كان ميلتشزيدك كما هو متوقع من دوق عظيم، يتحدث بعظمة لا مثيل لها، فبادرت بلانش إلى إضافة توضيحٍ صغير
” (زهور هذا المكان.) “
كانت إصبعها الصغيرة تشير إلى شجيرات الورد المتسلقة التي تتدلّى فوق رأسيهما.
“آه، إذن تريدين أن أصنع لك حديقة مليئة بالورود المتسلقة فقط؟”
لم يكن مفهوماً سبب ولع ميلتشزيدك بتضخيم كل الأمور بهذا الشكل دائماً.
ومجدداً، بعد أن تجاوز الحدود في كلامه، ضيّقت بلانش نطاق طلبها أكثر، بحيث لا يُمكن حتى ميلتشزيدك أن يسيء الفهم.
” (هذه، اقطف لي زهرةً واحدةً منها.)”
“……زهرة واحدة؟”
فتح الفتى عينيه باتساع، وكأنه لا يستوعب ما تقول.
وكأن زهرةً واحدة لا يمكن أن تحمل أي معنى.
وكأن زهرةً طبيعية واحدة لا يمكن أن تكون هديةً، ما دامت ليست وردة من الذهب أو كركديه منحوتة من الألماس.
“نعم، زهرة واحدة تكفيني.”
لكن بلانش كانت تريد زهرةً طبيعية واحدة بالذات لهذا السبب.
فالجنرال تشا تشونغ نُغ الذي أغرق لي بايك ريون بالهدايا لم يقدّم لها قطّ زهرةً حية، ولم يكن أحد يجرؤ على أن يقطف زهرةً عادية ويقدّمها لتلك الجنرال التي تضع على رأسها زهرةً من اليَاقوت الأحمر وترتدي رداءً مطرزاً بتنينٍ ذهبي.
وفي حياتها السابقة، كانت لي بايك ريون منشغلةً جداً لتعتني بزهورٍ أو تهتم بها، ولذلك، لم تتلقَّ يوماً في حياتها ولو زهرةً واحدة بسيطة.
“أظن أنك ما زلت صغيرة، لا تفهمين الأمور جيداً.”
بدا أن الفتى لم يستوعب رغبتها في إهدار فرصةٍ كهذه مقابل زهرةٍ واحدة، لكنه لم يجادلها طويلاً.
“حسناً، سأقطفها لك.”
وقف الفتى من مكانه وصعد إلى الطاولة.
تصرفه كان غير لائق إلى حدٍّ ما، فانعكس في وجه بلانش لمحة خفيفة من الانزعاج، لكن الفتى، المنشغل بتأمل الورود، لم يلحظ ذلك.
“ها هي.”
مدّ الفتى يده الصغيرة بحذر، وقطف زهرةً واحدة، ثم انحنى وقدّمها لها.
زهرة حقيقية… تفوح منها رائحة عطرة، وبتلاتها رقيقة.
نظرت بلانش إلى الزهرة التي بين يديها، وابتسمت بخفة.
“أقبلها بامتنان.”
“……مجرد زهرة واحدة، لا أكثر.”
حقاً، لم تكن سوى زهرةٍ واحدة.
زهرة واحدة فقط.
شيء لا يُذكر، لا يمكن حتى تسميته هدية
لكن هذا بالضبط ما كانت بلانش تريده.
“ومع ذلك… هذه وحدها تكفيني.”
نظر الفتى إلى وجه بلانشي متعجباً، ثم رفع كتفيه باستسلام.
” ما دمتِ تقولين ذلك، فلا بأس.”
***
لم يمضِ وقت طويل بعد أن أبرم الدوق العظيم الاتفاق وغادر المكان، لكنه قال لي إنه لا مانع لديه من بقائي ما شئت.
بفضل تلك المجاملة، قضيت كامل فترة بعد الظهر في الدفيئة، ثم عدت إلى القصر، وما إن وصلت حتى تلقيت هديةً كانت في الحقيقة سُمًّا.
لقد وُضع السمّ في كأس الماء المرافقة للطعام.
بمجرد أن تذوقت تلك النكهة اللاذعة التي لا يمكن أن تكون من شيءٍ يُعَدّ ليؤكل، بصقتُ الرشفة التي كانت في فمي على المنديل الذي كنت أضعه على صدري.
“صاحبة السمو؟ ما الأمر؟ هل الطعام ليس على مذاقك؟”
قالت تولا بوجهٍ يملؤه القلق، وهي تنظر إليّ.
