الحلقة الثامنة.
“الآن وقد فكّرت في الأمر… لا أحد منا يتذكر والديه، أليس كذلك؟”
لم يكن من بين أطفال باسكال من يتذكّر والدَيه أو مسقط رأسه.
كان الأمر أشبه بالمعجزة، كم أنهم لا يعرفون شيئًا على الإطلاق، الجميع، دون استثناء، كانوا يتجنبون استرجاع ماضيهم قبل أن يصبحوا باسكال.
جميعهم قالوا إنها ذكريات مروعة لا أكثر.
“في عالم امتلأ بالأيتام، لم أجد في الأمر غرابة.”
فالبيئة التي وجدوا أنفسهم فيها كانت قاسية إلى حدّ أنهم لم يجدوا وقتًا للتفكير العميق.
هل يمكن أن يكون باسكال قد اختار عمدًا أطفالًا لا يتذكرون آباءهم؟ أم أن…
تفاجأت ريتا من هذا الشك الذي خطر في بالها، وشعرت في الوقت ذاته بنفور.
لقد عاشت أكثر من عشر سنوات بصفتها ريتا باسكال ذات الشعر الكستنائي والنمش على وجهها. لم يكن لديها أدنى شك بشأن هويتها.
“لو كنت أنا بالفعل ليليتا…فهل يعني ذلك أن ذلك الجسد ليس جسدي؟ مستحيل.”
فطوال حياتها التي تتذكرها، لم تكن تشعر بالغربة في جسدها.
“…غربة؟”
تذكّرت فجأة تعليقات سيرا باسكال، المعالجة في فرقة بيكون، حين فحصتها ذات مرة:
“صحيح أن لدى جميع الباسكال بعض أعراض الشلل، لكنك أنتِ، يا حبة السكر، حالتك أكثر سوءًا. “
“أتعلمين؟ وكأن هناك برغيًا مفكوكًا، شيء ما لا يدور بشكل سليم
وحتى الأود لا يستطيع تغطية ذلك بالكامل، لذا حاولي أن تراعي نفسك، أيتها الثعلبة الصغيرة.”
كانت أعراض الشلل الجسدي تظهر عليها أكثر من بقية رفاقها.
فإن كان ذلك الشعور غربة، فماذا يعني ذلك؟
تكدّست الشكوك في ذهنها ككرة ثلج متدحرجة.
هويتها الذاتية، التي آمنت بها طوال عمرها، بدأت تتزعزع.
أصابها صداع حاد، لم تكن قادرة على التمييز، كل شيء مربك ومضطرب، ولا شيء مؤكد، هزّت رأسها بقوة.
“تبًا، كفى تفكيرًا.”
أغلقت علبة الكبريت فجأة، ووضعتها فوق المكتب في ركن الغرفة، ثم لمحت مجموعة أوراق للرسائل مع قلم ريشة موضوعة هناك.
“حين تعجزين عن حلّ مسألة، أزيحيها جانبًا، وركزي على ما يمكنك فعله الآن.”
عندما استرجعت الحادثة التي تسببت بها قبل قليل، أدركت أن الأولوية القصوى لها الآن هي “صحوة الأود”.
فكلما بقيت في هذه الحالة العاجزة، أصبحت أكثر عصبية وتوتّرًا.
وقد ينتهي بها الأمر بتهديد شخص بريء مجددًا.
“لنبدأ باختبار الأود أولًا.”
الأود هو القوة الطبيعية الأولية التي تُشكّل هذا العالم.
وفق معرفتها، فإن وجود الجاذبية والهواء والرعد معناه وجود الأود لا محالة.
وبحسب طبيعة الأشخاص، هناك من يتقبّل الأود بسلاسة، وهناك من يرفضه جسده.
أخذت ريتا قلم الريشة، وغرزته قليلًا في طرف إصبعها.
وبعد أن لونت طرف القلم بالدم المتجمع، بدأت ترسم دائرة سحرية بسيطة على ورقة الرسالة، ثم فتحت النافذة على مصراعيها، ووضعت الورقة على حافة النافذة، ووضعت فوقها كوبًا فارغًا، ثم انتظرت برهة.
“دائرة تجميع الأود، الاختبار الرسمي صعب الآن، لكن هذا الفحص البسيط يجب أن يكفي.”
دخلت أشعة الشمس الهادئة ونسيم الربيع المنعش من النافذة المفتوحة.
