الحلقة السابعة.
توقّف ليونهارت فجأة، وقد كان يربّت وجهها بقلق واضطراب.
كان يُحدّق إلى أسفل، متأمّلًا ملامح ليليتا التي اكتسبت حدةً صارخة، إلى أن انتبه فجأة لارتجاف جسدها الدقيق.
كانت خائفة منه.
وفي الوقت ذاته، كانت تُبقي جسدها مشدودًا بالكامل، مستعدةً للهجوم في أي لحظة.
‘ما نوع الحياة التي عاشتها بحق؟’
أبعد ليونهارت يده عنها، وتراجع خطوة.
حينها فقط، خفّ التوتر في كتفيها اللتين كانتا مشدودتين بشدة.
‘حتى لو قلت لها إننا عائلة، وإنه يمكنها أن تطمئن… فلن يكون لذلك أي معنى الآن.’
بعد أن فكّر مليًا، فتح فمه بحذر وقال:
“ريتا… لِنَعُد إلى الغرفة أولًا، هل يمكنك الوقوف؟ هل أساعدك؟”
“أستطيع النهوض وحدي.”
أجابت ريتا بإصرار رغم شحوب وجهها الذي فقد لونه، مستندة إلى الحائط لتنهض.
كانت ذراعاها النحيلتان ترتجفان بعنف.
أراد ليونهارت أن يحمل شقيقته المتمايلة ويساعدها، لكنه كبح تلك الرغبة ومشى بصمت أمامها، متعمدًا التمهّل.
عندما عادت ريتا إلى الغرفة، جلست على الأريكة. أخبرها ليونهارت أن تنتظر وخرج، ثم عاد وهو يحمل طقم شاي.
صبّ كأسين من الشاي الدافئ من الإبريق، ثم قدّم لها أحدهما بعد أن شرب من الآخر أولًا.
حين أدركت ريتا السبب وراء تصرفه هذا، أطلقت تنهيدة خفيفة وقالت:
“ما كان عليك أن تتكلّف كل هذا، أعلم جيدًا… أنك لن تسمّم هذا الجسد، جسد ليليتا.”
“العقل شيء، والجسد شيء آخر، الآن، كل شيء يبدو غريبًا بالنسبة لك، ومن الطبيعي أن تكوني في حالة حذر.”
قال ليونهارت ذلك بهدوء، بعد أن ارتشف رشفة من الشاي.
“لذلك… أردت فقط أن أساعدك على الاسترخاء قليلًا، ولو بهذا الشكل.”
“…”
تفاجأت ريتا من رد فعله الذي لم تتوقّعه.
لقد هاجمته ظنًا منها أنه شيطان، فلو انتهى بها الأمر في زنزانة مظلمة، لما بدا ذلك مستغربًا.
كانت تحدّق في فنجان الشاي بشرود، قبل أن ترفعه ببطء وترتشفه.
وما إن انساب السائل الدافئ والمر قليلاً عبر حلقها، حتى شعرت بجسدها المشدود يتراخى أخيرًا.
لكن ليونهارت لم يستعجلها.
ظل صامتًا ينتظرها بصبر.
بعد أن أنهت فنجانها، رفعت يدها لتمسح العرق البارد عن جبهتها، ثم قالت أخيرًا:
“تلك الخادمة… هانا، هل هي بخير؟”
“بخير. فُزِعت قليلًا، لكنها لم تُصب بأذى،أرسلتها إلى الطبيب، فلا داعي للقلق.”
“…لن تستجوبني؟ مع أنني تسببت بكل ما حدث للتو.”
“كان هناك سبب، أليس كذلك؟”
“هاه؟”
“لم تفعلي ذلك عمدًا.”
“صحيح، لكن…”
“إذن لا بأس.”
نظر إلى ساعته اليدوية، ثم وضع فنجانه الفارغ جانبًا.
“ريتا، لدي عمل لم أنهِه بعد، لذا سأذهب الآن. سأعود مساءً، ارتاحي في هذه الأثناء، إذا احتجتِ شيئًا، اسحبي الحبل هناك.”
وبينما بدا مستعدًا للنهوض، استوقفته ريتا بارتباك:
“ألن تسألني؟ عن السبب؟ لماذا فعلت ذلك؟”
“هل ستجيبين إذا سألتك؟”
“…ليست قصة بسيطة.”
