“آه، إذن لا بد أن لديه الكثير من الاستياء، فموهبة بهذا القدر ينتهي بها الأمر في مكان ناءٍ كهذا.”
“لم يُظهر أي علامة على ذلك.”
“لا أصدق حديثك، فأنت حتى لم تدركِ أن زوجة أخيكِ في خطر.”
بدا وكأن الشخص الذي يتحدث يتعامل مع البشر وكأنهم وحوش مفترسة.
“أليس الخوفُ شيئًا، والخطرُ شيئًا آخر؟”
بالطبع، إن كان المرء مقاتلًا، فسيكون الأمر خطيرًا عليه أيضًا، لكن لو أردنا التدقيق في ذلك، فجميع البالغين يشكّلون خطرًا عليّ حتى الفتاة الرقيقة من عائلة نبيلة يمكنها أن تطوّق عنقي وتخنقني حتى الموت.
“زوجة أخيكِ شخصية مخيفة وخطيرة.”
قال ذلك بصوت حازم أثناء تناول الطعام معًا، كان يبدو أن الجو بينهما وديٌّ للغاية، لكن هل الأمر مختلف عما يبدو عليه في الظاهر؟
ربما تنظر الإمبراطورة إلى الدوق على أنه مجرد بديل، ولكن في الوقت الحالي، ليس هناك سبب يدعوها لاضطهاده، ولهذا السبب تعاملني بلطف.
ولكن ماذا عن الدوق؟ هل يجد وجودي بجانب الإمبراطورة أمرًا مزعجًا، وكأنه يعيش مع جاسوسة؟ أم أنه على العكس، طالما لم يولد ولي العهد بعد، فلعله يرغب في تقوية علاقته بها؟
ترى، كيف ينبغي لي أن أتصرف في هذا الوضع؟
بينما كانت الأفكار تتشابك في رأسي، وقعت عيناي على شيء ما.
“هل تودّ اختيار لون الحصان بنفسك؟ أي لون—”
لكنني تركت يد الدوق واندفعت مسرعة نحو الحصان الذي لفت انتباهي.
“أيتها الصغيرة! هذا خطر! ماذا لو رفسكِ؟!”
سمعتُ صرخة الدوق المذعورة خلفي، لكنني لم ألقِ لها بالًا.
“هذا الحصان! هل هو للبيع؟!”
صرختُ وأنا متشبثة بالحيوان، فتقدم صاحب المتجر نحوي وفي ذات اللحظة، شعرتُ بحضور الدوق يقف خلفي.
“أوه، يبدو أن لدينا زبائن صغارًا جدًا اليوم! هل جئتما برفقة والديكما؟”
ربما تسببت ملامحي الطفولية في تخفيف حذره، فتحدث إليَّ بنبرة ودّية لم أجد في ذلك مشكلة، لكن يبدو أن الفارس الذي تبعنا لم يكن ليترك الأمر يمر ببساطة، فقد صاح بغضب:
“ألا تدرك من تكون هذه السيدة حتى تخاطبها بهذه الطريقة؟ تحلَّ بالاحترام!”
يا له من موقفٍ مؤسف! مجرد أنه تحدّث إلينا بشكل غير رسمي بسبب صغر سنّنا، وجد نفسه يتلقى توبيخًا من فارس مسلّح شعرتُ ببعض الشفقة تجاهه، لكن هذا لم يكن ما يهمني الآن.
“هذا الحصان، ما سعره؟”
في البداية، لم أكن أنوي شراء حصان كنت أريد فقط أن أترك الدوق يختار، ثم أمدحه قائلةً إن لديه عينًا خبيرة في اختيار الخيول.
لكنني الآن غيّرت رأيي. لا بد لي من شراء هذا الحصان.
“تقصدين هذا الحصان؟”
تساءل البائع بدهشة، في حين أن الفارس المرافق لي حاول إقناعي بالعدول عن قراري.
“يا آنستي، إن كانت الخيول الكبيرة تخيفكِ، فهناك في الداخل مهرات أصغر حجمًا يمكنك اختيار إحداها بل يمكنكِ حتى شراء حمار، سيكون أصغر وألطف أما هذا الحصان… فهو—”
كان محقًّا في قلقه، فقد كان الحصان الذي اخترته هزيلًا لدرجة بدا معها وكأنه سيسقط في أي لحظة من شدة الضعف والجوع.
“هذا هو الحصان الذي يعجبني سموّك، هل يمكنك شراءه لي؟”
كالعادة، لمس الدوق ذقنه متفكرًا، ثم قال باقتضاب:
“إن كنتِ ترغبين به.”