ثم ظهر في الكوب شيء شبيه بالسراب الخافت، إنها ظاهرة تحدث عندما يتجمع الأود بكثافة.
“إنه يتجمع بسهولة، رغم أن هذا عالم آخر، إلا أن الأساس واحد، لا ماء يتدفق عكسًا، ولا نار باردة… لا شيء غير منطقي هنا.”
أدخلت ريتا إصبعها الذي ما يزال الدم يتجمع على طرفه في الكوب المليء بالأود المتماوج، بحذر شديد.
“جيد، لم يُطرد، ولا شعرت بوخز أو انزعاج، هذا يعني أن جسدي لا يعاني من مضاعفات الأود، إذًا، درجة التوافق…”
ثم بدأت قطرة الدم المتجمعة على طرف إصبعها تنساب داخل سراب الأود بلطف.
لم تتنافر مثل الزيت والماء، بل انتشرت بسلاسة كالقطرة الحمراء من الحبر في كوب ماء، مصبغة السراب بلون أحمر شفيف.
شهقت ريتا بفم مفتوح، وهي تنظر إلى الكوب الذي تحوّل إلى اللون الأحمر في لحظة.
“ما هذا الجسد؟ توافقه مع الأود مذهل!”
فجسد ريتا باسكال لم يكن متوافقًا مع الأود بهذا الشكل.
في الماضي، كانت قطرة دمها تبقى في الكوب كأنها خرزة حمراء، دون أن تختلط.
“مستحيل… هذا يشبه ما كان يحدث مع جاي!”
جاي باسكال، من فرقة بيكون، كان الأعلى توافقًا مع الأود.
كان بإمكانه جمع كميات هائلة منه وبناء منطقة خاصة به في ساحة المعركة، ولهذا سُمِّي الملك.
“بل ربما هذه الجسد يمتص الأود أسرع حتى من جاي! بهذا الجسد يمكنني استخدام تقنيات لم أكن أجرؤ على تجربتها.”
تلاشت مشاعرها المتشابكة فورًا وهي تستذكر التقنيات التي طالما حلمت بها.
أخذت تتأمل الكوب الممتلئ بالأود الأحمر بإعجاب متواصل.
“رائع… ربما أتمكن من تنفيذ تلك التقنية التي لم تتجاوز حدود الخيال من قبل! مذهل، كنتُ أتجنب أي تقنية جديدة لأن جسدي القديم كان يصاب بالتشنجات أو الشلل فورًا…”
لو كان هذا الجسد حقًا جسدي… لكان أفضل.
توقّفت فجأة عندما خطرت لها هذه الأمنية.
“……..”
“لا تطمعي، ريتا باسكال، وإن لم يكن لك، ماذا ستفعلين؟ ماذا لو عادت ليلّيتا الحقيقية فعلًا…”
تذكّرت ورقة البرسيم ذات الأوراق الأربعة داخل علبة الكبريت.
لا بدّ أن ليونهارت أراد منها أن تتذكّر شيئًا عند رؤيتها، لكنها لم تتذكّر شيئًا.
ربما عبث باسكال بذكرياتها بطريقة ما وجعلها تنسى، وربما كل ما يحدث مجرد صدفة.
لكن خيبة الأمل بعد الأمل… أكثر إيلامًا.
لقد شهدت كيف انتهى الحال بأطفال باسكال الذين ظنوا للحظة أنهم عثروا على أسرهم.
تعلم ما الذي حصل لأحدهم عندما اعتقد أنه وجد عائلته.
أطفال باسكال ليسوا سوى أسلحة حيّة، وُجدوا فقط لمحاربة الوحوش.
ليس لهم عائلات.
وإن وُجدت، فلن يستطيعوا تقبّل الباسكال المختلف كأحد أفرادهم.
الوحيدون القادرون على فهم بعضهم هم الباسكال أنفسهم.
هذا ما تعلّمته ريتا بعد أكثر من عشر سنوات بصفتها إحدى أطفال باسكال.
“لا تتوقعي، لا تخدعي نفسك، في النهاية، أنا باسكال وسأعود إلى فرقة بيكون، لذا، اعتبري هذا الجسد مستعارًا فقط، هذا أفضل.”
تماسكت ريتا، وأزاحت الورقة التي رسمت عليها الدائرة السحرية مع الكوب جانبًا، ثم وقفت عند النافذة.
