‘الآنَ وقد فكّرتُ في الأمر… لم يكن بيننا أحدٌ يتذكّر والديه أصلًا.’
من بين أطفالِ باسكال، لم يكن هناك شخصٌ واحدٌ يتذكّر والديه أو مسقطَ رأسه الذي وُلِد ونشأ فيه.
كان الأمرُ عجيبًا إلى حدٍّ غير معقول.
الجميعُ لا يعرفون شيئًا.
والأغربُ من ذلك أنّهم جميعًا كانوا يتجنّبون استحضار ماضيهم قبل أن يصبحوا «باسكال».
وكانوا يقولون، بلا استثناء، إنّ ما تبقّى لهم من ذكرياتٍ ليس سوى كوابيس.
‘نظرًا لكثرة الأيتام في هذا العالم القاسي، لم أجد الأمرَ غريبًا آنذاك.’
الظروفُ كانت بالغةَ القسوة، والنجاةُ بحدّ ذاتها كانت معركةً يوميّة، فلم يكن هناك متّسعٌ للتفكير العميق.
هل كان باسكال يتعمّد اختيار الأطفال الذين لا يتذكّرون والديهم؟
أم هل… يعقل أن يكون…؟
ارتعدت ريتا من الشكّ الذي خطر لها.
وفي الوقت ذاته، شعرت بنفورٍ شديد.
فهي عاشت أكثر من عشر سنواتٍ بوصفها «ريتا باسكال»، ذاتَ الشعر البنيّ المحمرّ والنمش.
لم تشكّ يومًا، ولو لذرة، في هويّتها.
‘إن كنتُ أنا فعلًا ليليتا… فهل يعني هذا أنّ ذلك الجسد كان جسدَ شخصٍ آخر؟ هذا محال.’
لقد عاشت طوال حياتها في هذا الجسد.
لم تشعر يومًا بأيّ اغتراب.
‘…اغتراب؟’
في تلك اللحظة، تذكّرت كلماتِ التذمّر التي كانت تردّدها «سيرا باسكال»، معالجةُ فصيل بيكون، حين كانت تفحصها.
“صحيحٌ أنّ جميع الباسكال يعانون أعراضَ شللٍ متشابهة، لكن حلوى القيقب خاصّتنا حالتها أسوأ من غيرها بكثير.
تعرفين ذلك، أليس كذلك؟ كأنّ هناك مسمارًا في جسدكِ ليس في مكانه، كلّ شيء يصرّ ويختلّ.
وحتى مع تعويض الأود، هناك حدود.
فارجوكِ، اعتني بنفسكِ قليلًا، أيتها الثعلبة الصغيرة.”
كانت أعراضُ الشلل الجسديّ لديها أكثرَ تكرارًا من رفاقها.
وإن كان ذلك… اغترابًا؟
تضخّمت الشكوكُ ككرةِ ثلج.
واهتزّت الهويّة التي آمنت بها طوال حياتها.
أصابها صداعٌ نابض.
ارتباكٌ ودوار، ولا شيء واحد يمكنها الجزمُ به.
هزّت رأسها بعنف.
‘اللعنة، توقّفي عن التفكير.’
أغلقت ريتا علبةَ أعواد الثقاب بإحكام، ووضعتها فوق المكتب في زاوية الغرفة.
وهناك، لفت نظرَها طقمُ أوراقٍ وأقلام ريشة.
‘المسائل التي لا جواب لها، لنؤجّلها الآن. فلنبدأ بما أستطيع فعله فورًا.’
حين استرجعت الحادثة التي وقعت قبل قليل، أدركت أنّ أكثرَ ما تحتاجه الآن هو إيقاظُ الأود.
فكلّما طالت حالةُ العجز هذه، ازداد توتّرها وحدّتها.
وقد ينتهي بها الأمر بتهديدِ أبرياءَ آخرين.
‘لنبدأ باختبار توافق الأود.’
الأود هو القوّةُ الطبيعيّة البدائيّة التي يتكوّن منها العالم.
وبحسب معارفها، أيّ عالمٍ فيه جاذبيّةٌ وهواءٌ وبرق، لا بدّ أن يحتوي على الأود.
والناسُ يختلفون؛ فمنهم من يتقبّله جسدُه بسهولة، ومنهم من يرفضه.
أمسكت ريتا بقلم الريشة، ووخزت طرفَ إصبعها بخفّة.
