عادَ إليَّ وعيي الذي كان قد غاب، عند الفجر كان ضوء القمر الساطع القادم من خلف النافذة الورقية مضيئًا، ففكرت بأن اليوم حقًا يومٌ حسن للموت.
إذا اتخذتُ قرارًا، فلا داعي للمماطلة حثثتُ جسدي الواهن على النهوض لم يكن لجسدٍ انقطع عنه القوت أي نفع، ولكن بما أنني أوشك على الفراق، لم يكن هناك ما يدعو للقلق.
“كنت أرغب في الانتهاء من الترتيب قبل أن أغادر…”
كانت الغرفة مليئة بشتى أنواع المجوهرات الثمينة والذهب والكنوز والأقمشة الحريرية المطرزة.
كانت كلها من هدايا جلالته التي لم أتمكن من ترتيبها بالكامل رغم استمراري في ذلك منذ أن أمرني بالبقاء في البيت.
بما أنني بدأت بترتيب الأشياء القديمة، فإن معظم ما تبقى كان قد وصلني بعدما أُبعِدت، ولكن بقي أيضًا بعض مما تلقيته في أيام نفوذي إنها في النهاية أغراض سيتوجب على ابنتي ترتيبها.
من بينها، التقطتُ الرسالة التي وصلتني ظهر الأمس تحديدًا.
ما لمسته يداي كان حريرًا ناعمًا لا يُجرؤ المرء على أن يصنع منه ثوبًا، وحين فَكَكتُ الخيطَ المربوط به، ظهرت حروفٌ مصوغة من ذهبٍ مصهور. يا له من ترفٍ ضحكتُ على هذا البذخ الذي لا يُعقل.
“مثل هذه يجب أن تُستخدم عند مدح الإنجازات…”
إذا نظرت إلى الخارج فقط، فإنها رسالة فخمة وجميلة لا تختلف عن تلك التي كنت أتلقاها عند عودتي ظافرة من المعارك لكن بما أنني اعتدت على تلقي مثل هذه الرسائل المرة تلو الأخرى بعد إبعادي، فإنني أعلم مسبقًا أن ما بداخلها هو اللوم والغضب والتوبيخ.
“نيل عطف السماء شاقٌ جدًا على البشر، يا جلالة الملك.”
لطالما كان عطف جلالته على هذا النحو كان عاطفة عارمة، ملتوية، تنهال عليَّ بطريقة لم أستطع فهمها أبدًا، وقد تلقيتُ هذا الحب لنصف حياتي.
كان في بعض الأحيان مرهقًا، وفي بعض الأحيان سندًا، وفي بعض الأحيان أمرًا يستدعي الحذر وفي أحيان أخرى…
…كان مجرد شيء جيد.
لكنني الآن منهك فحسب.
“ما الذي أزعجك كل هذا الإزعاج؟”
مهما فكرت، لا يمكنني معرفة ما هو الخطأ الذي ارتكبتُه.
هل كان كلامي عن ضرورة التعجيل باختيار ولي للعهد لمنع نشوب نزاع بين الورثة شيئًا مستهجنًا إلى هذا الحد؟ لدرجة أنه يثير الغضب حتى بعد إبعادي؟
“هل كانت تلك خطيئة تستحق الموت، يا صاحب الجلالة؟”
كنتُ أتساءل باستمرار… بينما أرتب الهدايا الثمينة التي أرسلها جلالته، وهي الأشياء التي ستصبح مقتنياتي الأخيرة.
هل كان التعبير غير لائق؟ هل كان التوقيت غير مناسب؟ أم كان عليَّ ببساطة أن أغمض عيني وأصم أذني وأعيش هكذا؟
نعم ربما كان يجب أن أفعل ذلك أن أتظاهر بالعمى والصمم لو كنتُ اهتممتُ فقط بسلامتي، ربما كنتُ لا أزال أتمتع بسلطة تُسقِط الطير من السماء.
لكن ما الفائدة من كل ذلك الآن، وقد عُزلتُ واحتُجزتُ في البيت، والساحة السياسية تشهد حمام دم.
مرت عشر سنوات على وفاة ولي العهد المشكلة المتعلقة بالخلافة، التي كانت تتضخم تدريجيًا، طفت أخيرًا على السطح العام الماضي.
أولئك الذين كانوا يتقاتلون تحت السطح فقط، بدأوا علانيةً بتلفيق التهم والمؤامرات ضد الفصيل المعارض، وبذلوا قصارى جهدهم لجرّي أنا الذي التزمتُ الحياد.