“أريده، أرجوك اشترِه لي.”
بدا أن البائع أدرك جديتي من نبرتي الحازمة، فتحدّث بنبرة مترددة:
“ولكن… لم أكن أنوي بيعه، فهو على وشك الموت في أي لحظة آه، ماذا عن هذا؟ اختر أي حصان آخر يعجبك، وسأمنحك هذا الحصان كهديّة إضافية.”
كان هذا الرجل يتمتع بضمير حيّ ربما كان خائفًا من الفارس المسلح خلفي، لكنه لم يحاول استغلال الفرصة لبيع حصان عديم القيمة بسعر مرتفع، بل قدّم عرضًا كريمًا غير أن المشكلة تكمن في أنني لم أكن أرغب في صفقة عادلة، بل أردت هذا الحصان تحديدًا.
“لا أريد أي حصان آخر سأشتري هذا وحده كم ثمنه؟”
“أوه… يصعب أن أطلب مالًا مقابل شيء كهذا، لكن… حسنًا، أعطني قطعة نقدية من الفضة فقط.”
قطعة فضية واحدة؟ عندما كنتُ أعدّ ميزانية حفلة الشاي، تذكرت أن علبة شاي فاخرة كانت تكلف نفس هذا المبلغ إن كان الأمر كذلك، فهذا السعر لا بد أنه منخفض بشكل مثير للدهشة.
“وكم سعر الأحصنة الأخرى؟ مثل ذلك الحصان هناك؟”
“ذلك؟ يكلف خمس عملات ذهبية في الواقع، هناك بعض الفروق في الأسعار، لكن… حسنًا، لا بأس! سأمنحك أي حصان تختارينه مع هذا الحصان مقابل خمس عملات ذهبية فقط، لن أطلب حتى العملة الفضية الإضافية.”
كان واضحًا أنه يحاول تحقيق بعض الربح مع الحرص على عدم استغلالي كان يعلم أن هذا الحصان لا يساوي شيئًا، لكنه أيضًا لم يكن يريد أن يخسر زبونًا محتمَلًا.
“لن تكوني خاسرة في هذه الصفقة فسواء امتلكتِ حصانًا واحدًا أو اثنين، فلن يكون هناك فرق كبير ستحتاجين فقط إلى كومة علف إضافية لا أكثر.”
خسارة في الصفقة؟ بل أنا من ينبغي له قول ذلك! كيف يمكن لهذا الحصان أن يُباع بقطعة فضية واحدة فقط؟ استدرتُ نحو الدوق وقلت:
“سموّك، اشترِ لي هذا الحصان مقابل مئة قطعة ذهبية.”
“ماذا؟!”
“ماذا؟!”
بينما ظلّ الدوق هادئًا رغم أنه طُلب منه دفع عشرين ضعف المبلغ المتوقع، كان كلٌّ من البائع والفارس يحدقان بي في ذهول مطلق.
“يا آنستي، من الأفضل لكِ أن تعودي إلى العربة قليلًا وتعيدي التفكير—”
“سير فلارك، التزم الصمت للحظة.”
أشار الدوق بيده لإسكات الفارس، وكان ذلك أمرًا متوقعًا فبالنسبة إلى البائع أو الفارس، لم يكن مئة قطعة ذهبية مبلغًا يمكن إنفاقه هكذا بقرار مفاجئ في لحظة واحدة.
لكنني كنت على دراية بالميزانية المخصصة لأصدقاء الدوق في اللعب.
ومن البديهي أن الدوق يحصل على أموال تفوق مخصّصاتي الشخصية للحفاظ على مكانتي، وبالنظر إلى ذلك، فإن مئة قطعة ذهبية ليست بالمبلغ الذي يصعب عليه دفعه ما دام هناك سبب منطقي يبرر ذلك.
بالطبع، هذا كله بشرط أن يكون هناك سبب معقول.
“لماذا؟ لماذا علينا أن ندفع مبلغًا لم يطلبه حتى صاحب الحصان؟”
كان كلام الدوق منطقيًا صحيح أن مئة قطعة ذهبية مبلغ في متناوله، لكنه ليس مالًا يمكن أن يُلقى في الطريق دون سبب. لذا، كان عليّ أن أقدم له سببًا مقنعًا.
“لأن هذا الحصان يستحق ذلك.”
ولكن في هذه اللحظة، لم يكن لدي سوى هذا الجواب.
