“آه، والآن بعدما فكرت في الأمر، سمعتُ أن هناك طفلة أصبحت مشهورة جداً بين الرهائن، أهي الأميرة بلانش؟”
بالطبع، كان بيركن يعلم تماماً أن المقصودة هي بلانش نفسها.
إلا أنه كان عليه أن يتظاهر بعدم الاهتمام بها، وأن يُظهر أن كل ما يعرفه عنها هو ما ذكرته ليانا فقط، لا أكثر ولا أقل.
“ليست رهينة، بل مبعوثة سلام! نعم، على الأرجح هي الأميرة بلانش في الآونة الأخيرة تُقام لقاءات اجتماعية نشطة بين المبعوثين، ويُقال إنها محطّ الأنظار هناك، لا تغيب عن أي مناسبة.”
“لقاءات اجتماعية؟”
“نعم من الطبيعي أن يجتمع أولئك القادمون من بلاد بعيدة ويؤنس بعضهم بعضاً، لكن وتيرة ذلك أسرع مما توقعت.”
“حقاً؟ غريب هل هناك سبب واضح لذلك؟”
هزّت ليانا رأسها نافيه ومع حركة رأسها، تمايل شعرها المنسدل بعد أن خلعت زينته بخفة.
“لا، لا يوجد شيء مميز يُقال إنها مجرد مصادفة.”
“حسناً، ربما يكون الأمر كذلك.”
لكن بيركن على عكس ما قال، كان يخمّن السبب لا بدّ أن السبب هو بلانش.
لم يكن يظن أن كل ذلك من تدبيرها المقصود فلو افترض أحد أن طفلة في الثالثة من عمرها، لا تعلم أن بداخلها يعيش شيخ في الخامسة والستين، استطاعت أن تؤسس مجتمعاً أرستقراطياً بنفسها، لكان ذلك جنوناً لا ذكاء.
لهذا رأى بيركن أن ظهور هذه الدوائر الاجتماعية كان نتيجة تجول بلانش للقاء الناس وجذب المتعاونين معها دون قصدٍ منها، سعياً لكسب أنصار يساعدونها في السيطرة على قصر الزمرد.
وبكثرة تلك اللقاءات، نشأ ما يُشبه المجتمع الاجتماعي بطبيعته.
لكن حتى هذا الحد، كان ما أنجزته بلانش أعظم مما طلبه بيركن منها فما فائدة أن تسيطر طفلة في الثالثة على قصر الزمرد؟
أما أن تصبح مركز الاهتمام في مجتمع الرهائن، فذلك أكثر فائدة بكثير.
وفوق ذلك، فقد كان تحقيق هذا أصعب بكثير من كسب ولاء بعض أفراد العائلة المالكة.
كان بيركن يعرف جيداً طبيعة الأطفال الناضجين باكراً فقد أمضى وقتاً طويلاً يبحث بعناية عن طفلٍ يصلح أن يُرافق ميلتشزيدك
ومن خلال ذلك، توصّل إلى حقيقة مفادها أن الطفل الناضج الذكي ليس لطيفاً عادة قد يكون مفيداً، لكنه نادراً ما يكون محبوباً.
غير أن بلانش صعدت بسرعة لتصبح نجمة المجتمع الجديد.
ويُقال إن الجميع متيمون بها، يتسابقون في إظهار إعجابهم بها وكأنهم لا يطيقون كتمان حبهم لها.
يبدو أنها تجيد التودّد أكثر مما ظننتُ.
وكان ذلك خبراً سارّاً لبيركن فمن يعرف كيف يتودّد للآخرين، يعرف أيضاً كيف يُرضي ميلتشزيدك
وإذا كانت قادرة على إرضاء أخيه، فربما تكون قادرة أيضاً على أن تصبح صديقته.
ابتسم بيركن برضا.
لقد شعر أخيراً أنه قد وجد من يمكن أن يمنح أخاه صديقاً حقيقياً.
***
كان الراضون بالأمر هم الكبار فقط، لكن على أية حال لم يكن هناك ما يعكر خطط الغداء فالدوق الأكبر حضر رغم أنفاسه المتثاقلة وتنهده المتكرر، وبلانش لم يكن بوسعها أن ترفض الدعوة على أي حال.
“هل هناك ما يسبب لكِ الضيق في الإقامة؟”
“بفضل عنايتكم بي، لا، على الإطلاق.”
