بالطبع، لم يمضِ عشر سنوات في ليلة واحدة، بل إن السمّ الذي ظننت أنني تخلّصت منه تمامًا عاد ليثير المتاعب.
فقد أصابتني الحمى طوال الليل حتى لم أعد أقوى على الحراك.
*إذن فليس من النوع الذي يتسرّب عبر الجلد لو كان كذلك، لظهرت الأعراض في وقت أبكر*
وهذا يعني أنّ كميةً ضئيلةً من السم ابتلعتها دون قصد أثناء تقيّئي هي التي سبّبت هذا كله يا للضعف المفرط حقًا.
في غمرة دهشتي، أدركتُ بعمقٍ الحالة التي آل إليها هذا الجسد مدى هشاشته وضعفه ومدى خطورة الوضع الذي وُضعت فيه بلانش.
كنتُ حتى الآن أتظاهر بأنّ الأمر لم يتغير كثيرًا، وأنّ ما حدث مجرد تعقيد طفيف في الوضع فحسب ففي حياتي السابقة أيضًا لم تكن أحوالي على ما يُرام.
في العدوّ، وفي شعوب البلاد التي أخضعتها، وفي رعيتي، وفي الحاشية، بل وحتى في زوجات الإمبراطور الأخريات، وأحيانًا في أبناء عائلتي نفسها — كان أعدائي أكثر من أن يُحصَوارلذا ظننت أن حياتي هذه لن تختلف كثيرًا.
لكنني كنت مخطئًا فـالي بايك ريون الحقيقية لم تكن لتسقط طريحة الفراش بسبب قطرةٍ واحدة من السمّ، بل ما كانت لتتعرّض أصلاً لمحاولة اغتيال ساذجة كهذه.
بمعنى آخر، وإن بقي ذهني كما كان، إلا أن الجسد قد تغيّر، ولم أعد تلك لي بايك ريون السابقة.
سخيفٌ حقًا، لكنني… لم أدرك ذلك إلا الآن.
قالت تولّا بصوتٍ قلق، وهي تضع يدها على جبيني وتنظر إليّ بوجهٍ يغمره الاضطراب
“هل أنتِ بخير، يا أميرة؟ ما الذي حدث لك…؟”
كان وجه تولّا مشبعًا بقلقٍ صادقٍ خالٍ من أي غرضٍ آخر لم يكن قلقها من أن يتعطل سير الأمور بسبب مرضي، ولا من أن يتأثر درع الحماية الذي تستخدمه، بل كان قلقًا موجّهًا إليّ أنا فقط
وجهٌ يحمل ملامح من يظن أنني أستحق القلق لذاتي، لا لكوني نافعة أو قوية.
آه… تُشبه يوهيون .
بعقلٍ أثقله الحُمّى، رأيت ملامح وجه آخر تتراكب على وجه تولّا
ابنتي.
آخر من تركتها خلفي، وآخر من حميتها حتى النهاية.
“ينبغي أن تتناولي شيئًا، يا أميرة هل بإمكانك تناول أي شيء؟ فاكهة؟ حساء؟”
لماذا يتحدث من يعتني بالمريض دائمًا بهذه الطريقة؟ حتى يوهيونرقالت الكلام ذاته ذات يوم لم أتمالك نفسي من الضحك رغم ألمي، فالموقف بدا سخيفًا للغاية.
نعم، يوهيون فعلت ذلك فعلًا في تلك النهاية الأخيرة، حين حسمت أمري وامتنعت عن الطعام.
حينها، لم يكن الطعام ذا أهمية بالنسبة لي و يوهيون كانت تعلم جيدًا أن بقائي حيّة لن يعود عليها بأي نفع لم يكن هناك أي داعٍ لأن تبذل جهدها لإطعامي.
ومع ذلك، كانت تقلق عليّ كانت تُعدّ العصيدة بنفسها وتقرّبها إلى فمي، ترجوني أن أتناول ولو لقمةً واحدة.
وكأن مجرد بقائي على قيد الحياة أمرٌ ذو قيمة وكأن حياتي أثمن من سلامتها هي.
