لست اعلم إن كان شفائي بفضل الطبيب الذي أرسلته الإمبراطورة، أم أن الوقت كان كفيلاً بأن يشفي جسدي من تلقاء نفسه، لكن آثار السم لم تدم أكثر من ثلاثة أيام.
“لحسن الحظ أنك تعافيتِي سريعاً.”
ربما لهذا السبب، لم يظهر الدوق — الذي كان قد أرسل إليّ جبلاً من الزهور — إلا بعد أن نهضت من فراش المرض.
“ذلك بفضل اهتمامكم بي.”
وبعد أن قلتها مجاملة، أجاب هو أيضاً بكلام مجامل على ذات النحو، فما كان مني إلا أن تذكرت أمراً يستدعي بدوره مجاملة أخرى.
“لقد أستلمت الزهور التي أرسلتها أشكرك كثيراً.”
“آه، تلك الزهور؟ لا تُشغلي بالك، كانت مجرد مظهرٍ شكلي لا أكثر.”
لو كان الأمر مجرد استعراض، ليته اختار طريقة أبسط من إرسال كومةٍ كهذه من الزهور، لكن لم يكن من اللائق أن أقول شيئاً كهذا لطفل في الخامسة من عمره، فاكتفيت بالصمت.
“لا تفعلي هذا الوجه، لو لم تكن زوجة أخي قد تدخلت، لتولّيت أنا معالجة الأمر لاحقاً.”
يبدو أن عضلات وجهي تعمل بطريقةٍ غريبة، فلا تظهر عليها علامات الضيق مهما حاولت، بينما تنكشف المشاعر التي أريد إخفاءها بسهولة تامة.
فتظاهرت بأنني لم أكن أنوي إخفاء شيء منذ البداية، وقلت بنبرةٍ طبيعية
“وهل كان ذلك أيضاً مجرد مظهرٍ شكلي؟”
“إن شئتِ، فاعتبريه كذلك.”
قال الدوق وهو يرفع كتفيه بخفة.
“كنت أعتزم أن أجعل من تلك الحادثة ذريعةً لإرسال بعض الخدم إلى جانبك.”
“آه…”
العمالة هذا ما كنت في أمسّ الحاجة إليه، وهو بالضبط ما قدمته لي الإمبراطورة.
لكن كيف علم الدوق بذلك؟ لم يزر جناحي قط، فكيف عرف؟
“كنت على علمٍ بذلك؟”
“يكفي النظر إلى جدول توزيع الخدم لمعرفة ذلك، فالعدد قليل جداً بالنسبة إلى حجم الجناح.”
حين اتسعت عيناي دهشةً، لوّح الدوق بيده بخفة.
إنها حركة لا تليق بطفلٍ في الخامسة، لكن أفعاله كلّها لا تليق بطفلٍ في هذا العمر أصلاً.
أي طفل في الخامسة يطّلع على جداول توزيع الخدم؟ وهو ليس حتى من يتولى شؤون القصر الداخلية!
“على كل حال، زوجة أخي لا تجيد الأمور الدقيقة كإدارة القصر… لذا تتولى والدتي العناية بها صادف أنني رأيت الجدول أثناء زيارتي لها.”
نادراً ما سمعت تصريحاً يحمل كل هذا القدر من الريبة.
هل يُعقل فعلاً أن تتنازل الإمبراطورة عن إدارة القصر — التي تُعد من صلاحياتها الأساسية — لمجرد أنها لا تجيد الأمور الدقيقة؟
وفوق ذلك، هل يُمكن أن يصادف أن يرى جدول توزيع الخدم أثناء زيارةٍ عابرة؟
العبارة الوحيدة التي بدت قابلة للتصديق هي أن الإمبراطورة الأرملة هي من تدير القصر فعلاً.
“هكذا إذن…”
يبدو أن الدوق شعر بما امتلأت به نبرتي من شك، لكنه لم يُبدِ انزعاجاً أو محاولة لتبرير نفسه — ربما لأنه هو نفسه أدرك أن حديثه مثيرٌ للريبة.
“على أي حال، لهذا السبب فكرت أنه يجب إضافة خدمٍ آخرين لكن إعطاءك إياهم مباشرة لا يبدو تصرفاً… طفولياً، أليس كذلك؟”
إذن، هو اطلع على جدول توزيع الخدم، ثم رأى أنني بحاجةٍ لمزيدٍ من العاملين، فاختلق ذريعةً عبر إرسال كميةٍ مبالغٍ فيها من الزهور، حتى إذا بدوت عاجزةً عن التعامل معها، يتمكن من استخدام ذلك كمبررٍ لإرسال المزيد من الخدم؟
يا الهي! بل إن قول: صادف أن رأيت الجدول، وبدوتِ بحاجةٍ للمساعدة، فقررت زيادة عدد العاملين
يبدو أكثر عفوية وطفولية من خطته تلك.
