توقّفت حركةُ ليونهارت المتململة، وهو يربّتُ على وجهِها بقلق، فجأةً وتيبّست.
حدّق في تعابير ليليتا الحادّة المتحفّزة، ثم لاحظ أنّ جسدَها يرتجفُ ارتجافًا خفيفًا.
ليليتا… تخافُ منه.
وفي الوقتِ ذاته، تُبقي جسدَها مشدودًا بالكامل، كأنّها مستعدّةٌ لمهاجمته في أيّ لحظة.
يا تُرى، أيُّ حياةٍ عاشتها هذه الطفلة؟
سحب ليونهارت يدَه وتراجع خطوةً إلى الخلف. عندها فقط، ارتخت كتفاها المشدودتان بشدّة.
‘حتى لو قلتُ لها إنّنا عائلة ويمكنها أن تطمئن… فلن يكون لذلك معنى الآن، أليس كذلك.’
اتّخذ قراره بحذر، وفتح فمه بنبرةٍ هادئة.
“ريتا، لنبدأ بـ…… العودة إلى الغرفة.
هل تستطيعين الوقوف؟
هل أساعدك؟”
“أستطيع الوقوف وحدي.”
أجابت ريتا بعناد، رغم وجهها الشاحب كالأزرق، واستندت إلى الجدار لتنهض.
كانت ذراعاها النحيلتان ترتجفان بعنف.
كبح ليونهارت رغبته في حمل أخته المتمايلة بين ذراعيه، وتقدّم صامتًا أمامها. متعمّدًا أن يسير ببطء.
عادت ريتا إلى غرفة الضيوف وجلست على الأريكة. طلب منها ليونهارت أن تنتظر، ثم خرج وعاد بعد قليل ومعه طقمُ شاي.
سكب من الإبريق كوبين من الشاي الدافئ، وترك لها اختيار أحدهما، ثم شرب من الكوب المتبقّي بنفسه أوّلًا.
حين أدركت ريتا سببَ هذا التصرّف، أطلقت زفرةً خفيفة وقالت:
“لا داعي لكلّ هذا الحرص.
أنا أعرف جيّدًا أنّك لن تضع سمًّا أو شيئًا كهذا في هذا الجسد…… جسد ليليتا.”
“ما يعرفه العقل، لا يتقبّله الجسد دائمًا.
الآن، كلّ شيءٍ غريبٌ عليك، ومن الطبيعي أن تكوني متحفّزة.”
قال ليونهارت بعد أن ارتشف رشفةً من الشاي، وأردف بهدوء:
“لذلك، أردتُ أن ترتاحي قليلًا، ولو بهذه الطريقة.”
“…….”
ارتبكت ريتا من ردّة فعله غير المتوقّعة.
لقد هاجمت شخصًا سليمًا ظنًّا منها أنّه وحش، وكان من غير المستغرب أن تُسجَن أو تُقيَّد فورًا.
حدّقت في فنجان الشاي بشرود، ثم رفعته ببطء وشربت.
ما إن انساب السائلُ الدافئ المرّ قليلًا في حلقها، حتّى شعرت بأنّ جسدها المتشنّج قد استرخى فعلًا.
لم يُلحّ ليونهارت عليها. لم يتكلّم، واكتفى بالانتظار بصمت.
بعد أن أنهت ريتا شايها، ومرّرت يدها على غُرّتها المبلّلة بالعرق، كانت هي من فتح فمها أوّلًا.
“آه… تلك الخادمة…… كيف حال هانّا؟
هل هي بخير؟”
“بخير.
فزعت قليلًا، لكنّها لم تُصب بأذى.
أرسلتُها إلى الطبيب الخاص، فلا داعي للقلق.”
“……ولن تُحقّقوا معي؟
بعد ما فعلتُه للتوّ.”
“كان لديكِ سبب، أليس كذلك؟”
“هاه؟”
“لم تفعلي ذلك عن قصد.”
“هذا صحيح، لكن……”
“إذًا انتهى الأمر.”
ألقى نظرةً على ساعة معصمه، ثم وضع الفنجان الفارغ.
“ريتا، لديّ بعض الأعمال غير المنتهية، عليّ الذهاب الآن.
سأعود في المساء، فاستريحي في هذه الأثناء.
وإن احتجتِ شيئًا، اسحبي ذلك الحبل هناك.”
وعندما بدا أنّه سيقف فورًا، سألتْه ريتا بارتباك:
“حقًّا؟
لن تسألني لماذا فعلتُ ذلك؟”
“إن سألتُك، هل تستطيعين الإجابة؟”
“……ليست قصّةً بسيطة.”
“لا بأس إن كانت طويلة.
بل بالعكس، كلّما كانت مفصّلة كان أفضل.”