لم أفهم يومًا لماذا كانت تفعل ذلك ألم تكن قيمتي كلها في قدرتي؟
إذا كان موتي سينقذها، فلمَ كانت تقلق عليّ إذن؟
لم أفهم ذلك أبدًا، لكنها كانت صادقة حقًا إلى درجة أنّني، رغم إدراكي أن الانتحار هو وسيلتي الوحيدة المتبقية، ترددتُ للحظة لأنني كنت قلقةً عليها.
والآن، تولّا تنظر إليّ بتلك العينين نفسهما.
“هل المنديل على جبينك باردٌ أكثر من اللازم؟ جربي أن تتناولي قليلًا فقط هيا، آه…”
المنشفة الباردة على جبيني، وحساء الدجاج، ونظرات القلق في عينيها… سألتها وأنا أنظر إليها تمسك الملعقة وتقرّبها مني
“(توا… )”
“نعم، يا أميرة.”
“(أتكرهين أن أكون مريضة؟)”
اتسعت عينا تولّا قليلًا، ثم انخفض طرفاها بحزن.
“سؤالك هذا بديهي، يا أميرة.”
نبرة صوتٍ مؤلمة، وعينان تبدوان كأن مجرد سماع هذا السؤال يوجعهما.
“أتمنى ألا تمرضي أبدًا لذا، أرجوكِ أن تتعافي بسرعة.”
^أتمنى ألا تمرضي، لذا استعيدي قوتك قليلًا، يا أمي.^
صوتها وعيناها ذكّراني بـيوهيون، فقلتُ
“إذن، سأحميكِ أنا.”
كنتُ في الأصل أنوي حماية كل الأطفال الذين يخدمونني، حتى أولئك الذين يسرّبون المعلومات لم يكن الأمر مجرد تغاضٍ مؤقت بسبب قلّة الأيدي، بل نيةً ثابتة بأنني سأحميهم حتى لو تحسّن حالي وازداد عدد الخدم.
كنت أعلم تمامًا لمن يُسرّبون المعلومات، وكنت قادرة على التحكم بما يصل إلى الخارج.
لكن بعد سقوطي مريضةً هذه المرة، تملّكني خوفٌ مفاجئ تذكّرت ذلك الوقت الذي لم أستطع فيه إنقاذ أحد سوى ابنتي، بعد أن تخلّيت عن كل شيء آخر.
خشيت أن أكرر الخطأ نفسه — أن أحتضن كل شيء، ثم أضطر في النهاية إلى التخلي عنه واحدًا تلو الآخر.
لذلك، فكرتُ أن أبدأ بتنظيم من حولي.
بأن أستغني عن جميع الأطفال من حولي… باستثناء تولّا.
***
“……يا أميرة؟”
لم يأتِ أي رد كان تنفّسها منتظمًا جلست تولّا في الغرفة الصامتة لحظة، تتأمل الكلمات التي سمعتها قبل قليل.
“أتكرهين أن أكون مريضة؟”
“إذن، سأحميكِ أنا.”
كانت كلماتٌ لا يُمكن فهمها على الإطلاق حماية؟ تولّا؟ من تُحمي؟
لم تكن تعرف حتى من المفترض أن تُحميه، لكن الغريب أكثر أن من قال هذه الكلمات كانت أميرة تبلغ من العمر ثلاث سنوات فقط، ومن استمعت لها هي، المربية، التي من المفترض أن تحمي الأميرة بحياتها.
ولا يوجد في هذا المكان أي شخص يهدد الأميرة أو نفسها، فكيف يمكن أن يكون هناك ما يستدعي الحماية؟
تولّا لم تستطع فهم الأمر مطلقًا وسمعت من الخادمات الأخريات أن الإمبراطورة ترى في الأميرة ما يستحق الرحمة والرعاية ووفقًا لما أخبرتها الأميرة به سرًا، فقد قابلت صاحب السمو الدوق الأكبر يوم أمس.