“لذلك كنت بحاجة إلى ذريعة على أية حال، لا تقلقي، فلن أثير أمراً أعجز عن معالجته.”
هل يولد المرء بمهارةٍ كهذه؟ لقد بقيتُ أحدّق فيه مبهوتة.
حتى جلالته — الذي كان بارعاً في مثل هذه الأمور — لا أظنه كان بهذه الدقة حين كان في الخامسة من عمره.
وأنا التي لم أعد قادرة حتى على مجاملةٍ أو تمثيل، نظر إليّ الدوق بهدوء وكأن شيئاً لم يحدث، ثم غيّر موضوع الحديث.
“تلك الزهور كانت مجرد وسيلة فحسب الهدية الحقيقية هي قصر جاسبر الذي ستنتقلين إليه قريباً لقد خصصت له خمسة من البستانيين، لذا أضمن لك أنه سيكون في غاية الجمال.”
……هل كنت قد قلت إنني أريد أن أُدفن وسط الزهور لا أن تُهدى إليّ فحسب؟ ما الذي يدفعه إلى هذا الحد من المبالغة
ترددت قليلاً في أن أوضح له أنني في الواقع أفضل الأجواء الهادئة البسيطة، لكن سرعان ما أدركت أن لا فائدة من ذلك.
“وهل كان ذلك أيضاً بتوجيهٍ من جلالة الإمبراطورة الأرملة؟”
“استعنت بقوتها فحسب.”
إجابته الصريحة دفعتني لطرح سؤالٍ آخر
“يبدو أن علاقتكما وثيقة جداً هل إقامتك في القصر بسبب جلالة الإمبراطورة الأرملة؟”
أعترف، كان هذا سؤالاً ساذجاً — محاولة مكشوفة لاختبار ما إذا كانت استنتاجاتي من حديث الإمبراطورة صحيحة، من خلال معرفة ما يقوله هو.
لكنني تعمدت أن أجعلها مكشوفة، لأنني أدركت بعد حديثه السابق أن الإفراط في الحذر سيجعله أقل طفولية فإظهار بعض السذاجة سيجعله يبدو مجرد طفلٍ ذكي لا أكثر.
ويبدو أنه فكّر بالطريقة نفسها، إذ لم يُبدِ أي حذر، بل ابتسم ابتسامة خفيفة.
“كلا، بقائي في القصر ليس بسبب والدتي، بل بسبب أخي.”
ثم لمعت عيناه بمكرٍ طفولي وهو يحدّق بي مباشرةً
“ألم تُخبِركِ زوجة أخي بذلك؟”
كانت تلك الجملة التي قالها اختبارًا لي، ليرى إن كانت الإمبراطورة قد سرّبت إليّ شيئًا من المعلومات وسؤاله كان واضحًا أنه محاولة لجسّ النبض، غير أنه كان كافيًا لخداع طفل في الثالثة من عمره، وإن بدا أذكى قليلًا من أقرانه.
لذلك تظاهرتُ بأنني لم أفهم أنها محاولة لاختباري نعم، هو كابني تمامًا.
” وأنا كأبن لشقيقي وزوجته فالوالدان لا يمكن أن يعيشا بعيدًا عن ابنهما، أليس كذلك؟”
كنتُ أفهم تمامًا ما يقصده، ومع ذلك كان شعورًا غريبًا أن أسمع تشبيه والديه بأخيه الأكبر وزوجته، لا سيما وأن والدته لا تزال على قيد الحياة.
ربما كان ذلك لأنني… كنت أستطيع أن أفهم الموقف تمامًا لقد كنتُ في زمنٍ مضى عبقريًه تفقه ما يدور في عقول الكبار، ويتوق إلى نيل رضا من كانوا بمنزلة الوالدين بالنسبة إليه.
لكن ذلك كان قبل نصف قرن وأنا الآن لست في وضعٍ يسمح لي بأن أستغرق في ذكرياتٍ من ذلك الزمن البعيد.
لهذا ركّزت على المعلومات التي حصلت عليها بدلًا من مشاعري تجاه الدوق.