ثم بدأ جلالته فجأة حملة التطهير بعد عشر سنوات من التغاضي عن النزاع السياسي.
ابن أخي الذي أقنعني بضرورة دعم الأمير الثالث – الأكبر سنًا من بين الأمراء الباقين على قيد الحياة – ليتولى ولاية العهد، تعرض للتعذيب.
صديقي الذي أرسل رسالة مفادها أنه يجب تنصيب الأمير الرابع، الذي تنتمي أمه إلى عائلة مرموقة، على العرش لضمان استقرار الإمبراطورية لاحقًا، سُجِن.
بينما كان جميع المحيطين بي يجرفون، بقيتُ ثابتًه وأعدتُ تقديم مشورة مفادها أن كل هذا الاضطراب سببه عدم تعيين وريث، لذا يجب على جلالته أن يحدد الخليفة في أسرع وقت ممكن.
وكانت هذه هي النتيجة عُزلتُ وأُمرتُ بالبقاء في البيت إنه ليس مجرد البقاء في البيت بالمعنى الحرفي، بل هو نفيٌ تقريبًا.
ومع ذلك، لم أكن قلقه على نفسي لأن جلالته كان مستمرًا في إرسال الرسائل إليَّ تلك الرسائل المصنوعة من حرير أثمن من أن يُستعمل في خياطة الثياب ومكتوبة بحروف من الذهب.
كنتُ على يقين بأن غضب جلالته سيهدأ يومًا ما قد يتبقى بعض الاستياء، وقد أتلقى لقبًا أقل من السابق، ولكني أستطيع العودة إذا كان انخفاض الرتبة مُخزيًا، فبما أنني عُزلتُ بالفعل، يمكنني أن أعيش في أرضي كناسك في قوقعته على الأقل، يمكنني أن أعيش كملك داخل حدود أرضي.
…أما من أقلقتني فهي ابنتي ابنتي الوحيدة التي وُلدت متأخرة وتجاوزت للتو العشرين وريثتي فرد عائلتي الوحيد.
إن الساحة تسيل بدماء في أروقة السياسة لدرجة أن البقاء في البيت، الذي يشبه المنفى، يعد حظًا وبينما يُجرف كل من يُشتبه في أنه تورط ولو قليلاً في صراع الخلافة، فإن نصف أفراد عائلتنا قد عُزلوا أو عوقبوا بالفعل.
في هذا الوضع، فإن تورط ابنتي، التي بدأت لتوها مسيرتها المهنية، هو مسألة وقت لا غير لا يمكنني أن أطلب من ابنتي ترك منصبها والعودة فالطلب منها ترك منصبها في هذا الوضع قد يبدو وكأنه نية للتمرد.
ولا يمكنني أيضًا تركها في العاصمة إذا فعلتُ ذلك، فإن غضب جلالته سيصل إلى ابنتي في أي لحظة إنها الآن في البيت بحجة الاعتناء بمرضي، ولكن إذا طالت مدة بقائها، فقد يصبح هذا أيضًا ذريعة ضدها.
لذا، لم يبق لي إلا خيار واحد، وهو أن أموت أنا بدلاً من ابنتي.
إذا بقيتُ حيه فحتى لو سامحني جلالته، فإن عطفه سيعود إليَّ فقط لكن إذا مت حينها، سيغفر جلالته لابنتي بدلاً مني.
لذلك، منذ أن أُمرتُ بالبقاء في البيت، كنتُ أحسب بدقة أفضل وقت للموت يجب ألا يكون الوقت مبكرًا جدًا، فإذا متُ بينما غضب جلالته مستمر، فإنني لن أورثها العطف بل الغضب.
ويجب ألا يكون متأخرًا جدًا، فإذا متُ بعدما هدأت ثورته، فإنه لن يشعر بالأسى على ابنتي بدلاً مني.
هذه هي النتيجة التي توصلتُ إليها بعد حسابات دقيقة ولهذا السبب، انقطعتُ عن الطعام لعدة أيام كل ما تبقى هو أن أنهي الأمر دفعة واحدة.
“الشيء الأخير…”
توقّف بصري عند الرسالة التي كنت لا أزال أمسكها بيدي رنعم، ستكون هذه خير ما يليق أن يُرافقني في الختام فالذكريات التي تحويها الأيام الجميلة أثمن من أن ألوّثها بالموت.
انحنيتُ انحناءةً عميقة نحو آخر مرسومٍ ملكيٍّ تلقيتُه.