“لا بأس بطولها، بل بالعكس، كلما كانت مفصلة، كان ذلك أفضل.”
“لكن ألم تقل إنك مشغول؟”
“عملي ليس أهم منك.”
وبدلًا من مغادرة الغرفة، جلس مرة أخرى،فحدّقت فيه ريتا بدهشة قبل أن تقول بصعوبة:
“ليونهارت… أنت تعلم، أليس كذلك؟ أنني لستُ أختك الحقيقية.”
ساد الصمت للحظة، قبل أن يجيب بتروٍّ.
كان ينوي التظاهر بعدم المعرفة حتى تدرك الأمر بنفسها، لكنه بعد ما حدث قبل قليل، أيقن بشيء مهم.
ليليتا نشأت في ظروف قاسية… لا، قاسية بشكل يفوق تصوره.
كنت أشكّ في ذلك منذ البداية… لكن يبدو أنها تجاوزت حتى أسوأ توقعاتي.
ربما نشأت في بيئة كان البقاء فيها مرهونًا بالشك الدائم، وردّ الفعل العنيف على أي تهديد، مهما كان صغيرًا.
في هذه الحالة، ربما لا يجدي نفعًا أن أتظاهر بالجهل. بل…
عليه أن يمنحها الطمأنينة بأي شكل.
ظل يُمرر أصابعه على شفتيه، ثم تكلّم ببطء:
“ريتا، لأكون صادقًا…”
“أنا أراكِ كأنكِ هي، كأنكِ ليليتا الحقيقية.”
“لكنني أخبرتك أنني لستُ هي.”
“نعم، ولأني أصدقك، قررت أن أقبل بذلك،لكن…”
ظهرت على شفتيه ابتسامة مريرة.
“لكني لا أستطيع منع نفسي من رؤيتك كشقيقتي التي فقدت ذاكرتها.”
“ذلك لأنني في جسدها،لا تخلط بين الأمرين.”
“ريتا.”
حدّق فيها بعينين تشبهان عينيها إلى حدٍ مؤلم.
“ما أقدم ذكرى تتذكرينها؟”
“كنت أتجوّل كيتيمة، هذا كل شيء.”
“في أي عمر تقريبًا؟ ما تفاصيل تلك الذكرى؟”
“لا أعلم، لم أكن أُجيد العد حينها،أتذكر فقط أنني كنت على وشك الموت جوعًا، ثم ظهر شخص ما وعرض عليّ أن أصبح ابنته… ووافقت، لأنني كنت جائعة، تلك أقدم ذكرى أملكها.”
ذلك الشخص كان الساحر العظيم، باسكال
منذ ذلك الحين، أصبحت واحدة من أطفال باسكال،
وتدرّبت معهم تدريبًا قاسيًا لا يرحم.
ما قبل ذلك… الذكريات ضبابية.
وحين تحاول أن تتذكر، لا يعود إليها سوى ألم البطن الممزق من الجوع، وروائح نتنة تخنق الأنفاس، وخوف مقزز، وألم يمزّق الجلد.
بالمقارنة مع تلك المرحلة، كانت تدريبات باسكال رغم قسوتها ، أهون بكثير على الأقل، لم أعد أموت جوعًا.
لذا لا تودّ الخوض أكثر، لا تريد تذكُّر طفولتها البائسة.
“أتفهم؟ كنت مجرد يتيمة تافهة،لا ذكريات جميلة لديّ من تلك المرحلة،فلا تسألني عنها مجددًا.”
رغم وضوح نفورها، لم يتراجع ليونهارت.
“وما قبل ذلك؟”
“ماذا؟”
“قبل أن تصبحي يتيمة؟ لا يمكن أن يعيش رضيع وحده، ألا تملكين أي ذكرى لعائلة اعتنت بك؟ أو مكان نشأتِ فيه؟ مجرد ذكريات عن التشرد فقط؟”
“ماذا تريد بالضبط؟ ليونهارت، لستُ ليليتا! لا أذكر شيئًا عن هذا القصر الفخم، ولا أعرفك. ما أتذكره بوضوح هو الجوع، والبحث في أكوام القمامة.”
فجأة، انبثقت من أعماقها ذكريات قديمة مشاهد كانت تظنها اندثرت.
