تمتمتُ بهذه الكلمات بصوتٍ خافتٍ وأنا أُسنِدُ خَدِّي إلى المكتب يقولون إنَّ الكلام يُتقَنُ بكثرةِ الممارسة، ولكن لو تفوَّهتُ بمثل هذه الكلمات أمام الآخرين، لنظروا إليّ بنظراتٍ غريبة، لذا كنتُ أُحادثُ نفسي كثيرًا حين أكون وحيدًا.
بعد أن شنقتُ نفسي تنفيذًا للأمر الإمبراطوري الذي أصدره جلالتُه، فتحتُ عينيَّ مجددًا لأكتشف أنّني أصبحتُ بلانش روا فان دالوين ، أصغرَ أميراتِ مملكةِ لامورِيه.
ولأنّ هناك بالفعل سيرةً ذاتيةً عن لي بايك ريون مشهورةً وموجودة، فهذا لا يعني أنّني كنتُ أحلُم، بل إنّني تناسختُ، مع احتفاظي بجميع ذكرياتي السابقة.
ولأنّني قد رأيتُ في حياتي السابقة أشخاصًا وُلِدوا من جديد وهم يحتفظون بذكرياتهم الماضية، لم يكن هذا الأمر صادمًا لي كثيرًا يبدو أنّه أمرٌ يجري في الدم، أو لعلّه قَدَرٌ مكتوب.
ما صدمني حقًّا هو أنّ حياتي الجديدة تُشبه حياتي السابقة إلى حدٍّ مريب.
بلانش روا فان دالوين هي أصغرُ أميراتِ مملكةِ لامورِيه، غير أنّها ليست من السلالةِ الملكيّةِ المباشرة بمعنى آخر، هي أميرةٌ مُتَبَنّاة من فرعٍ جانبيٍّ للعائلة المالكة.
وكذلك كانت لي بايك ريون — في حياتي السابقة — من فرعٍ جانبيٍّ لعائلةٍ نبيلةٍ، وتبنّاها ربُّ العائلة لم يكن التبنّي بدافعِ الشفقة على طفلٍ يتيمٍ، بل لأنَّ كِلا الحالتَين كانتا لغاياتٍ نفعيةٍ محضة.
في حالةِ بايك ريون ، تبنّاها ربُّ العائلة لكونها ذكيّةً بلا والدين، كي تكونَ وريثتَه أمّا بلانش، فهي…
أميرةٌ لاستخدامها كرهينة.
ولكي أشرحَ ما معنى أميرةٌ رهينة ، ينبغي أولًا أن أُوضِّحَ موقعَ مملكةِ لامورِيه.
تقعُ مملكةُ لامورِيه بين الإمبراطورية الرِّتَايليّة ومملكةِ كارتِيَان، وهي دولةٌ صغيرةٌ وضعيفة يكفي القول إنَّها ما زالت قائمةً فقط لأنَّ الدولتين الكبريين تترُكانها وشأنَها خوفًا من أن تتجاورا في الحدود لو ابتلعت إحداهما لامورِيه.
فلو استولت إحدى الدولتين على مملكة لامورِيه، لاضطرّتا حينها إلى مواجهةٍ مباشرةٍ بينهما، ممّا سيؤدّي إلى زيادةٍ كبيرةٍ في نفقات الدفاع، ولهذا لا ترغب أيٌّ منهما في ذلك ما لم تكن الحربُ أمرًا لا مفرّ منه
بِكُلِّ معنى الكلمة… إنها مجرَّدُ عَظمٍ لا يُؤكَلُ ولا يُرمى.
إنّ بقاءَ المملكةِ دون سقوطٍ رغم وقوعها بين قوتين عُظميين يمكن اعتباره ميزةً جغرافية، لكن في المقابل، يعني ذلك أنّ عليها أن تُراعيَ مصالحَ الطرفين في آنٍ واحد وربّما كان من الأسهل لو انضمّت رسميًّا إلى إحدى الدولتين.
ولهذا السبب بالذات تبنّاني ملكُ لامورِيه لأنّ إمبراطوريةَ رِتاي طلبت رهينةً ملكيّة، ولم يُرِد جلالتُه أن يُرسل أحدَ أبنائه الحقيقيّين الأعزّاء عليه.
لابُدَّ أنّي ارتكبتُ خطيئةً عظيمةً في حياتي قبل السابقة.
كما في حياتي الماضية، يبدو أنَّ حظّي في طفولتي هذه المرة أيضًا سيّئٌ إلى أقصى حدّ فقدتُ والديَّ وأنا في الثانيةِ من العمر، وتبنّاني الملك كرهينة، فلم تتلق هذي الطفلُة أيَّ حبٍّ أو اهتمامٍ طيلةَ عامٍ كامل.
