لكن بما أنه لم يطلب منها أحد أن تراهن على شيء، رأت أنه لا داعي للمخاطرة بمعصمها الثمين، فاكتفت بابتسامة باهتة متكلفة.
“هاهاها…”
“آه، صحيح بالمناسبة، هل تعلمين أن من يصبح صديقًا للَدوق يُعامَل معاملة شبه الأُمراء؟”
كانت تعلم ذلك فقد أخبرها ميلتشزيدك بذلك عندما عرض عليها صداقة تعاقدية.
غير أن بلانش خافت من أن يزداد بريق عيني ليانا، اللامعتين أصلاً كالجواهر، حين تسمع هذا الكلام، فاختارت الكذب ببساطة.
“أه… حقًا؟”
“نعم ولهذا السبب، ستنتقلين إلى قصر آخر.”
كان هذا خبرًا سارًّا وسط سلسلة من التصريحات المقلقة.
فقد كانت منذ مدة تفكر أنه لو عرض عليها أحد معروفًا، لطلبت منه نقلها إلى قصر آخر لذلك كان هذا الخبر في غاية الروعة بالنسبة لها.
كانت تظن أن من حاول اغتيالها هي السيدة وِشيان، ابنة دوق شيبِتشا، التي كانت تشاركها قصر الزمرد، ولهذا كان من المزعج جدًا أن تقيم في القصر ذاته مع من اشتبهت بأنها حاولت قتلها.
“ومع انتقالك إلى قصر أكبر، سيزداد عدد العاملين أيضًا هل ستكونين بخير؟ سمعت أن الأطفال في مثل عمرك يميلون إلى الخجل من الغرباء.”
هل عمر الثلاث سنوات يُعَدُّ سنَّ الخجل من الناس؟ لم تكن تعلم فهي لا تذكر جيدًا حتى عندما كانت ابنتها في الثالثة من عمرها.
بل إنها في حياتها السابقة والحالية على السواء، لم تعش يومًا حياة مترفة إلى درجة أن يسمح لها وضعها بخجل أو حذر من الآخرين لقد عملت مع جنرالات الجيوش التي دمّرتها بنفسها، ومع من دمّروا نصف عائلتها أيضًا وهذا وحده كافٍ لتوضيح كل شيء.
ولهذا ركّزت على نقطة أخرى تمامًا: سيزداد عدد العاملين.
كان ذلك أمرًا مغريًا جدًا، إذ إنها كانت تبحث عن فرصة للتخلّص من بعض العاملين الحاليين ومع زيادة عدد الخدم، يمكنها إعادة توزيعهم بطريقة لا تُثير الشبهات، وبالتالي إقصاء الجواسيس بهدوء.
“نَعَم، لا باْس شكرًا لاهتمامك بي.”
جيد، لقد ضمنت مصلحةً عملية والآن حان الوقت لاستكشاف الغرض الحقيقي وراء هذه المجاملة فمن المستبعد أن يمنحوها قصرًا جديدًا ويزيدوا خدمها بلا مقابل.
وسرعان ما جاء الطُّعم
“لا داعي للشكر فأنتِ مثل العائلة بالنسبة لنا، ما دمتِ صديقةَ ملكي.”
ارتقت منزلتها من شبه أميرة إلى مثل العائلة في أقل من ثلاثين ثانية تصريح مشؤوم بحق.
العائلة؟
ما الذي قد يجعل الإمبراطورة وإحدى أميرات الممالك الصغيرة المخضعة تشعران بأنهما عائلة؟
بعض التفكير البسيط قادها إلى الجواب الواضح: زوجة الدوق الكبرى.
فلو كانت مرشحةً محتملة لتصبح دوقة كبرى عندها يُمكن فعلاً اعتبارها مثل العائلة في لحظة.
“العائلة؟ هذا شرف عظيم لا أستحقه.”
في الظروف العادية، لكان قلقها هذا مثيرًا للسخرية — أميرة من مملكة ضعيفة تقلق من احتمال زواجها بدوق إمبراطوري؟ بل فتاة ليست من السلالة الحاكمة الأصلية بل من فرعٍ تم تبنّيه فقط لتُقدَّم كرهينة؟
حتى لو حاول أحدهم تدبير مثل هذا الزواج، لكان الجميع حوله أوقفه فورًا أي في الحالة العادية… لولا فارق العمر بين الدوق والإمبراطور.
من وجهة نظرها، الإمبراطور والإمبراطورة في العشرين تقريبًا، بينما الدوق في الخامسة من عمره وكلاهما، الإمبراطور والدوق، أبناء للإمبراطورة الأم وليس للإمبراطور وزوجته أطفال بعد.
هذا يعني أن الدوق هو الوريث الأول حاليًا لكن حين يُرزق الإمبراطور بطفل، سيصبح هذا الطفل وريث العرش الشرعي، ويُعد الدوق حينها أكبر منافسٍ له.
