كان تشونغ نُغ ما يزال يُصغي إليها، والكأس مرفوع إلى شفتيه تابعت بايك ريون كلامها متقطّعًا، كأنها ترتّب أفكارها بصوتٍ مسموع.
“كما قلتَ يا مولاي… لعلّه لم يعد هناك داعٍ لهذا بعد الآن ربما يكفي أن نقيم مأدبةً عاديةً فحسب غير أنني… لا أُجيد مثل تلك الأمور…”
لكن ما هي المأدبة العادية يا تُرى؟ لم يسبق لـبايك ريون أن استرخت في مأدبةٍ لأحدٍ غيرها لم تُظهر يومًا مظهرًا مُترنّحًا بفعل الخمر، ولم ترتكب خطأً واحدًا.
لقد كان لزامًا على لي بايك ريون أن تكون إنسانةً كاملةً دومًا — كانت وريثةً من فرعٍ جانبي، ثم أصبحت سيدةَ البيت، ثم وزيرةً عند خصومٍ يترصّدونها من كلّ صوب وهكذا عاشت عشرات السنين دون أن تسمح بوجود أدنى شائبةٍ في حياتها.
ولذلك، لم تعد تعرف كيف تتصرّف حين لا تكون كاملة.
“أما زلتِ لا تنوين تعلّم ذلك… من الآن فصاعدًا؟”
أي ألا ترغبين أن تتوقّفي عن الكمال قليلًا، أن تُرخِي كتفيك وتعيشي بارتياح؟ فاليوم لم يَعُد هناك من يشكّ بكِ الجميع سينحنون لك ويخضعون لأمرك.
ابتسمت بايك ريون بهدوء لم يكن ما قاله تشونغ نغ سوى نصف ما أراد قوله، لكنها فهمت النصف الآخر أيضًا، الكلمات التي لم يَنطق بها.
لقد جعلها الزمنُ الذي جمع بينهما قادرةً على إدراك ذلك.
“مولاي.”
“أنا أُصغي إليك.”
“يمكن تعلّم الطريقة، ولكن تنفيذها أمرٌ آخر… إنني لا أستطيع التوقّف عن هذا.”
“أهكذا هو الأمر إذن.”
تنفّس تشونغ نُغ تنهيدةً امتزج فيها التعب بالهدوء، ومع ذلك ظلّ صوته لطيفًا ورقيقًا.
“إذن لا حيلة لنا.”
وبنظرةٍ رقيقةٍ تُناسب نبرته، نظر إليها
“عليكِ إذًا أن تواصلي حضور هذه المآدب المملّة.”
لقد كان تشونغ نُغ يتمنّى أن تحيا بايك ريون حياةً أكثر راحة بعد أن نالت اعتراف الجميع وبلغت منزلةً لا تهتزّ.
ولكن إن لم تستطع ذلك، أو لم ترغب في فعله، فلا بدّ إذًا أن أُعينها على تحمّل هذه الحياة الثقيلة الشاقّة كي لا يجرؤ أحدٌ بعد الآن، ولا في المستقبل، على معاداة بايك ريون .
سأبتكر لها لقبًا لم يُوجَد من قبل، وأصنع لها بحيرةً من الخمر.
“إنّ نعمَ مولاي تُظلّل السماوات والأرض.”
قالت ذلك الجنرال الأولى للإمبراطورية بابتسامةٍ وادعة، وقد أدّت انحناءةً تامّةً لا تشوبها شائبة.
***
“سموّ الأميرة، لقد انتهت الاستعدادات هل تودّين إلقاء نظرة؟”
فتحتُ عينيّ ببطء، فتبدّدت خيوطُ حلمٍ باهتٍ كانت تتلاشى مبتعدةً كأنها تنزلق من بين أصابعي.
لماذا لا تزورني في الأحلام إلا الذكريات الجميلة؟ تلك التي أعلم أنها لن تعود أبدًا.
“حسنًا، دعينا نرى .”
كتمتُ رغبتي في الاستسلام لتلك المشاعر، وفركتُ عينيّ بذراعيّ القصيرتين.
في الأحوال العادية، كانت تولا ستقترب مني فورًا، وقد يرتسم القلق على وجهها، لتضمّ وجهي بين كفّيها وتسألني: “هل أنتِ بخير، يا سموّ الأميرة؟”
لكنها اليوم كانت واقفة على بُعد ثلاث خطواتٍ مني، منتصبة القامة، لا تتحرك قيد أنملة.
حتى لقبها لي كان رسميًّا تمامًا سموّ الأميرة جيد، يبدو أن تولا قد أعدّت نفسها تمامًا تفقدتُ قاعة الحفل والمطبخ معًا.