بلّلت الريشة بقطرةِ الدم، ورسمت على الورقة دائرةً سحريّةً بسيطة.
ثم فتحت النافذة على مصراعيها، ووضعت كوبًا فارغًا فوق الورقة قرب الشباك، وانتظرت قليلًا.
‘دائرة جمع الأود.
قد لا يكون اختبارًا رسميًّا، لكن هذا يكفي لاختبارٍ مبدئيّ.’
دخل ضوءُ العصر ونسيمُ الربيع البارد من النافذة المفتوحة.
وبعد قليل، ظهر داخل الكوب شيءٌ يشبه السراب الخافت.
وهي ظاهرةٌ تحدث حين يتجمّع الأود وتزداد كثافته.
‘إنّه يتجمّع جيّدًا.
كما توقّعت، حتى لو كان عالمًا آخر، فالأصول واحدة. ليس مكانًا عبثيًّا يجري فيه الماء عكس الاتجاه أو يكون فيه النار باردة.’
أدخلت ريتا إصبعَها المجروح بحذرٍ في الكوب الذي يتراقص فيه الأود.
‘جيّد.
لم يُقذَف الإصبع للخارج، ولا أشعر بوخزٍ أو نفور.
إذًا هذا الجسد ليس من النوع الذي يعاني آثارًا جانبيّة. أمّا التوافق…’
امتزجت قطرةُ الدم الخارجة من جرحها مع السراب داخل الكوب.
لم تطفُ ككرةٍ حمراء منفصلة، كما يفعل الزيت مع الماء، بل انتشرت كقطرةِ حبرٍ في الماء، وصبغت السرابَ بلونٍ أحمرَ ناعم.
اتّسعت عينا ريتا، وفغرت فمها.
‘ما هذا الجسد بحقّ الجحيم؟ توافق الأود… جنونيّ!’
كان جسدُ ريتا باسكال يمتلك توافقًا سيّئًا مع الأود.
ليس لدرجة الآثار الجانبيّة القاتلة، لكنّه كان ضعيفًا بلا شكّ.
حين أجرت اختبارًا بسيطًا في السابق، بقي دمُها كخرزةٍ حمراء تطفو دون أن تمتزج.
‘هذا مستحيل… هذا مستوى جايد.’
دمُ «جايد باسكال»، صاحب أعلى توافق أود في فصيل بيكون، كان يُظهر هذه الظاهرة.
وبفضل ذلك التوافق الهائل، كان قادرًا على استخدام كمٍّ هائلٍ من الأود، وبناء نطاقٍ يهيمن عليه في ساحة المعركة.
ومن شهدوا ذلك أطلقوا عليه لقب «الإمبراطور».
‘بل إنّ سرعة الامتزاج تبدو أسرع من جايد نفسه؟ إن استخدمتُ فنون المدفع السحري بهذا الجسد، سأتمكّن من استخدام تقنياتٍ أكثر بكثير من قبل.’
تبدّد الارتباكُ حين تخيّلت التقنيات التي لم تكن سوى أحلام.
راحت تقلّب الكوب بين يديها بإعجابٍ متواصل.
‘يا إلهي… بهذا المستوى، قد أستطيع أخيرًا إكمال تلك التقنية التي لم تكن سوى مخطّط، مذهل.
جسدي السابق كان يتشنّج أو يُصاب بالشلل عند تجربة أيّ تقنية جديدة، فكنت مضطرةً للحذر دائمًا.’
ليت هذا الجسد… كان جسدي حقًّا.
توقّفت فجأة.
‘…لا تطمعي، ريتا باسكال.
ماذا لو لم يكن كذلك؟ ماذا لو عادَت ليليتا الحقيقيّة؟’
تذكّرت ورقةَ النفل رباعيّ الأوراق داخل علبة الثقاب.
كان ليونهارت يأمل أن تُذكّرها بشيء، لكنّها لم تتذكّر شيئًا.
ربّما عبث باسكال بذكرياتها.
وربّما كان كلّ هذا مجرّد مصادفة.
والأملُ، إن خاب، يكون أشدّ إيلامًا.
لقد رأت ريتا نهايةَ أطفال باسكال الجائعين للعاطفة.
ورأت أيضًا ما حدث لأولئك الذين توهّموا أنّهم استعادوا عائلاتهم.
أطفال باسكال أسلحةٌ حيّة.
وُجدوا فقط لقتال الوحوش.
لا وجودَ للعائلة بينهم.
وحتى لو وُجدت، فلن يقبلوا باسكال غريبًا عنهم.