وإن كان الإمبراطور وزوجته يشعران بالقلق حيال ذلك منذ الآن، فقد يرغبان في اتخاذ تدابير وقائية استعدادًا لما قد يحدث.
وأفضل وسيلة وقائية هي تزويج الدوق من فتاة بلا نفوذ — لإبعاده عن أي تحالفات قوية، وسلبه أقوى ورقة ضغط ممكنة الزواج السياسي.
وفي تلك الحالة، تكون بلانش مرشحة مثالية
مملكة لامور صغيرة وضعيفة، لكنها ذات تاريخ عريق، وبلانش تحمل دم العائلة المالكة فعلًا، حتى وإن كانت بالتبنّي من الفرع الجانبي.
نسبٌ نبيل دون سلطة تُذكَر — فرصة لا تُعوّض.
لكن ذلك شأن الكبار فقط… أما الدوق نفسه، فلن يرى الأمر بتلك الطريقة.
ولم تكن بلانش ترغب أبدًا بزوجٍ لا يرضى بها.
“تبدين قريبة جدًا من الدوق يا جلالة الإمبراطورة، أليس كذلك؟”
كانت ترغب في جسّ النبض إن كانت الإمبراطورة تقصد مجرد تعبيرٍ مجازي، فربما لا داعي للقلق.
لكن ردها لم يبدّد الشك، بل عزّزه
“صحيح أن بيننا فارق سن كبير، لذا أشعر نحوه كأنه ابني أكثر من كونه أخي الأصغر وُلد ملكي في الوقت ذاته تقريبًا الذي تزوّجنا فيه، ولهذا يبدو لي كابنٍ صغير.”
عبارةٌ جعلت يقين بلانشريترسّخ.
طفلٌ ليس ابناً حقيقيًّا لكنه مثل الابن — كانت تعرف جيدًا ما تعنيه تلك الكلمات.
لقد كانت لي بايك ريون في حياتها السابقة تُسمع الجملة ذاتها طوال طفولتها.
هؤلاء الذين يُوصفون بأنهم كالأبناء هم البدائل — أولئك الذين يُربَّون كورثةٍ مؤقتين إلى أن يُولد للبيت الحاكم ابنٌ حقيقيّ.
ما إن يولد الوريث الشرعي، حتى يُزاح الابن البديل بهدوء كما لو لم يكن موجودًا قط.
أجل، ذلك ما كانت الإمبراطورة تصفه بعد قليل أنهت حديثها، قائلةً إنها مرتبطة بموعد غداء، ثم نهضت من مقعدها.
“سأرسل إليك طبيبًا، فاعتني بنفسك جيدًا، يا عزيزتي.”
لامست أصابعها الصلبة من أثر العمل جبين بلانش، ثم مسحت خدّها بلطف، وابتسمت لها ابتسامة حنونة.
لكن حتى أكثر الناس لطفًا يمكن أن يصبحو قساة متى اقتضت الحاجة.
ولم يكن على بلانش أن تنظر بعيدًا لتتذكر ذلك — فهي نفسها، تلك التي قيل عنها إنها قادرة على العيش بلا قانون قد خانت في النهاية الجميع واختارت ابنتها وحدها.
الإنسان، عاجلًا أم آجلًا، يصل إلى لحظةٍ يصبح فيها قاسيًا على من حوله.
“شكرًا لقدومك يا جلالة الإمبراطورة.”
قالت بلانش مبتسمةً، مطأطئة الرأس.
خرجت الإمبراطورة من الغرفة، وسمعت بلانش صوتها من بعيد وهي تتحدث إلى تولّا عن زيادة الخدم.
عندها استلقت على جنبها وأسندت خدّها إلى الوسادة، غارقة في التفكير الأمر ليس عاجلًا فالبديل يبقى في مكانه إلى أن يتضح أنه لم يعُد هناك حاجة إليه.
بمعنى آخر، الخطر الحقيقي سيبدأ عندما يُولَد طفل الإمبراطور.
“أتمنى فقط أن يكون الدوق سعيدًا…”
لو ظلّ الإمبراطور وزوجته بلا أطفال، فسيبقى الدوق وريثًا للعرش، ولن يكون هناك ما يُقلقها.
ذلك سيكون السيناريو الأمثل — الدوق سعيد، وأنا سعيدة لكن المشكلة أن ترك مصيري للحظ ليس خيارًا حكيمًا.
“هل أنتِ بخير يا أميرة؟”
نظرت بلانش إلى تولّا، التي بدت وكأنها عادت لتفقّد حالتها بعد مغادرة الإمبراطورة.
“ما الخطب؟ هل تحتاجين شيئًا؟”
يا له من أمر مزعج.
لكي تستعد لما قد يحدث — سواء حدث أم لم يحدث، اليوم أو بعد سنوات — عليها أن تضع خططًا مفصلة لكل احتمال زمني.