لم أبتلعه، لكن بما أنني تذوقته فقط ولم يحدث شيء، يبدو أنه ليس من الأنواع التي تتسرب عبر الجلد…
لكن، تحسباً لأي حدث طارئ، ناولتها المنديل.
( أحرقيه بعناية )
“هاه؟ آه، نعم!”
( “ثم ضعي هذا في زجاجةٍ محكمة.”)
لم أكن أنوي إعلان الحادثة في الحال، لكن الاحتفاظ بالأدلة لن يضرّ، فقد أحتاجها لاحقاً.
حتى لو تغيّر تركيب السمّ بمرور الوقت، يمكن تمييز أنه كان سماً أصلاً.
لكن تولا لم تكن تفهم ما يجري تماماً، فبدت عليها الحيرة.
“الماء؟”
( “نعم.”)
هززت رأسي بحزم، فجمعت تولا الكأس والمنديل وخرجت من الغرفة، ملامحها ما زالت مشوشة.
أما بقية الطعام فكان آمناً، فتابعت تناول العشاء وأنا غارقة في التفكير منذ حفلة الشاي التي أبدت فيها الإمبراطورة اهتمامها بي للمرة الأولى، بدأت أراقب ما يدور حولي بعناية.
ولأنني كنت ألتقي الكثير من الناس بحجة تأسيس مجتمع اجتماعي ، كان من السهل عليّ تتبع تدفق المعلومات في الأصل، موظفو القصر لكلٍ منهم دورٌ محدد، ولا يتجاوز أحدهم حدوده.
أي إنني في الأحوال الطبيعية لا ألتقي بخادمة المطبخ أو فتاة الخياطة أبداً لكن عدد الخدم الذين يخدمونني لم يتجاوز عشرة، وبذلك كنت قادرة على مراقبة الجميع، وخصوصاً مع مساعدة تولا.
خلال الشهر الماضي، بدأتُ أختبرهم بنشر معلوماتٍ كاذبة قلت لفتاة التنظيف إنني أمارس هواية جديدة كذباً ،وأخبرت فتاة الخياطة أنني أقرأ كتاباً مختلفاً عن الحقيقة، وأخبرت الحارس الشخصي أن ركبتي مصابة، رغم أنها سليمة تماماً.
ويا للدهشة — بعد أيام، ظهرت من يهمس لي عن هوايتي الجديدة ، وأحد الأمراء تحدّث عن كتابي المفضل الذي لم أقرأه قط، وإحدى الأميرات طلبت مني ألّا أمشي كثيراً لأنها سمعت أن ركبتي تؤلمني ، وكل ذلك لم يكن ممكناً إلا لأن أحدهم نقل تلك المعلومات.
بوضوحٍ تام، كل تلك القصص كانت من اختلاقي، أي إن من نقلها لم يفعل ذلك إلا لأنه يبيع أخباري بهذه الطريقة، تأكدت أن جميع من حولي يبيعون معلوماتي باستثناء تولا
ولم يكن الأمر صادماً جداً، فأنا نفسي قد استخدمت الجواسيس من قبل.
حين لا تستطيع زرع شخصٍ خاص بك، فإنك تكتفي باستمالة أحد أفراد الخصم، والبداية عادة ما تكون بخفة رشوة بسيطة، امتيازٌ صغير، ومعلوماتٌ تبدو تافهة لا تضرّ أحداً.
*وما الذي سيتغير إن أخبرتهم؟ أليس ما يعلمونه أمراً يمكن معرفته دوني؟*
إنها تلك التفاصيل الصغيرة التي يعتقدون أنها بلا ضرر، لكنها تُباع على أي حال.
من الطبيعي أن أولئك الفتيات، اللواتي لا يعرفن حتى الفرق بين نظام الطبقات في المملكة والإمبراطورية، يقعن بسهولة في مثل هذه الإغراءات العجيب في الأمر أن المعلومات التي أخبرتها لتولا فقط لم تتسرب على الإطلاق.
راجعـت الأمر بدقة، وتأكدت أنها لم ترتبط بأي طرفٍ آخر.
رغم أنها كانت أقرب خادمة إليّ، إلا أنها لم تخضع لأي إغراء.
على أي حال، أصبح واضحاً أن الجميع، عدا تولا، يبيعون المعلومات.
لكن الهدف من الاختبار لم يكن معرفة من يسرب الأخبار، بل تتبع الجهة التي تصل إليها تلك الأخبار في النهاية.
