الفصل التاسع
دوّى صوت الباب وهو يُفتح بعنف، قاطعًا اضطرابها.
استدارت ريتا على الفور، محرّكة الأود بحدسها، مشكّلة طلقة سحرية عند أطراف أصابعها.
“أيتها المزيّفة اللعينة!”
كان الداخل رجلاً ذا شعر أحمر، وقد ركل الباب ليدخل غاضبًا.
ورغم أن وجهه كان غريبًا عنها، إلا أن ما سمعته عنه كان كافيًا لتعرفه على الفور.
ملامح تشبه ليونهارت، وعينان بنفسجيتان متشابهتان.
غير أن ملامحه، بخلاف الوسامة الهادئة لليونهارت، كانت صاخبة، حرة، ومتمردة.
ريهارت دي نييسا لاسكايل، الابن الثاني لعائلة لاسكايل.
كان يرمقها بنظرات شرسة.
“أيتها المزيّفة، سمعتُ أنك حاولتِ خنق أحدهم؟ يبدو أنك كشفتِ عن وجهك الحقيقي أسرع مما توقعتُ…”
لكن كلماته التي نطق بها بحدة بدأت تتلاشى مع تعبير وجهه الذي أخذ ينهار.
اتسعت عيناه شيئًا فشيئًا وهو يحدق بها، حتى بدت نظراته شاردة.
ثم تمتم كأنما مسّه السحر:
“… ليلي.”
ريتا لم تنبس ببنت شفة.
بل، لم تكن قادرة على ذلك.
لقد تمّت قبل قليل مراسم العهد باسم “ليلييتا” بنجاح، وكان عقلها يضج بالأفكار.
لم تستطع لا إنكار ذلك النداء، ولا تأكيده.
اقترب ريهارت منها مترنحًا، وعيناه لا تزالان مثبتتين عليها.
تراجعت ريتا بخفة.
كانت رائحة الخمر النفاذة تفوح منه بقوة.
يبدو في حالة سُكر تام.
رغم أنها لا تشرب، إلا أنها تعرف هذه الرائحة جيدًا.
فقد كانت صديقتها الحميمة، أولي باسكال، ساحرة بارعة وصانعة أسلحة سحرية متميزة، مدمنة خمر بدرجة مقلقة.
تعلم أن البشر حين تنبعث منهم رائحة الخمر بهذا الشكل، لا يمكن الحديث معهم أو فهم تصرفاتهم بشكل منطقي.
كانت تلك اللحظات الوحيدة التي تصبح فيها أولي حمقاء تمامًا.
وكأنها توقعت ما سيحدث، فجثا ريهارت على ركبتيه فجأة أمامها.
“أنا آسف.”
ألم يكن قد اقتحم المكان قبل لحظات وهو يصرخ عن “المزيّفة”؟ والآن يعتذر؟
رغم أنها كانت مستعدة لأي شيء بعد رائحة الخمر، إلا أن ريتا وقفت مذهولة.
انهمرت دموع الرجل بغزارة، وبكى بحرقة كطفل صغير.
“آسف، ليلي… آسف، أنا المخطئ…”
بدأ يهذي بكلمات متقطعة وهو ينتحب:
“أنتِ فقط طلبتِ أن أبقى بجانبك حتى تغفَي، لكن… آسف، أنا… أنتِ لا تطلبين أشياء مثل هذه عادة، لكني… كنتُ متعبًا، تجاهلتُ كلامك، أنا نفاية لا تُغتفر، كيف استطعتُ أن أتركك تعودين وحدك إلى الغرفة، ثم نمتُ مجددًا؟ كان عليّ أن أذهب لأتأكد من غرفتك على الأقل… أيّ نوع من البشر أنا…؟”
امتدت يده المرتعشة نحوها، وكان من الواضح أن الارتجاف ليس من أثر الخمر وحده.
“آه، ليلي… لو تعلمين كم ندمتُ على تلك الليلة… لن تفهمي، آسف، آسف حقًا، لو أنني فقط أستطيع إعادة الزمن… كان يمكنني أن أُنقذك، لكن هناك أشياء لا يمكن استعادتها في هذه الحياة… وأنا أدركتُ ذلك… بمرارة…”
تشبّث بطرف ثوب نومها، وانخرط في نوبة بكاء هستيرية.
“آسف، ليلي… آسف…”
لم تستطع ريتا دفع يده بعيدًا، تجمدت مكانها.
يقتحم الغرفة، يصرخ، ثم ينهار بالبكاء؟ حقًا، هذا الرجل ثمِل تمامًا.
لم تستطع حتى فهم معظم ما قاله.
حلّت الطلقة السحرية التي كانت قد شكّلتها، وحدّقت بالرجل الباكي عند قدميها وهي تفكر: ما الذي عليّ أن أفعله به الآن؟
“سيدي!”
في تلك اللحظة، ظهر رجل آخر عند الباب الذي اقتحمه ريهارت.
لم تتفاجأ ريتا هذه المرة.
فمنذ أن استعادت وعيها، بدأت تلقائيًا تستشعر تدفق الأود من حولها.
الرجل كان في أواخر الثلاثينيات، يضع نظارة أحادية، ويرتدي زيًا رسميًا أنيقًا.
بدا عليه القلق وهو يركض، وحين وقعت عيناه على ريتا، زاد اضطرابه وانحنى يحيّيها على عجل.
“تشرفت بلقائك لأول مرة، آنسة ليليتا، رئيس خدم منزل لاسكايل…”
“أوووووه… آسف، ليلي… أنا حقًا نفاية…”
“… ألفريد، هذا اسمي، وأعتذر لأن لقائي الأول بكِ يتم في ظرف كهذا.”