أجابت بلانش عن سؤال الإمبراطورة وهي تلقي نظرة خاطفة نحو ميلتشزيدك
كانت قد توقعت أنه بما أن الدوق الأكبر سيحضر أيضاً، فسترى الإمبراطور والإمبراطورة يحاولان جهدهما لجعلها تتقرب من ميلتشزيدك أثناء الطعام، غير أن المعنيّ بالأمر لم يرمقها حتى بنظرة واحدة.
إذن لماذا دعَوْني من الأساس؟
لو كانت وحدها مع الإمبراطورة لكان الأمر أريح بكثير، فكرت بلانش وهي تحاول ألا تنظر إلى جهة الإمبراطور قدر المستطاع.
“حسناً، علينا الآن العودة إلى العمل.”
“آسفة لأننا سنغادر أولاً، لكن ابقي كما تشائين.”
“مَلْكي، أعتنِي بالأميرة بلانش.”
تساءلت بلانش في نفسها
هل كان هذا هو المخطط منذ البداية؟ أم أنهم قررو الانسحاب لأن ميلتشزيدك كان متحفظاً أكثر من اللازم؟
ما إن انتهى الطعام حتى نهض الإمبراطور والإمبراطورة من مقعديهما على عجل، فزفرت بلانش في داخلها بضيق.
“إذن، نلتقي في المرة القادمة يا أميرة.”
يبدو أن الإمبراطورة كانت تدرك أنه لو بقيت فسيجلس الدوق وبلانش صامتين بلا حديث، لذا نهضت مع ابتسامة متأسفة.
“إلى اللقاء في المرة القادمة.”
ابتسمت بلانش مودّعة الإمبراطورين، غير أن إحساساً غريباً بالديجا فو اجتاحها.
لقد جلست هكذا من قبل، في مواجهة فتى من عائلة مرموقة، في جوٍّ يسوده التوتر… لا مرة واحدة بل مرات عديدة، كثيرة جداً.
“هل نتمشى قليلاً؟”
بينما كانت غارقة في أفكارها، كان ذلك أول ما نطق به الدوق الأكبر منذ التحية.
ورغم أن بينهما فارق عامين فقط، إلا أن نطقه كان سليماً وواضحاً كم هو أمر مثير للغيرة.
تساءلت بلانش بشرود وهي تنظر إلى الفتى الذي نهض عن مقعده متى سأكبر أنا أيضاً؟
بدلاً من أن تتبعه، رفعت رأسها لتتأمل الأزهار.
من تصرفه الذي لم يتكلف حتى عناء النظر إليها، بدا وكأنه يحاول أن يضعها في موقفٍ أدنى.
فهو يمشي في المقدمة، ولا يمكن لخطوات فتاة في الثالثة من عمرها أن تواكب خطواته، وبذلك يجعلها تتبعه كخادمة تتلقى الأوامر.
فكرة ذكية لطفلٍ في الخامسة، لكن لسوء حظه، خصمه كانت بلانش كانت تقرأ ما في رأسه كما لو كانت تقرأ كفَّ يدها، لذا توقفت في مكانها ولم تتحرك، تنتظر ما سيحدث.
وكما توقعت، لم تمضِ سوى لحظات حتى عاد الفتى بنفسه نحوها
“أما سمعتِ ما قلتُ؟”
قالها بصوت هادئ رغم أنه من المفترض أن يكون غاضباً لتجاهلها له، إلا أنه ظل متماسكاً صغير، لكنه واعد فكرت بلانش وهي تحول بصرها من الزهور إليه.
“سمعتُك جيداً.”
“حقاً؟ إذن هل تجاهلتِ أمرَ الدوق عمداً؟ يا لكِ من جريئة.”
ابتسمت بلانش ابتسامة واسعة حتى بدت غير طبيعية، وارتفع خدّها الممتلئ بفعل طفولتها.
“ظننتُ أنك لا ترغب في أن إزعجك.”
لو كانت لا تزال في جسد لي بايك ريون قبل وفاتها، لكان ذلك الابتسام كفيلاً بأن يُرعب كل من حولها.
لكنها الآن في جسد طفلة في الثالثة، لذا لم يبدُ الفتى خائفاً.
“وكيف لا أرغب بذلك؟ لقد دعوتكِ بوضوح لنتمشى.”