الوحيدون القادرون على فهم باسكال هم باسكال مثلهم.
هكذا تعلّمت خلال أكثر من عشر سنواتٍ قضتها كطفلةٍ لباسكال.
‘لا تتوقّعي شيئًا. لا تتوهّمي. في النهاية أنا باسكال، وسأعود إلى فصيل بيكون. فكّري فقط أنّني أستعير جسدَ شخصٍ آخر. هذا أرحم.’
بعد أن تماسكت، أبعدت الورقةَ والكوب جانبًا، وتقدّمت نحو النافذة.
لم تعد هناك مخاوف من الآثار الجانبيّة.
حان وقتُ الإيقاظ.
رفعت رأسها نحو السماء الزرقاء، واستنشقت الهواء النقيّ بعمق.
‘يا له من عالمٍ جميل. من غير المعقول أن تظهر فيه وحوش…’
وسّعت الجرح في إصبعها بقلم الريشة.
وبرسمِ الدم، خطّت على كفّها رمزَ العهد، ثم وضعت يدها على عنقها.
“〈يا أود، إنّي أعاهدك.〉”
انبعث صوتٌ ذو صدى غريب.
وفي اللحظة نفسها، التفّ الأود حول جسدها، كأنّه ريحٌ غير مرئيّة.
“〈أن أُبيد كلَّ وحشٍ تقع عليه عيناي.〉”
تسرّب الأود إلى جسدها، وراحت تموّجاتٌ سرابيّة تحيط بها.
تطاير شعرها الذهبيّ بعنف، وتلألأت عيناها البنفسجيّتان.
وأكملت العهد بصوتٍ مغاير.
“〈أقسم باسم ريتا باسكال.〉”
فُجأة، صدر صوتٌ كأنّ الهواء يتسرّب من ثقب.
اختفى الأود المتجمّع دفعةً واحدة.
“ماذا؟”
خرج صوتُها مذهولًا.
لم يكتمل العهد.
كان يفترض أن يقبل الأود القسم، فتتمّ الصحوة، لكنّه تلاشى.
“لماذا لم ينجح؟”
قبل لحظاتٍ فقط، كانت كلّ مؤشّرات الصحوة مثاليّة.
فلماذا رُفضت فجأة؟
تلمّست عنقها، ثم تذكّرت مشهدًا قديمًا.
‘رأيتُ شخصًا حاول أداء العهد باسمٍ مستعار، فرفضه الأود هكذا.’
الطقوس صحيحة.
ومضمون العهد صحيح.
‘ليس لأنّ هذا العالم بلا وحوش… فقد استجاب الأود حتّى آخر لحظة.’
توقّف كلّ شيء بعد الجملة الأخيرة.
إذًا…
أعادت يدها إلى عنقها، وردّدت العهد نفسه، لكن غيّرت الاسم.
“〈أقسم باسم ليليتا ديل نيسا لاسكايل.〉”
اندفع الأود فجأةً إلى جسدها.
عاصفةٌ من الرياح.
شعرُها يرفرف، وعيناها تتلألآن كالنجوم.
انهمر الأود كالسيل، بلا توقّف، حتّى بلغ الحدّ الأقصى الذي يستطيع هذا الجسد تحمّله.
وبعد عاصفةٍ عاتية، عمّ السكون.
فتحت ريتا عينيها ببطء.
“……هاه.”
داخل جسدها الآن كمّيّةٌ من الأود تفوق بكثير ما امتلكته حين كانت «ريتا باسكال» المدرَّبة.
والعهد… قد تمّ.
‘لماذا تمّ العهد باسم ليليتا؟ هل لأنّ الجسد جسدُها؟’
أليس العهد فعلَ الروح لا الجسد؟
أم أنّ الأود يهتمّ بالوعاء أكثر ممّا يهتمّ بالجوهر؟
أو أنّ…
“شخصٌ مختلف؟ ريتا، لا أظنّ أنّني سأعجز عن التعرّف على أختي الوحيدة. لو تغيّر الجوهر، لكنتُ شعرتُ بذلك فورًا.”
“فكّري مرّةً واحدة. في احتمال أن تكوني أنتِ الحقيقيّة.”
“هذا مستحيل.”
تردّد صوتُ ليونهارت في رأسها.
واهتزّ قلبُها الذي بالكاد تماسَك.
تمتمت بصوتٍ مرتجف:
“هذا… مستحيل….”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 8"