رفع ألفريد نظارته بتوتر ومسح عرقه بصمت.
تنهدت ريتا بصوت منخفض، وأشارت إلى ريهارت الذي لم يزل يكرر اعتذاراته:
“تشرفت بمعرفتك، ألفريد، هذا الشخص يبدو ثمِلًا تمامًا، هل يمكنك فعل شيء من أجله؟”
“بالطبع، أرجو المعذرة.”
لوّح ألفريد بيده، فدخل مجموعة من الخدم الأقوياء الذين كانوا يتبعونه.
أمسكوا بريهارت بلطف رغم بكائه الشديد.
كان أحدهم يحمل زجاجة خمر مفتوحة، وراح يلوّح بها بهدوء قرب ريهارت كما لو كان يصطاد فريسة، متراجعًا بخطى بطيئة نحو خارج الغرفة.
وحين التقط ريهارت رائحة الخمر، استدار رأسه تلقائيًا نحو المصدر، فدفعه الخدم برفق، حتى خرجوا جميعًا من الغرفة، ولم يبقَ سوى ألفريد.
ما هذا… طريقة لصيد الحيوانات؟
رمشت ريتا بدهشة، بينما بدا أن ألفريد قد فهم حيرتها.
“آنستي ريهارت فارس من الدرجة الأولى، حتى وهو أعزل، يمكنه استخدام الأورا، إن لم نستخدم هذا النوع من الطُعْم، فالجميع سيكونون في خطر.”
“و… الخمر هو الطُعم؟ وهل هذا الشيء يجدي نفعًا مع البشر؟”
“عندما يكون في تلك الحالة، نعم. إنها الطريقة الأكثر أمانًا.”
ردّه الهادئ جعل ريتا تدرك أن هذا الأمر معتاد في هذا القصر.
إذًا هو مدمن خمر بالكامل.
كيف وصل فارس إلى هذه الحالة؟ أليس الفارس من المفترض أن يكون متمسكًا بالشرف والكرامة؟
عندما زفرت بدهشة، بدا أن ألفريد قرأ أفكارها.
“أرجو أن لا تفهميني خطأ، آنستي، سيدي لم يكن هكذا يومًا.”
“أتعني أنه لم يكن دائمًا بهذه الحال؟”
“لم يكن يقترب من الخمر إطلاقًا.
تغيّر كل شيء بعد اختفاءكِ يا آنسة.
منذ تلك الليلة، حمل نفسه المسؤولية بالكامل.”
“يقال إن آنسة ليليتا جاءت إليه في تلك الليلة، خائفة من حلم غريب، وطلبت منه أن يبقى بجانبها حتى تغفو، كان السيدان في حفلة، وسيدي ليونهارت في الأكاديمية، فلم يكن في القصر سواهما.”
تحدث ألفريد بهدوء، وكأنه يعلم مسبقًا أن ريتا لا تذكر شيئًا.
“لكنه كان مرهقًا وتجاهل طلبها، فعادت لغرفتها وحدها، وكانت تلك آخر مرة رآها أحد.”
فهمت ريتا الآن كلمات ريهارت المبعثرة وسبب ندمه العميق.
“طوال السنوات العشر الماضية، لم يتوقف عن لوم نفسه، وشيئًا فشيئًا… أصبح على هذه الحال.”
تنهد ألفريد بحزن.
“لذا، لم نعد نسمح بوجود أي نوع من الخمور في القصر. لكن، بصفته فارسًا بارعًا، لا يمكننا منعه من الخروج للشرب.”
“لكن الأمور ستتغير الآن. لقد عدتِ يا آنسة، كما في المعجزة. وسيسود الضحك مجددًا في هذا القصر.”
ارتسم على وجهه تعبير مشبع بالأمل والامتنان، وانحنى لها بعمق.
“آنسة ليلييتا، أرحب بكِ من أعماق قلبي. شكرًا لعودتك.”
كانت ريتا لا تزال في حالة من الفوضى الذهنية، فلم تستطع الرد.
“سمعت أنكِ فقدتِ ذاكرتك، آنستي. استريحي جيدًا. وإن احتجتِ شيئًا، أو راودكِ أي سؤال، فلا تترددي في طلبنا.”
ثم استدار ليغادر، لكن صوتها أوقفه:
“لحظة، ألفريد.”
“نعم، آنستي؟”
“هناك شيء أود معرفته.”
“اسألي ما شئتِ.”
“ليليتا… أنا… كيف كنت؟”
تردد ألفريد، يلعب بنظارته لوهلة، ثم أجاب بعينين منخفضتين:
“أعتذر، لا يمكنني الإجابة عن ذلك.”
“لماذا؟”
“لأني لم أكن هنا حينها. والدي كان الخادم وقتها، أما أنا فكنت أدرس بعيدًا عن القصر. لم أعرف آنسة ليليتا في طفولتها.”
“والدك؟ إذًا ألا يعرف؟ لا يمكنك أن تسأله”
“والدي…”
أغمض ألفريد عينيه برهة، ثم أكمل بهدوء:
“بعد اختفائكِ، آنسة، استقال من منصبه لشعوره بالذنب… وتوفي بعد وقت قصير.”
“لم يكن ذلك خطؤكِ. لذا أرجوك، لا تحمّلي نفسكِ الذنب.”
قالها بابتسامة حزينة، وأضاف:
“اختفاؤكِ كان كنيزكٍ نازلٍ من السماء. كارثة غطّت القصر كظلّ لا ينقشع. حدثت… أمور كثيرة، كثيرة جدًا.”
صمت قليلًا، ثم ابتسم برقة:
“لكن عودتكِ تغيّر كل شيء، ولهذا، نحن ممتنون جدًا.”
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 9"