صحيح أنه عمل مزعج، لكنه ليس مستحيلًا كانت قادرة على ذلك.
“هل أنتِ متعبة؟ كنتُ قد سمحتِ سابقًا بما طلبتِه، لكن هل كان عليّ أن أمنع الأمر؟”
إذًا، على تولّا أن تؤدي دورًا أساسيًا في هذه الخطط.
“تولّا.”
حاولت أن تجعل صوتها حازمًا قدر الإمكان، لكن يبدو أن حبالها الصوتية الطفولية لم تساعدها كثيرًا.
“نعم، يا أميرة ما الذي تأمرينني به؟”
ابتسمت تولّا برقة، دون أن تشعر بأي توتر، فأجبرت بلانش نفسها على فتح شفتيها بصعوبة لتلقي الأمر
“أريدكِ أن تنسخي كتاب الآداب ثلاث مرات بينما أرتاح.”
“…ماذا؟”
اهتزّت عينا تولّا في دهشةٍ بالغة.
صحيح أنها كانت تُعلّمها الآداب بنفسها منذ مدة، لكنها لم تطلب منها من قبل أن تدرس بمفردها لذا كان رد فعلها طبيعيًّا.
غير أن الأمر كان لا مفرّ منه فبعد عشر سنوات، ستكون بلانش في الثالثة عشرة فقط، وإن أرادت أن تستعد لذلك اليوم المجهول، فستحتاج إلى وجهٍ علنيٍّ يمثّلها — وليس هناك من يمكن الاعتماد عليه سوى تولّا، الوحيدة التي لم تَبع معلوماتها.
“سأتفقد ما كتبته لاحقًا.”
قالت بلانش لتضع الأمر موضع التنفيذ.
سيكون العبء ثقيلًا على تولّا مؤقتًا، لكن ما إن يُزاد عدد الخدم، سيخفّ الضغط عنها.
بهذا الأمل وحده، أغلقت بلانش عينيها مجددًا، مستلقيةً على سريرها.
***
كانت ليانا، التي سببت لـبلانش الكثير من القلق، تسير في الممر بخطواتٍ مفعمةٍ بالنشاط والبهجة.
لقد كان توقّع بلانش في محلّه تمامًا — إذ كانت ليانا ترى أن بلانش مناسبة جدًا لتكون زوجة لـميلتشزيدك غير أن ما أصابتْه بلانش لم يكن سوى النتيجة فحسب، أما السبب فكان مختلفًا تمامًا.
فليانا لم تكن تنوي استخدام بلانش لمراقبة ميلتشزيدك أو للحد من نفوذه كما ظنّت بلانش.
وعلى خلاف ما توهّمته بلانش من أن ليانا قد اطلعت على خلفيتها أو أصلها، فإن ليانا اتخذت قرارها بناءً على شخصية بلانش نفسها، بعد أن رأت كفاءتها.
لقد قدّرت فيها شجاعتها التي لم تتزعزع حتى أمامها، وقدرتها على التعامل مع خدمها القلائل بكرامة، وقبل كل شيء، سهولة تواصلها مع ميلتشزيدك نفسه وتقرّبها منه.
*حسنًا، حتى لو أعجبتُ بها، فالأمر في النهاية بيد ملكي لكن إرساله لها هدية بعد يومٍ واحد فقط من لقائهما… أليس في ذلك شيءٌ مميز؟*
صحيح أن فتى في الخامسة أهدى زهرة لطفلة في الثالثة، وهذا لا يصلح حقًا سببًا للحكم على مدى ملاءمتهما كزوجين، لكنّ صاحبة هذا التفكير كانت ليانا نفسها — تلك التي التقت بيركن وهي في الخامسة أيضًا، وانتهى بهما الأمر إلى الزواج.
وفوق ذلك، وبما أن النبلاء والعائلات الإمبراطورية اعتادوا عقد الخطوبات حتى قبل ولادة الأطفال أحيانًا، فقد رأت ليانا أن تزويج طفل في الخامسة من طفلة في الثالثة أمر طبيعي لا يثير الاستغراب.
حتى إن تمّت الخطوبة، فسيكون ذلك في المستقبل البعيد، لكن لا بد أن أُعلن عن نيّتي أولاً.
ولا شكّ أن كون بلانش مرشحة لدوقة كبرى تدعمها الإمبراطورة أفضل بكثير من أن تكون مجرد صديقة لعب عادية للدوق الصغير
وهكذا قررت ليانا أن تُعلن أمام الجميع ــ بدافع من النية الحسنة البحتة ــ أنها تنوي ترشيح بلانش لتكون الدوقة الكبرى المستقبلية.
ولو علمت بلانش بذلك، لأغمي عليها في الحال، وربما لم تستفق إلا بعد ثلاثة أيام
التعليقات لهذا الفصل " 14"