وأنا أعلم جيداً أن من يشتري المعلومات لن يرضى بتفاهاتٍ كهذه.
فلا أحد يزرع جاسوساً لمجرد معرفة ما أقرأه هذه الأيام.
ومع ذلك، لم أتخيل أن يصل بهم الأمر إلى محاولة تسميمي بعد شهرٍ واحد فقط من وصولي إلى هذه البلاد.
زفرتُ نفساً طويلاً.
يا لاضطراب عقولهم…
قد لا يكون من الحكمة إعلان محاولة التسميم الآن، لكن معرفة من يقف خلفها أمرٌ ضروري.
فمن يتهور بهذا الشكل لن يتردد في تكرار فعلته.
وبينما كنت أفكر، عادت تولا حاملةً الزجاجة التي وضعت فيها الماء المسموم فسألتها
( “كيف عرف الجميع بجدولي اليوم؟”)
إدارة تدفق المعلومات أصبحت جزءاً من حياتي اليومية.
حتى دعوة الإمبراطورة وصلتني ضمن هذه اللعبة.
لكن على خلاف المرات السابقة، حيث كنت أغيّر تفاصيل بسيطة فقط، هذه المرة أعلنت بوضوح عن وجود الدعوة، إنما بدّلت اسم المرسِل.
تولا فكرت قليلاً، تنظر إلى الفراغ وهي تعدّ بأصابعها “قلتِ لميُو، التي تعمل في الخياطة، إنك ذاهبة لمقابلة السيدة تيرتوما، ولـكالي، المسؤولة عن الطعام، إنك ستقابلين الأميرة أستيلا، أما ديلما فقلتِ لها إنك─”
تيرتوما، أستيلا، ديليرا…
بينما كانت تولا تذكر الأسماء، كنتُ أربط الخيوط في ذهني بهدوء.
لم يطل بي التفكير حتى ظهر الجاني بوضوح.
مجرد ملاحظة أن السم كان في الماء لا في الطعام تكفي للوصول إليه.
(ديلما، المسؤولة عن التنظيف.)
فهي لا يمكنها الوصول إلى الطعام، لكنها تستطيع الاقتراب من طاولة الطعام حيث يُسكب الماء.
وزيادةً على ذلك، الشخص الذي قلتُ لديلما إنني سأقابله اليوم هي الأميرة دِيلَيرا ، التي درست علم الأعشاب قبل مجيئها إلى هنا.
لذا، كان من الطبيعي أن يكون السم هو وسيلة الاغتيال.
ولو أنني عدتُ اليوم بعد لقائي بالأميرة فعلاً وسقطتُ بسبب السم،رلكانت الشبهة الأولى قد وقعت على دِيلَيرا نفسها.
لكن لسوء حظهم، كنتُ اليوم عند الإمبراطورة، لا عند دِيلَيرا، وفضلاً عن ذلك، فإن ذكرياتي السابقة علمتني كيف أميّز ما يُؤكل مما لا يُؤكل.
لا بد أنهم سيظنون الآن أن ديلما أفسدت الخطة، وستجد نفسها في مأزقٍ لا تُحسد عليه.
يبدو أن عليّ إعلان أنني أصبحتُ رفيقة لعبٍ للدوق العظيم بأسرع ما يمكن.
فما داموا عقلاء، فلن يجرؤ أحد على محاولة اغتيالي ثانية بعد ذلك.
أما الآن، فلم يبقَ سوى مسألة التعامل مع ديلما.
لا أريد أن أعلن محاولة التسميم، لكن لا يمكنني إبقاءها بجانبي أيضاً.
أحتاج إلى ذريعةٍ أخرى لإبعادها… هل أستعير اسم الدوق العظيم؟ أم أساوم الإمبراطور على ذلك؟
وبينما كنت غارقةً في التفكير، كانت الأطباق قد فرغت تماماً جمعتها تولا
“الآن وقد انتهيتِ من الطعام، ماذا ترغبين أن تفعلي؟”
( “سأقرأ كتاباً.”)
“صاحبة السمو تحبين القراءة حقاً حسناً، سأجعلك تجلسين على الكرسي قرب النافذة، كما تفعلين دوماً هيا، تعالي.”
مددتُ ذراعيّ نحوها وارتميت في حضنها.
متى سينمو هذا الجسد لأتمكن من النزول من الكرسي وحدي؟ ليتني أغمض عيني وأفتحها فأجد أن عشر سنواتٍ قد مرّت بالفعل.
التعليقات لهذا الفصل " 11"