كان صوته لطيفاً وملامحه هادئة، فعدّلت بلانش تقييمها له ربما هذا الطفل أصعب من الإمبراطور نفسه.
“أحياناً، الناس يقولون غير ما في قلوبهم.”
“إذن، تجاهلتِني بناءً على ذلك؟ وماذا لو عاقبتُكِ على جريمة قلة الاحترام؟”
“حتى لو اضطررتُ للتضحية بحياتي، أليس من واجب الصديق الحقيقي ألا يُغضب شخصاً ذا مقام رفيع؟”
لو سمع عالم لغوي هذه العبارة لاختنق دهشةً وعجزاً عن التعليق، فالصداقة لا تُعرَّف بهذا الشكل.
غير أن الفتى لم يكن لغوياً، بل من سلالةٍ ملكية، ولهذا أدرك ما أرادت بلانش قوله حقاً ما قالته لم يكن خطأً في نظره، بل تعريفاً دقيقاً لما يُنتظَر من صديقٍ لوليّ العهد؛ فالصداقة العادية تقوم على الندية والتكافؤ، أما صداقة الأمير، صداقة الحاكم، فهي أن تُراعي مزاجه وتتحرك بما يرضيه، حتى وإن كان الثمن أن تتحمل وحدك التبعة.
أما الصداقة مع وريث العرش فهي تعني أن تراقب مزاجه وتتصرف بما يُرضيه، حتى وإن جرّ ذلك عليك اللوم أو الأذى.
وبذلك كانت بلانش تبرر تصرفها، مؤكدة أنها لم تتجاهله من كبرياء أو عصيان، بل من حرصها على ألا تسيء إلى مشاعره.
“آه، كما توقعتُ… إنكِ تشبهين أخي فعلاً.”
كانت كلماتها معقدة بعض الشيء على فهم طفلٍ في الخامسة، لكن يبدو أنه أدركها جيداً.
“جيد. ما دمنا نفهم بعضنا، فلنتحدث بصراحة إذاً.”
ولأنه بدا معجباً بطريقة بلانش في التفكير، عاد الفتى وجلس على الكرسي مجدداً.
“كما تعلمين، قال لي أخي إنني بحاجة إلى صديقٍ من عمري.”
وافقت بلانش في سرّها، ثم قالت بإعجاب صادق
“إنه أخ طيب فعلاً.”
“لكنني لا أنوي أن ألعب دور الصديق فعلاً.”
أسند الفتى ذقنه على يده الصغيرة، وكانت أطرافه أطول من بلانش قليلاً، وجلسته لا تليق بطفل، لكنها بدت طبيعية عليه.
“إذن لنفعلها هكذا: سنتظاهر بأننا أصدقاء أمام أخي وأختي فقط.”
تجمدت بلانش للحظة هل هذا حقاً كلام طفلٍ في الخامسة؟
“لكن ليس في الواقع؟”
ابتسم الفتى مطوياً عينيه بخفة.
“هذا في مصلحة كلينا أنتِ ستحصلين على لقب صديقة الدوق الأكبر، وأنا أتخلص من الإزعاج.”
حقاً، الأخ كالأخ فكرت بلانش بدهشة.
وبينما ظلت صامتة لوهلة، ظنّ الفتى أنها مترددة، فتابع بصوت أكثر إغراءً
“أن تصبحي صديقة الدوق الأكبر يعني أنكِ ستحظين بمعاملة شبه ملكية حتى دون فعل أي شيء أليس هذا رائعاً؟”
نظر إليها متسائلاً بنظراته، فخفضت بلانش عينيها بخفة
“كما تأمر يا سموّ الدوق.”
طالما أنها صداقة بالاسم فقط، فليكن بعد أن تنال ما تريد، سيتوقف الإمبراطور عن الاهتمام بها، والفتى نفسه لا يبدو مهتماً بها أصلاً.
“جيد وبمناسبة بدء هذه الصفقة، سأمنحكِ شيئاً ما الذي ترغبين به؟”
ربما لأنه حصل على ما أراد، بدا الفتى أكثر لطفاً.
“لا حاجة لي بشيء.”
“بل يجب أن تنالي شيئاً يليق بمقام صديقة الدوق الأكبر.”
رفضت بلانش بأدب، لكن الفتى لم يتراجع.
وحين أدركت أنه لن يرضى بسهولة، نظرت حولها ثم قالت بهدوء
التعليقات لهذا الفصل " 10"