واليوم، وأنا في الثالثةِ فقط، عليَّ أن أُغادرَ وطني متّجهةً إلى الإمبراطوريةِ الرِّتايليّة، ولن تطأ قدماي أرضَ وطني ثانيةً على الأرجح.
<……لا أُريدُ أن أعيش.>
حقًّا.
في حياتي السابقة، بذلتُ كلَّ ما في وسعي ضحّيتُ بكلِّ شيءٍ من أجل العائلة والوطن كتمتُ أحقادي، ولم أُخفِ موهبتي خدمتُ حيثما احتاجوا إليَّ، في الحرب أو في الإدارة أو في السياسة.
كنتُ أظنُّ أنَّ الأمور ستتحسَّن لو اجتهدتُ أكثر.
< لكنّها لم تكُن كذلك.>
لقد عرفتُ بالفعل ما ينتظرُ مَن يتحمَّلُ ويصبرُ إلى النهاية كنتُ أقولُ لنفسي: إن اجتهدتُ أكثر قليلاً، سيتغيّر كلُّ شيءٍ للأفضل لكنَّ الجزاءَ الوحيد الذي نلتُه كان الألم.
ولن تكون هذه الحياةُ مختلفةً عمّا مضى مهما حاولتُ، فلن يزداد الأمر إلا سوءًا.
<لكن لا أستطيعُ أن أموت أيضًا…….>
فإن متُّ بتهوّرٍ، قد أُبعَثُ في حياةٍ أسوأ من هذه والأسوأ من ذلك أنَّ عمري الآن ثلاثُ سنواتٍ فقط، وبهاتين اليدين الصغيرتين لا أستطيعُ حتى أن أربطَ عقدةً محكمة.
وفوق ذلك…
“يا صاحبةَ السموّ، لقد أتممنا استعداداتِ الرحيل، جئتُ لأصحبَكِ.”
وبينما كنتُ غارقةً في حزني على هذا المصيرِ الواضح، جاءت من كانت بانتظاري.
إنّها تولا ديلوتا ، مُربيتي رافقتني إلى القصر بعد وفاةِ والديَّ وأنا في الثانية، وها هي الآن ترافقني مجددًا إلى الإمبراطورية.
“هل نذهبُ الآن؟”
حدَّقتُ طويلًا في وجهِ الفتاةِ التي ابتسمت لي بلُطف.
قالت تولا إنّني أُذكِّرها بابنتِها التي وُلِدت ثم ماتت فورًا بعد الولادة، وقالت إنّني كأنّي ابنتُها.
لكنّها لم تكُن الوحيدة التي ترى ابنتَها فيّ فأنا أيضًا رأيتُ ابنتي فيها تلك التي اضطررتُ لتركِها والموت، ابنتي التي جمعتْ جثّتي بيديها بعد انتحاري، والتي فَقَدَت كلَّ عائلتِها وهي لم تزل في العشرين.
وكما تشابهَ قدري مع بلانش في طفولتها، كذلك تتشابهُ تولا مع ابنتي الراحلة — ليس في العمرِ فقط، بل في أنّ كلتيهما تُعاني بسببي.
سواء كبايك ريون التي اختارت الموتَ لتحمي ابنتها، أو كـبلانش التي فقدت والديها وهي في الثانية، فإنّ قلبي لا يسعُ إلا أن يحنّ إلى هذه الفتاة.
ولأنّ قلبي يَضعف أمامها، لا أستطيعُ أن أنهي حياتي الثانية التي لم أطلبْها لا أعلم ما الذي سيؤول إليه مصيرها إن أنا متُّ وتركْتُها.
“تولا.”
ولذا، قبل الرحيل في هذه الرحلة الطويلة، قطعتُ وعدًا واحدًا.
“نعم، يا أميرة.”
“أنا سأحميك …”
كلماتٌ لم أستطع قولَها لابنتي من قبل.
في حياتي السابقة، كنتُ أملكُ من السلطة ما يُسقِطُ الطيورَ من السماء، ومع ذلك لم أستطع حمايةَ ابنتي إلا بالموت.
لكن إذا قلبنا الأمر، فهذا يعني أنّني مهما كانت الظروفُ سيئة، أستطيعُ على الأقل حمايةَ شخصٍ واحدٍ بكلِّ ما أملكُ من عزيمة ولو لم أكن في القمّة هذه المرّة، ولو لم أُظهر سوى عُشرِ قدراتي، فإنْ عزمتُ على حمايةِ أحدهم بروحي، فذلك ممكن.
لذا قرّرتُ أن أفعل ذلك في هذه الحياة، لن أكرّس نفسي لمؤامراتٍ ومجاملاتٍ كما في الماضي، بل سأعيشُ فقط بما يكفيني لأحمي نفسي… ولأحمي هذه الفتاة التي ليست ابنتي بالدم، لكنها التي ربّتني وستمضي معي بين الحياة والموت.