لم أترك شيئًا دون مراجعة — الخدم المصطفّين في صفَّين، أغطية الطاولات، المزهريات والزهور، أوراق الشاي، الأباريق وأدوات الشاي.
بل حتى أوراق الشاي نفسها أُخرجت من علبها ليتأكّدوا من خلوّها من أي شوائب كان فحصًا مفرطًا في الدقّة، إلى حدٍّ يكاد يلامس الهوس.
بعد أن انتهيتُ من التأكد من كل شيء، نظرتُ إلى الساعة الثالثة وعشرون دقيقة بقي أربعون دقيقة على موعد بدء حفلة الشاي كما كُتب في بطاقات الدعوة.
الآن سأبدّل ثيابي، وبينما أفعل ذلك سيتفقدون إن كان قد تغيّر أي شيء أثناء انشغالي.
ثم سيحين وقت وصول الضيوف شيئًا فشيئًا استدرتُ نحو تولا ومددتُ يديّ الاثنتين إليها.
“لنذهب ونبدّل الملابس.”
“حسنًا، سموّ الأميرة سأقوم بخدمتك.”
رفعتني تولا بين ذراعيها بوجهٍ خالٍ من الابتسامة.
***
كان جميع المشاركين في حفلة الشاي مدهشين بحق بدءًا من الدوق راندولف، منظم الحفلة، مرورًا بملكي صِدَق، ووصولًا إلى آنسة من أسرة دوقية، وحفيد أحد اللوردات الحدوديّين، وأخ دوق الشمال، وغيرهم.
في الظروف العادية، ما كانت الخادمة إيلا لتحظى حتى بفرصة رؤية مثل هؤلاء النبلاء العظام ولو من بعيد، لكنها هذه المرة لم تشعر بأي توتر، إذ لم يبقَ في داخلها ما يكفي من الإحساس لتشعر به أساسًا.
“لقد وصل صاحب السمو الدوق راندولف.”
“لقد وصلت آنسة الدوق مارتينا.”
“لقد وصل نجل الماركيز أَرغَان.”
لم يكن الصوت عاليًا أو خفيفًا أكثر مما ينبغي لا يُسمح بالنظر مباشرة في أعين أولئك النبلاء يجب أن يكون الظهر منتصبًا تمامًا، وأن تتحرك اليد فقط من المعصم لا أكثر.
تمامًا كما لُقّنت وأُرهِقت بالتدريب خلال الأسبوعين الماضيين، كانت إيلا تتحرك كآلة وهي تتحقق من قائمة المدعوين.
وبعد أن دخلت كل الأسماء في القائمة إلى الداخل وأُغلِق باب غرفة الاستقبال، ظلّ ظهر إيلا منتصبًا كما هو.
أما الأطفال الذين دخلوا غرفة الاستقبال، فلم يلقوا نظرة واحدة على اللوحات الجدارية أو المنسوجات المعلقة فيها.
ليس لأنهم لم يعرفوا جمالها، بل لأنهم أرادوا فرض هيبتهم منذ البداية.
فلو أبدوا إعجابًا صادقًا بما أعدّته بلانش، لكان ذلك اعترافًا ضمنيًا بقدرتها.
“(مرحبًا بقدومكم جميعًا).”
خلافًا لإيلا التي كانت تراجع قائمة الأسماء، التقت بلانش أنظار كل الداخلين وهي ترحب بهم، فاستقرت أنظار الأطفال عليها فورًا.
لم يكن زيّ بلانش مواكبًا لأحدث صيحات الموضة، لكنه كان متقن التفاصيل.
أكمام مكسوّة بالكشكشة تصل إلى ظاهر اليد، وأزرار مغلقة حتى العنق، وغطاء رأس مزين بالدانتيل.
ولو كانت طفلة عادية، لكانت أفسدت ملابسها خلال خمس دقائق من ارتدائها، لكن بلانش جلست بثبات تام، كأنها دمية حقيقية، دون تجعيدة واحدة في ثوبها.
ولو وُجد بين الحاضرين بالغ ربّى طفلًا من قبل، لشعر بالقشعريرة من مدى كمال مظهرها، لكن الموجودين لم يكونوا سوى أطفال تتراوح أعمارهم بين الخامسة والسابعة.
لذا لم يدركوا غرابة هدوئها الشديد، وبدلًا من ذلك بدأوا في استفزازها.
“ألستِ تشعرين بالحرّ؟ بهذا الطقس؟”
وكانت سخرية من تصميم فستانها المغلق عند العنق، ومن كونها قد أغلقت أزراره كلها حتى النهاية.