أنا أؤمن بأن الشيء الثمين يجب أن يُعامل على أنه ثمين، ولا يقتصر ذلك على إطعامه جيدًا والاعتناء به.
الشيء الثمين يجب أن يُعرف بثمنه، وينبغي أن يُظهر للناس قيمته لا يجوز أن أكون الوحيدة التي تدرك ذلك، ولا ينبغي لي أن أتجاهل الأمر لمجرد أن الآخرين لا يرون قيمته بل يجب عليّ أن أجعلهم يدركون خطأهم، وأن أخبرهم أن هذا الشيء نفيس.
كانت هذه كلمات جلالته عندما عينني لأول مرة في منصبي، وأمسك بزمام العربة التي كنت أركبها.
حينها، سألته إن كان لذلك أي جدوى، إذ لم يكن أحد يعترف بي بعد فأجابني بأن الشخص الثمين يجب أن يُعامل بثمنه، حتى لو لم يعترف به الآخرون، لأن تجاهله سيجعل الجميع يتعاملون معه كما لو لم يكن ذا قيمة.
ومع مرور الوقت، ثبتت صحة كلماته، واعترف الجميع بي في النهاية وفي كل مرة يحدث ذلك، كانوا يقولون الشيء نفسه: لولا أن جلالته وضع ثقته بي وأظهر ذلك علنًا، لما فكروا حتى في إعطائي فرصة.
منذ ذلك اليوم، حفظت كلماته في أعماق قلبي، وعندما كنت أرى جوهرة وسط الوحل، لم أكتفِ بمسح الطين عنها، بل كنت أنادي الجميع ليشهدوا على بريقها.
وهذا الحصان كذلك حتى لو لم يدرك صاحبه أنه جوهرة، عليّ أن أدفع قيمته الحقيقية حينها فقط، سيكبر ليصبح جوادًا نفيسًا بحق.
ولكن كيف لي أن أشرح ذلك للدوق، وهو الذي لا يعرف كيف يرى جوهر الأشياء؟ كيف يمكنني أن أقول له إن هذا الحصان، رغم هيئته البائسة، سيصبح يومًا ما جوادًا أصيلًا، وإنه حتى لو لم يرَ البائع ذلك، فعلينا من الآن أن ندفع ثمنه الملائم ونعامله بما يستحق؟
هذا شيء لا يدركه إلا من رأى جوادًا أصيلًا بعينيه، ولمس عظَمته، وامتطى ظهره، والجواد الأصيل ليس بالشيء الذي يُتاح للجميع رؤيته.
لذلك، لم يكن أمامي سوى أن آمل أن يقتنع الدوق دون سبب واضح.
نظر إليّ مليًّا، ثم سألني مجددًا:
“لماذا لا تريدين أي حصان آخر؟”
“سموّك.”
“أنا منصت.”
“هل سبق وسمعتَ القول: ‘الشخص الثمين يجب أن يُعامل بما يليق به’؟”
اهتز كتف الدوق قليلًا، وكأنه فوجئ بسماع هذه الكلمات تُرى، هل قالتها الإمبراطورة له من قبل؟ لا أدري لماذا بدا مذهولًا لمجرد سماع عبارة عادية كهذه، لكن ذلك لم يكن يهمني تابعت حديثي دون انتظار جوابه.
“الأمر لا ينطبق على البشر فقط، بل يشمل الحيوانات والأشياء أيضًا الشيء الثمين يجب أن يُعامل بما يليق به إن رميتَ جوهرة بين خرز زجاجي، وتركْتَ الأطفال يلعبون بها، فهل ستظل جوهرة؟ أم أنها ستصبح مجرد خرزة أخرى؟ إن لم يُصن الشيء الثمين، فسيصبح عاديًا لا ينبغي للجوهر أن يُخلط بالزجاج الرخيص لهذا، لست بحاجة إلى أي حصان آخر.”
لو كان لدي إسطبلان، لكان الأمر مختلفًا.
لكنني في وضعي الحالي، لا أملك سوى مكان يكفي لجواد واحد، وعليّ أن أختار الأثمن فالجياد العادية يمكنني العثور عليها في أي وقت، وربما أتمكن من شرائها بنقودي الخاصة بعد عام أو نحو ذلك.
“هكذا إذن.”
أنزل الدوق يده التي كان يمسّد بها ذقنه، والتفت إلى البائع قائلاً:
“سأشتري هذا الحصان مئة قطعة ذهبية.”
ثم التفت إلى الفارس قائلاً:
“سير فلارك، أحضر دفتر الشيكات.”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 22"