لم يعد هناك ما يدعو للقلق من المضاعفات، حان وقت “الصحوة”.
رفعت رأسها نحو السماء الزرقاء النقية، واستنشقت الهواء النقي بعمق.
“يا له من عالم جميل، لا أظن أن الوحوش ستظهر في مكان كهذا، لكن…”
فتحت جرح إصبعها أكثر بقلم الريشة، ورسمت برموز الدم المتجمعة دائرة قسمٍ على راحة يدها، ثم وضعت كفها على عنقها.
“〈يا أود، أقسم.〉”
انبثق صوتها بصدى غريب، وفي اللحظة نفسها، لفّها النسيم أو بالأحرى، الأود بكامله.
“〈أقسم أن أقضي على كل وحش يظهر أمامي.〉”
بدأ الأود يتغلغل في جسدها، وتماوجت هالات ضبابية حولها، في حين تطاير شعرها الذهبي وتلألأت عيناها البنفسجيتان.
أتمّت القسم بصوتها الغريب، وهي تضغط على عنقها:
“〈أقسم باسم ريتا باسكال.〉”
ثم سُمِع صوت أشبه بتسرّب الهواء فجأة، الأود المتجمّع حولها تلاشى في لمح البصر.
“هاه؟”
خرجت منها شهقة اندهاش دون وعي، القسم لم يُنفذ.
فالأود، الذي يُفترض أن يتقبّل القسم ويُفعّل القدرة، اختفى فجأة كما لو أنه تجاهلها.
“لماذا لم ينجح؟”
قبل لحظات، كانت كل العلامات تشير إلى صحوة وشيكة، حتى الرياح بدأت تهب عندما استشعر الأود قسمها…
“لماذا رُفضت فجأة؟”
نظرت ريتا حولها بحيرة، وأخذت تتحسّس عنقها. وفجأة تذكّرت موقفًا مشابهًا.
“ذلك المتطوّع في خط الدفاع الأخير… حاول أن يُقسم باستخدام اسم مستعار، فقوبل قسمه بالرفض.”
حتى لو جرى كل شيء بشكل سليم، فإن القسم باسم مزيف لا يُقبل.
ما حدث الآن لم يكن فيه خطأ، حتى مضمون القسم هو ما كانت تردّده منذ زمن بعيد.
“لا يمكن القول إن القسم رُفض لأن هذا العالم خالٍ من الوحوش… فالأود ظل يتجمّع حتى انتهيت من كلمات القسم.”
إنه السطر الأخير وحده ما جعل الأود يتبدّد، إذًا، هل يمكن أن…
وضعت ريتا يدها على عنقها مجددًا، ورددت كلمات القسم مرة أخرى، مع تغيير الجملة الأخيرة فقط:
“〈أقسم باسم ليلّيتا ديل نيسا راسكايل.〉”
وفي لحظة، امتصّ جسدها كل الأود المتجمّع، وفي خضم العاصفة، تماوج شعرها وتألّقت عيناها كالنجوم.
اندفع الأود بوفرة كالسيل الجارف، بلا توقف، حتى بلغ حدود ما يستطيع جسدها تحمّله.
مرّت لحظات كالعاصفة، ثم، بهدوء، أغمضت عينيها وفتحتهما ببطء.
“…هاه.”
ارتجفت من حجم الأود المختزن في جسدها الآن، أكبر بكثير مما امتلكته في أيامها كـ ريتا باسكال
وفي الوقت نفسه، صُدمت من أن القسم اكتمل فورًا.
“كيف نجح القسم باسم ليلّيتا؟ فقط لأن الجسد هو جسدها؟”
أليس الجسد مجرد وعاء؟ أليست الروح هي من يُقسم؟ أم أن الأود يهتم أكثر بالجسد الذي يحتويه؟
أم أنّ…
“……”
“أنكِ شخص مختلف؟ ريتا، لا يمكن أن أُخطئ في تمييز أختي الوحيدة، لو أن جوهرك تغيّر، لاكتشفتُ ذلك.”
“فكّري فقط، ولو مرة… أنّك ربما كنتِ الحقيقية.”
“هذا… مستحيل.”
ترددت كلمات ليونهارت في رأسها.
بدأت مشاعرها، التي بالكاد تماسكت، تنهار مجددًا.
تمتمت في حالة من الاضطراب:
“مستحيل…”
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 8"