الغيرة المريرة من الأطفال المحاطين بعائلاتهم، رائحة الجيف العالقة بجسدها، أمعاء الوحوش اللاصقة ببشرتها، الدماء الزلقة، الجراح المفتوحة، والسلاح الثقيل بين يديها الصغيرة.
والطفل ذو الملابس النظيفة الذي لجأ لأمه صارخًا بخوف حين رآها.
والأم التي حضنت ابنها، تحاول حمايته منها.
وقفت مندهشة، تراقب تلك الأم، وامتلأت روحها بالحسرة.
صرخت ريتا، وقد اختنق صوتها:
“عائلة؟ لا أعرف شيئًا عنها! لماذا أُجبر نفسي على تذكُّر أناسٍ تخلّوا عني؟”
لمعت في عيني ليونهارت نظرة حزينة لبرهة، قبل أن يتماسك ويجيب بثبات:
“أفهم أن الماضي مؤلم، لكن إن لم تتذكّري عائلتك مطلقًا… إن كنتِ حقًا يتيمة منذ البداية، فهل فكرتِ بإمكانية أنكِ فقدتِ ذاكرتك؟”
“ما الذي تقصده؟”
“أليس غريبًا أن تعودي إلى هذا العالم، لتجدي نفسك في جسد ليليتا بالذات؟ ماذا لو لم يكن الأمر مصادفة؟ ماذا لو كنا نحن عائلتك التي نسيتِها؟ ماذا لو أنكِ عدت إلى موطنك، واستعدتِ جسدك الأصلي؟”
ثم أخرج شيئًا من صدره ووضعه على الطاولة.
“ريتا، لا أعلم كيف كانت الأمور في عالمك… لكن في هذا العالم، حلول الروح في جسدٍ آخر أمر نادر للغاية، بعض شائعات السحر الأسود تتحدث عن ذلك، لكن… إن كان هذا قد حصل فعلًا، فلابد أنكِ كنتِ ستشعرين بنفور.”
كان ما وضعه على الطاولة علبة كبريت صغيرة بحجم راحة اليد.
علبة مسطّحة بُنّية اللون، تحيطها زخارف مذهّبة باهتة من قِدم الزمن.
“تقولين إنكِ شخص مختلف؟ لكن، ريتا… لا أعتقد أنني عاجز عن التعرّف على أختي الوحيدة، لو أنكِ تغيرت في جوهرك، كنت لأشعر بذلك.”
ودفع العلبة الصغيرة نحوها بلطف، ثم نهض.
“فكّري، ولو مرة واحدة، في احتمال أنكِ هي.”
بقيت ريتا جالسة، جامدة، حتى أغلق الباب خلفه وغادر تمامًا.
أن أكون “هي”… هل هذا ممكن أصلًا؟
لم يخطر لها هذا الاحتمال قط، فجسدها مختلف تمامًا.
ما الذي رآه فيّ؟
تردّدت للحظة، ثم التقطت علبة الكبريت القديمة بحذر وفتحتها.
في داخلها، كانت هناك بطاقة صغيرة لصق عليها نبات نفل بأربع أوراق، جاف وهشّ.
كتب بخط طفولي مستدير:
“أنا التي وجدتُه! ليون أوبا، عليك أن تنجح في الامتحان!”
خط صغير، مضغوط، يفيض بالبراءة، تفوح منه رائحة الذكريات القديمة.
هل كان هذا هدية من ليليتا إلى ليونهارت؟ هل احتفظ به طوال هذه السنوات؟ أكثر من عشر سنوات؟
حدّقت فيه ريتا طويلًا، شاردة.
غمرها شعور بالحنين، بشيء دافئ، لطيف، مألوف… كأنها فتحت رسالة قديمة كانت مطوية في أعماق القلب.
اهتزّ شيء دقيق في أعماقها.
لكن لم تظهر أي ذكريات واضحة، فقط غبش وضباب خانق.
ثم، ومضت من ذكرى…
“أنتِ اسمك ريتا، أنا من التقطكِ، لا أم، لا أب، ولا عائلة.”
ذاك الصوت، الساحر العظيم باسكال، يربّت على رأسها، مخفيًا عينيه تحت القبعة.
“الآن… ستتذكّرين تمامًا كم كنتِ جائعة وبائسة لذا، عليكِ أن تكوني ممتنّة لي، لأني من أنقذك.”
والآن فقط، بدأت تلاحظ كم كانت تلك الكلمات غريبة في معناها.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 7"