“صحيح، ثم إنّ هذا الطراز… يبدو قديمًا قليلًا، أليس كذلك؟ لو أنك أظهرتِ عنقك لكان أنسب لهذا الجو.”
سخرية أخرى من كونها متخلّفة عن الموضة.
“يا إلهي، كيف تقولين هذا أمامها؟! آنسة بلانش جاءت حديثًا من مملكة لاموريه، من الطبيعي ألا تعرف موضة هذه البلاد.”
وكانت تلك في الواقع سخرية مقنّعة، تذكيرًا بأنها مجرد رهينة من بلد آخرووهذا كان متوقعًا تمامًا، فكل من حضر الحفلة كان يضمر الكره لبلانش منذ البداية.
والسبب بسيط كلّهم كانوا مرشحين في وقتٍ ما ليكونوا أصدقاء اللعب لميلتشزيدك
إذ كان بيركن ، الذي أراد أن يجد ميلتشزيدك صديقًا من عمره، قد دعا كل الأطفال من الأسر الرفيعة إلى لقاءات معه لكن ميلتشزيدك رفضهم جميعًا بحجج مختلفة.
لذلك، عندما علم هؤلاء الأطفال أن أميرة من مملكة ضعيفة قد أخذت مكانهم، كان من الطبيعي أن يمتلئوا بالحقد.
“يُقال إنّ العاقل يتّبع تعاليم الحكماء، بينما الأحمق ينساها.”
رغم السخرية اللاذعة التي استقبلت بها، ظلت بلانش هادئة.
بدلًا من أن تدمع عيناها، نطقت بلسان ثقيل وحروف متعثرة بمثلٍ صعبة الفهم.
كان الكلام طويلًا ومعقدًا، ونطقها غير واضح، حتى إن الأطفال لم يفهموا ما قالته جيدًا، فلم يعرفوا كيف يردّون.
(حسنًا، فلنبدأ إذًا من فضلكم، من هذا الجانب.)
وهذا بالضبط ما كانت تريده بلانش فهي لم ترغب في الدخول في جدال، بل في إسكاتهم فحسب.
لذا غيّرت الموضوع قبل أن يدركوا المعنى.
ولم يدرك الأطفال أنها في الواقع وصفتهم بالحمقى الذين لا يعرفون التقاليد إلا بعد أن جلسوا.
لكن بعد فوات الأوان، إذ إنّ محاولة الردّ الآن لن تؤدي إلا إلى إظهارهم بمظهر الأغبياء.
فاضطروا إلى الجلوس بوجوه متجهمة، مترقبين فرصة أخرى لالتقاط خطأ عليها.
أما إيلا، التي كانت مكلفة فقط بالتحقق من قائمة الضيوف بصفتها مسؤولة المطبخ، فقد بقيت خارج المهمة الصعبة.
بينما أُسندت المهمة الأثقل إلى ستيلا، المسؤولة عن التنظيف، إذ تم تعيينها لخدمة الشاي.
في العادة، لا يُستخدم الخدم أو الخادمات في حفلات الشاي التي يحضرها نبلاء بهذا المستوى؛ بل يستعان بخدم من عائلات نبيلة فقيرة أو من أشخاص ذوي نسب أرستقراطي متدنٍّ.
لكن بلانش، رغم كونها صديقة اللعب المقررة للدوق الصغير، لم يكن لديها نفوذ بعد في الإمبراطورية يخولها استخدام خدم من الطبقة النبيلة.
لذلك أجبرت خدمها من العامة على بلوغ مستوى الأرستقراطيين في الخدمة خلال أسبوعين فقط.
فكان طاقم المطبخ مسؤولًا عن إعداد الشاي والحلويات قبل الحفلة، بينما استُخدم طاقم التنظيف كخدم لتقديم الشاي أثناءها.
وبذلك اضطرت ستيلا لتأدية عمل لم يكن في حياتها لتحلم بتجربته.
وبما أن الضيوف، رغم مكانتهم، لم يكونوا سوى أطفال، فقد اقتصر الشاي على أعشاب خفيفة، والحلوى على الفواكه.
( الشاي.)
بإشارة من بلانش، اقترب الخدم لتقديم الشاي.
كان المعتاد في مثل هذه الحفلات أن يُحضَّر الشاي أمام الضيوف مباشرة لضبط وقت النقع بدقة، لكن بلانش اختارت الطريقة القديمة، مما بدا غريبًا بعض الشيء.
ارتشف الأطفال أول جرعة من الشاي، ثم استأنفوا هجومهم الذي فشل سابقًا.
“لا توجد حتى شريحة ليمون واحدة.”
وكانت أول من أطلقت شرارة الهجوم آنسة الدوق مارتينا.
التعليقات لهذا الفصل " 18"