.
قالت بتأثر:
“إن فعلتِ ذلك، فسيكون عونًا كبيرًا حقًا… طالما يمكننا الحفاظ على درجة الحرارة، فإن السرخس لا يتأثر كثيرًا بالبرد أو الحر.”
قلت:
“أنا أزرع الزهور في الحديقة فقط، لذا يمكنكِ استخدامه لدي أيضًا عدد كبير من البستانيين، لذا يمكنكِ استخدامه.”
قالت بانفعال:
“كيف يمكنني ردّ هذا الجميل…؟”
فأمسكتُ بأصابع الأميرة بلطف وقلت مبتسمًة ببراءة:
“إن كنتُ أستطيع أن أكون عونًا لمن أحب، فذلك يكفيني.”
لم يفتني أن عيني الأميرة ترقرقتا بالدموع.
نعم، هذا كافٍ لا حاجة لرد الجميل حالًا طالما أنني سأظل أزوّدها بالسرخس، فسوف ترد لي الجميل عاجلًا أم آجلًا أما الآن، فهذا يكفيني.
همستُ لها برقة:
“هل تقبلين أن تكوني أول ضيفة أدعوها؟ سأريكِ موقع البيت الزجاجي.”
قالت بحماسة:
“بكل سرور!”
رغم أني لم أُرِها بيتًا زجاجيًا مليئًا بالسرخس، إلا أن ردة فعل الأميرة كانت حماسية للغاية.
فورًا، أخذت الأميرة ديلايلا و أريتها الموقع، ثم استدعيت أحد البستانيين الخمسة لأقدّمه لها فهي لن تتمكن من المجيء كل يوم للاعتناء بالنبات، لذا سيتولى البستاني العناية بالسرخس بدلًا منها.
وبعد أن أعدتُ الأميرة ديلايلا مشغولة بخطة تزويدها بالسرخس، قابلتُ ثلاثة من أفراد العائلة المالكة الآخرين جميعهم كانوا من النمط الباحث مثل ديلايلا، ويحتاجون إلى أماكن للبحث.
وبما أنني لا أملك سوى جسد واحد، فلا داعي لترك المساحات التي لديّ بدون استخدام، أليس كذلك؟ إعارتها للآخرين واكتساب التعاون أفضل بكثير.
وقد تأثروا جميعًا بكلامي حين قلت لهم:
“بعد أن انتهيت من الانتقال إلى القصر، اشتقت إليكم أكثر من أي أحد آخر، لذا جئت إليكم.”
تغاضوا بسخاء عن الزيارة المفاجئة، وتأثروا أكثر حين أخبرتهم أنني سأوفر لهم مساحات للعمل، وتأثروا للمرة الثالثة عندما قلت لهم إنهم أول ضيوف أدعوهم بنفسي.
أتساءل إن كان هذا كذبًا؟ ربما، لكن في اليوم نفسه، من سيُثبت العكس؟ من سيراقب توقيت الزيارات لطفل في الثالثة من عمره ليتهمه بالكذب؟ سيكون ذلك مثيرًا للسخرية.
وهكذا، وبعد أن ضمنتُ دعم أربعة أشخاص، تمددتُ منهكه مع غروب الشمس.
قالت تولّا بقلق، وهي تمسح وجهي بمنشفة مبللة بالماء الدافئ:
“هل أنتِ بخير، سموّ الأميره؟”
همستُ بصوت ضعيف:
“متعبه…”
كنت مرهقه جدًا لدرجة أن لساني لم يطاوعني، ولم أستطع النطق بوضوح في الآونة الأخيرة، لم أعد أتلعثم إلا عندما أتعمّد التصرف بلطافة، لكن اليوم كنت منهكه فعلًا.
أبدت تولّا مزيدًا من القلق، وقد أدركت كم عانيتُ اليوم.
قالت:
“ألا يمكنك أن تأخذِي الأمور بروية أكثر؟ ألم يقولوا إن سموّ الدوق سيشكّل درعًا لك في الوقت الحالي؟”
فأجبتها:
“وجود درع لا يعني أنه سيوقف الزمن.”
لكل شيء في الحياة توقيت وإن فات، فسيتوجب علينا دفع ثمن باهظ، وربما لا يمكن تعويضه أصلًا.
تكوين العلاقات بين الرهائن أمر تكاد استحالته توازي استحالة تعويضه.
فهم من جنسيات، وأعمار، وطباع مختلفة، ولن يبادروا للقاء بعضهم بعضًا دون دافع الآن فقط، في لحظة السقوط المفاجئ في بلد أجنبي، يشعرون بالوحدة، ولهذا يقبلون بلقاء الآخرين لكن بعد أن يعتادوا على الوضع، من سيبذل الجهد لبناء صداقات جديدة؟ سيكتفون بالحفاظ على ما كوّنوه بالفعل.
لذا، ما عليّ أن أهتم به الآن ليس تعب جسدي، ولا هوية الدوق.
الدوق؟ إما أنه طفل ذكي ببساطة، أو أنه شخص مثلي وُلد من جديد ليس من الضروري أن أكون الشخص الوحيد في هذا العالم الذي عاش حياة سابقة.
على أي حال، سواء كان الدوق طفلًا عاديًا أو لا، فهو شخص لا أستطيع أن أتحكم به كيف يمكنني أن أفعل شيئًا بينما هناك إمبراطور ذو ميول استبدادية يراقب كل شيء عن كثب؟
بمعنى آخر، ما يحمله ذلك الطفل ذو الخمس سنوات في داخله لا يُهمني الآن.
ما يهمني هو شيء واحد فقط أن أكون مسؤولًا عن تولّا.
قلت لها:
“أنتِ لم تصلي بعد إلى المرحلة التي تقلقين فيها من هذا فقط تعلمي جيدًا ما أُعطيكِ إياه سأهتم بالباقي.”
كما فعلت مع ابنتي “يوهيون” من قبل.
لكن تولّا، على عكس ابنتي، لم تبدُ وكأنها تصدق كلامي كليًا أو لعلها تصدقه، لكنها لا تستطيع أن تتوقف عن القلق.
لكنني كنت مرهقة جدًا لأعاتب تولّا على قلقها، فاستسلمتُ للنوم.
لم تكن وجبتي مع الدوق قد هُضمت بالكامل بعد، وربما أعاني لاحقًا من اضطراب في النوم، لكن جفوني كانت أثقل من أن أقاوم.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 26"