تبيّن لي أن الدوق، وإن لم يُلقَّب رسميًا بـولي العهد الثاني إلا أنه في الحقيقة وريث العرش المنتظر فبقاؤه في القصر الإمبراطوري بدلًا من ذهابه إلى دوقية عائلته دليل كافٍ على ذلك.
ومع ذلك، لم يُمنح لقب ولي العهد، بل مُنح لقب الدوق الأكبر، في حين أن الإمبراطورة لم تتولَّ إدارة شؤون القصر الداخلي كما يحقّ لها، لأن من تتولى ذلك الآن هي الإمبراطورة الأرملة.
يا لها من تركيبة عائلية لا أودّ الاقتراب منها أبدًا لا يوجد في هذا البيت أي شيء يمكن وصفه بـالطبيعي.
“ما رأيك؟ هل زال فضولك الآن؟”
لم تكن المعلومات سارّة تمامًا، لكنها كانت ضرورية لذلك انحنيت شاكرةً له بأدب
“نعم، أشكرك جزيل الشكر.”
“حقًا؟”
كان ذلك غريبًا، فقد قلتُ عبارات الشكر المجاملة هذه عشرات المرات من قبل، فلماذا يسأل الآن تحديدًا؟
“نعم، حقًا.”
“إذن، هل يمكنكِ أن تُقيمي حفلة شاي صغيرة تقدمين فيها نفسكِ للآخرين؟”
“أنا بنفسي؟”
تفاجأت لأمرين: أولًا لأنه طلب أن أُقيم الحفلة بنفسي، وثانيًا للطريقة التي طرح بها الأمر.
لو أراد أن يُجبرني على تنظيم الحفلة، كان يكفيه أن يأمرني بذلك مباشرة، أو على الأقل أن يطلب من القصر أو كبير الخدم تنظيمها.
لقد قلتُ له كلمات شكر لا تُحصى، فلو أراد أن يطلب مقابلًا لها لاختار أمرًا أكثر أهمية من هذا.
لكنّه، بدلًا من ذلك، اختار أن يُحوّل ردي الصادق إلى اتفاقٍ صغير.
كان تصرفًا لا يليق لا بطفلٍ في الخامسة، ولا بشخصٍ في مكانته الرفيعة ومع أنه لا يبدو أنه يروق له أمري كثيرًا، فإن تصرفه هذا كان مفاجئًا حقًا.
“الأمر بسيط لو كان الهدف مجرد التعريف بك، لكانت زوجة شقيقي تكفّلت بكل شيء لكن الحفلة ستكون في قصر جاسبر، وسيحضرها الجميع، فهي أيضًا مناسبة لإعلان أنكِ ستقيمين هناك من الآن فصاعدًا.”
يا لها من خطوة صريحة شخص من خارج الإمبراطورية مثلي، ومع ذلك يُنظَّم له حفل رسمي ليُعلنوا أين سيعيش؟ من الواضح أن وراء الأمر دوافع شخصية قوية لا يمكن أن يكون الدوق هو من دبّر هذا بنفسه، فهل كانت الإمبراطورة؟ أم الإمبراطورة الأرملة التي تُدير شؤون القصر؟
“نعم، فهمت.”
أومأت وأنا أعلم تمامًا ما وراء هذه الدعوة، لكنني قبلتُها الرفض لن يغيّر شيئًا، كما أنها ستكون فرصة جيدة لأُدرّب تولا على تنظيم الحفلات الرسمية صحيح أنني في حياتي السابقة كنتُ أنسّق الولائم لا أُنظّمها، لكن في النهاية، أساس الضيافة واحد.
“سنختار نحن قائمة الضيوف كلهم من أبناء جيلي الذين لم يدخلوا بعد المجتمع الراقي، فلا تقلقي كثيرًا.”
أطفال إذن… من ناحيتي، الأطفال العاطفيون أصعب من الكبار المتحكمين بأنفسهم، لكن لا بأسرالهدف هنا تدريب تولا لا تكوين صداقات.
“نعم.”
“على أي حال، التفاصيل سنتحدث عنها بعد انتقالكِ إلى القصر الجديد أردت فقط أن أُعطيكِ فكرة مسبقة لتستعدّي نفسيًا.”
“شكرًا لاهتمامك.”
ذلك الاهتمام كان بالضبط ما كانت تولا ستشكره عليه لاحقًا — إذ ستبدأ من اليوم تدريبًا صارمًا في فن تنظيم الحفلات والاستقبال.
التعليقات لهذا الفصل " 15"