“ليدم جلالتك عزيزًا مكرّمًا، ولتحيَ آلافًا من السنين.”
ولكن، أتمنى ألا يكون هناك خادم مثلي في عهد جلالته مجددًا.
إنّ الحبّ والبغض والغضب كلّها أثقالٌ سأحملها معي إلى العالم الآخر فلا أريد، لا في الحياة ولا بعد الموت، أن تلامس حتى أطرافُ ثوبي ثوبَ جلالتك فهذا هو رجائي الصادق، الوحيد
***
「… ومات وكان عمره خمساً وستين سنة ، بعد وفاة لي بايك ريون بدأت إمبراطورية جين تسلك طريق الانهيار.」
قرأت السطر الأخير كما لو كنت أنقشه، ثم أغلقت الكتاب.
الكتاب الذي كنت أقرأه هو سيرة لي بايك ريون، وهو كتاب يروي سيرة أحد شخصيات إمبراطورية جين التي انهارت قبل ألفٍ وخمسمئة عام.
وكان ذلك أنا في حياتي السابقة.
“ما كان لي أن أُتوقع أن النهاية ستكون هكذا…”
صحيح أنّ لي بايك ريون هي أنا في حياتي السابقة، لكن الحقيقة مختلفة عمّا كُتب هناك.
ففي السجلات كُتب أنني مرضت بالحزن حتى الموت، ولكن في الحقيقة كنت قد انتحرت.
ولم يكن من الغريب أن لا تُسجَّل الحقيقة كما هي. لم تكن لي أي خطيئة، ولكن حين تُطرَد الوصيفة الثانية في الدولة، صاحبة النفوذ المطلق، لأنها تجرّأت ونصحت جلالته بأن يُحسن اختيار وريثه، ثم تنتحر… فلا شك أن ذلك أمر يجب التستر عليه
غير أن ما كنت أتساءل عنه هو: كم شخصاً يا ترى عرف السبب الحقيقي لموتي؟
لابد أن ابنتي كانت تعرف، فهي من جمعت جثماني ولم تكن لتفعل ذلك وحدها، فلا بد أن اثنتين أو ثلاثاً من الخادمات عرفن أيضاً.
“لكن أنت…؟”
ماذا عن جلالة الملك؟ هذا ما يصعب عليّ تأكيده.
في الظروف العادية، لكان علم بالتأكيد.
لقد كان سيأتي إلى جنازتي ويرى جسدي لكن كيف كان الحال في ذلك الوقت؟ عندما كانت العاطفة التي لم تُسترد بعد، والغضب الذي لا سبب له، والتوبيخ الجائر، كلها مختلطة ببعضها.
هل زارني في ذلك الوقت؟ أم أنه تجاهلني حتى اللحظة التي دُفنتُ فيها في التراب؟
“آه، لا أعلم …”
هززت رأسي، محاولة طرد أفكاري بعيداً.
مهلاً، أياً كان من عرف حقيقة موتي أو لم يعرفها، فذلك لم يعد مهماً الآن.
فقد مضى من الزمن ما يكفي ليعود الجميع إلى التراب، سواء من علم أو من جهل.
حتى المملكة نفسها اندثرت منذ ألفٍ وخمسمئة عام.
والآن، بعد كل هذا الوقت، ما عاد لأي شيء من ذلك معنى.
حتى وإن لم يتحقق شيء مما تمنّيته بشغف — لا طول عمر جلالته، ولا خلود الإمبراطورية — فلا بأس.
كل ما أرجوه فقط هو أن تكون نهاية جلالته كانت هادئة، بلا ندمٍ ولا حسرة.
بعد أن أنهيت ما أردت التحقق منه وقدّمت أُمنية الرحمة المتأخرة ،وكنتُ على وشك النهوض، لكني واجهت مشكلة كبيرة جدًا.
“يجب أن أنتظر حتى يأتي شخص ما…”
كانت المشكلة أن قدمي لا تصلان إلى الأرض لقد أدركتُ ذلك للتو، لأن مربيتي هي من أحضرتني إلى المكتبة، وأحضرت لي الكتاب، وأجلستني في مكاني.
وهكذا كان الأمر أنا، لي بايك ريون، القائدة العسكرية التي لم تُهزم قط، والمخلصة الفريدة ، ورئيسة الوزراء العبقرية التي سجلت في التاريخ، شكلي الحالي هي طفلة في الثالثة من عمرها طفلة لا تستطيع حتى النزول من الكرسي بمفردها.
التعليقات لهذا الفصل " 1"