“نعم؟”
نظرت إليَّ تولا بعينين واسعتين، وكأنها لم تفهمْ سببَ هذه الكلمات الجادّة.
ولمّا لم أكن أنتظرُ منها فهمًا، مددتُ يديَّ الصغيرة نحوها.
“هيا نذهب، إنّهم بانتظارنا.”
وكما اعتادتْ أن تتجاهلَ همساتي التي تظنُّها تمتماتِ طفل، ابتسمتْ وحملتني بين ذراعيها.
“هل آخذُ هذا الكتابَ أيضًا؟”
نظرتُ إلى الكتاب ذي الغلاف الجلديّ الفخم الذي يحوي سيرتي الذاتية السابقة، ثم هززتُ رأسي نافيةً.
“لا داعي.”
فقد عرفتُ كيف انتهت قصّتي، وما كُتِبَ فيها لم يكُن الحقيقة على أيّ حال.
***
كانت الرحلة إلى إمبراطورية ريتايل طويلة كانت المسافة في الأصل بعيدة، ولكن بسبب حالتي لم يكن بالإمكان الإسراع في السير، فازدادت الرحلة بطئًا وطولًا.
لذا، خلال ذلك الوقت، خططت بهدوء لما سأفعله بعد وصولي إلى الإمبراطورية فلم يكن أمامي ما أقوم به سوى أن أتنقل بعربة، ولهذا كان لدي الكثير من الوقت للتفكير.
“قالوا إن القادمين كُثُر، أليس كذلك؟ إذًا، هل سيكون لي مكان هناك؟”
في المقام الأول، لم أكن أنا الوحيدة المرسلة إلى الإمبراطورية كرهينة هذه المرة.
ففي العام الماضي، تولى إمبراطور جديد عرش ريتايل ومع ذلك، طلب من جميع ممالك القارة أن يرسلوا إليه ما أسماه مبعوثي السلام
وكان من أخبرني أن مثل هذا الطلب قد أُرسل حتى إلى مملكة كاردين، مما جعل الأجواء بين البلدين متوترة لفترة، هو سائق العربة نفسه.
حين استخدمت أسلوبي اللطيف الذي تعلمته في القصر الملكي خلال العام الماضي وسألت الطباخة، انفجرت ضاحكة
“يُقال إن القصر الإمبراطوري واسع للغاية، لا بد أن هناك متسعًا لمن هي صغيرة مثل سموّ الأميرة.”
إذن، هذا يعني أنهم لم يبنوا مباني جديدة خصيصًا من أجل المبعوثين فلو كانوا قد شيّدوا أبنية جديدة لاستضافة الوافدين من كل أنحاء القارة، لانتشرت الأخبار بالتأكيد.
إذًا، من المحتمل جدًا أن أُضطر لتقاسم المبنى مع آخرين فحتى وإن كانت مساحة القصر كبيرة، فمن غير المعقول أن يحتوي على عشرات المباني المنفصلة.
وبذلك، لن يكون بإمكاني اختيار حياة الهدوء والتواري عن الأنظار فالذين سيشاركونني نفس القصر لن ينسوا وجودي أبدًا ولو حاولت العيش بهدوء، فسوف أتعرض للمضايقة لا محالة.
في هذه الحالة، الخيار الذي يجب أن أختاره هو…
“أليست الرحلة شاقة عليك يا سموّ الأميرة؟ يقولون إننا سنصل خلال يومين فقط، فاصبري قليلًا.”
تسلل صوتٌ إلى أفكاري المشتتة، فالتفتُّ لأرى تولا تنظر إليّ بقلق خشية أن أكون متعبة من طول الرحلة.
“حقًا؟”
“نعم بعد أن نصل وتقومين بمقابلة جلالة الإمبراطور، يُقال إنه يمكنك الراحة بقدر ما تشائين.”
أن يُستقبل أحد بلقاء الإمبراطور فور وصوله بعد رحلة طويلة مرهقة — بالنسبة لمعظم الناس سيكون أمرًا مرعبًا وصادمًا لكن بالنسبة لي، كان ذلك على العكس تمامًا… فرصة.
“هذا جيد.”
إن لم أستطع أن أعيش كما لو أني غير موجودة، فعليّ إذًا أن أُظهر أني لست سهلة المنال.
غير أن السؤال هو: كيف يمكن لأميرة صغيرة، لا يتجاوز عمرها ثلاث سنوات، ومن مملكة ضعيفة بالكاد ما زالت واقفة، أن تترك مثل هذا الانطباع؟
التعليقات لهذا الفصل " 2"