من منظور تولّا، بدا طريق الأميرة ممهدًا بالورود، لا يوجد ما يعيقها، فكيف يمكن أن تبدو الأميرة أمامها بهذا الجديّة والعزم، كأنها جنرال يستعد للمعركة…؟
“يا مربية! يا مربية! تعالي وانظري!”
قفز كتفا تولا بفزع من النداء الذي خفض صاحبه صوته كثيرًا خوفًا من أن تستيقظ الأميرة
“لقد وصلت هدية لصاحبة السمو الأميرة، تعالي وافحصيها.”
همست الخادمة التي فتحت الباب قليلاً بوجهٍ متحمس هدية نعم، بما أن الأميرة نائمة، يجب أن تتحقق هي من الأمر مسحت تولّا جبين الأميرة النائم ووقفت عن مكانها.
ربما كان خيالها فقط صحيح أن الأميرة ناضجة قليلًا، لكنها تبقى طفلة في الثالثة من عمرها ربما مزيج من نضجها مع منطق الأطفال الذي يفهمونه وحدهم جعل الأمر يبدو معقدًا لا شيء يدعو للقلق.
ربما كان مجرد هراء بسبب الحماسة أو التعب حاولت تولّا أن ترى الأمر بتفاؤل وهي تغادر الغرفة.
“هدية؟ من أرسلها؟ هل أرسلتها الإمبراطورة؟”
“لا! إنها من صاحب السمو الدوق الأكبر! لا أعلم كيف أصبحت تعرفه الأميرة، لكنها رائعة جدًا!”
صاحب السمو الدوق الأكبر؟ قالت الأميرة إنها قابلته بالأمس، واليوم وصلت الهدية بالفعل بلا شك، الأميرة محبوبة من الجميع في هذا العالم.
وبالفعل، كانت تستحق ذلك شعرها كالبدر، وبشرتها بيضاء كالثلج، وعيناها سوداوان كالليل.
كانت طفلة طيبة وهادئة جدًا، لم تتذمر يومًا من أي طعام، وشكلها الجميل كدمية خزفية ثمينة لم يكن من المستغرب أن يقع الكبار في حبها عند مقابلتها.
“حسنًا، لنرَ ما هذه الهدية.”
فتحت تولّا الباب بعقلٍ خفيف، تتصور أن تكون الهدية شيئًا يفرح طفلة في الثالثة من عمرها، ربما دمية أو زهور.
لكنها توقفت عن الحركة في اللحظة نفسها.
زهور، زهور، زهور… كل مكان تراه مغطّى بالزهور الحية.
“ما هذا…؟”
نوع الهدية كان متوقعًا، فالزهور من أسهل الخيارات لإهداء الأطفال، لكن المشكلة كانت في الكمية.
كانت القاعة بأكملها مليئة بالزهور.
ولم يقتصر الأمر على المكان الذي دخلت منه تولّا، بل امتدت الزهور إلى ما وراء الباب الآخر، بلا نهاية تقريبًا بدا الأمر وكأن شخصًا جلب كل مشتل بالكامل.
“أليس هذا مذهلًا؟”
قالت كالي بعيون متألقة من الحماس، لكن تولّا شعرت بالإرهاق أكثر من الفرح ما كل هذا؟
“هذه هدية صاحب السمو الدوق الأكبر؟”
“نعم! أتى الناس من عنده ووضعوها هنا يبدو أن الهدايا من مثل سموه تكون كبيرة جدًا.”
لكن هل يمكن اعتبار الأمر مجرد هدية كبيرة ؟ تحركت تولّا لتتفقد طوابير الزهور التي امتدت خارج الباب حتى مع الأبواب المغلقة، كانت رائحة الزهور قوية لدرجة أنها جعلت رأسها يدور.
هل يمكن أن تؤثر هذه الرائحة على صحة الأميرة، التي لم تكن على ما يرام؟
وأثناء تفكيرها بهذا، ظهرت أمامها شخصية لم ترها من قبل.
“آه، أعتذر على قدومنا دون إشعار مسبق سمعت أن الأميرة بلانش مريضة…”
التعليقات لهذا الفصل " 12"