“قلتَ إنّك مشغول.”
“لا شيء أهمّ منك.”
كان قد همّ بالنهوض، لكنّه جلس مجدّدًا.
فتحت ريتا فمها بدهشة، ثم قالت بصعوبة:
“اسمع، ليونهارت……
أنتَ تعلم، أليس كذلك؟
أنّني لستُ أختك الحقيقيّة.”
تردّد ليونهارت لحظة.
كان ينوي التظاهر بالجهل حتّى تكتشف الأمر بنفسها، لكنّ ما حدث قبل قليل جعله يدرك شيئًا بوضوح.
ليليتا نشأت في ظروفٍ غير طبيعيّة إلى حدٍّ مفرط.
‘كنتُ أُخمّن ذلك منذ لقائنا الأوّل…
لكن يبدو أنّه كان أسوأ ممّا توقّعت.’
لا بدّ أنّها عاشت في بيئةٍ لا يمكن النجاة فيها إلّا عبر الشكّ الدائم بكلّ شيء، والردّ بعدوانيّة على أصغر تهديد.
‘في هذه الحالة…
بدلًا من التظاهر بعدم المعرفة.’
أراد، بأيّ وسيلة، أن يمنحها الطمأنينة.
بعد أن مسح فمه بيده لحظةً، فتح فمه ببطء:
“ريتا، لأكون صريحًا.”
“…….”
“أنا أظنّكِ ليليتا الحقيقيّة.”
“قلتُ لكَ إنّي لستُ كذلك.”
“أعلم.
وحين قلتِ ذلك، قرّرتُ أن أُصدّقك.”
ابتسم ليونهارت ابتسامةً مرّة.
“لكن مهما حاولت، لا أراكِ إلّا ليليتا التي فقدت ذاكرتها.”
“ذلك بسبب هذا الجسد.
لا تسيء الفهم.”
“ريتا.”
نظرت إليها عينان تشبهان عينيها، بنظرةٍ ثابتة.
“ما أقدم ذكرى تتذكّرينها؟”
“قلتُ إنّي كنتُ أتنقّل كيتيمة.”
“وكم كان عمركِ حينها؟
أيُّ ذكرى تحديدًا؟”
“لا أدري بالضبط.
أتذكّر أنّني كنتُ أفكّر بأنّني سأموت جوعًا إن استمرّ الحال هكذا…
ثمّ قابلتُ شخصًا.
عرض عليّ أن أصبح طفلته، فوافقتُ لأنّني كنتُ جائعة.
تلك أقدم ذكرى لديّ.”
كان ذلك الشخص هو الساحرُ الأعظم باسكال.
وهكذا أصبحت ريتا إحدى أطفال باسكال، وتلقّت مع الآخرين تدريبًا قاسيًا.
أمّا ما قبل ذلك اللقاء، فذكرياته ضبابيّة.
كلّما حاولت تذكّرها، لم يخطر ببالها سوى الجوع الذي يمزّق الأحشاء، والروائح الخانقة، والخوف المقزّز، والألم القاطع… لذا لم تُرِدْ الغوص أكثر.
‘مقارنةً بحياةِ اليُتم، كان ذلك التدريبُ الجحيميّ محتملًا.
على الأقل، بعد أن أصبحتُ طفلة باسكال، لم أعد أتضوّر جوعًا.’
لذلك، تمنت لو يتوقّف عن السؤال.
لا تريد استحضار طفولتها بعد الآن.
“هل فهمت؟
كنتُ يتيمةً عاديّة.
لا ذكرى جميلة واحدة من تلك الفترة،
لذا لا تسألني أكثر.”
رغم أنّها أظهرت بوضوح عدم رغبتها في التذكّر، لم يتراجع ليونهارت.
“وماذا قبل ذلك؟”
“ماذا؟”
“قبل أن تصبحي يتيمة.
لا يمكن لرضيعٍ أن ينجو وحده.
ألا تتذكّرين عائلةً ربّتك؟
أو مكانًا نشأتِ فيه؟
هل كلّ ما تتذكّرينه هو التشرّد فقط؟”
“ما الذي تحاول الوصول إليه؟
ليونهارت، أنا حقًّا لستُ ليليتا.
لا أملك أيّ ذكريات عن العيش في هذا القصر الباذخ، ولا أعرفك.
لكنّي أتذكّر بوضوح الجوع، ونبش أكوام القمامة.”
تطفو فجأةً ذكرياتُ أطفالٍ آخرين كانوا يعيشون في كنف عائلاتهم.
رائحةُ العفن العالقة بجسدها، وأحشاءُ الوحوش اللاصقة بجلدها.
يدان مجروحتان ملطّختان بالدماء، تنزلقان.
وبندقيّةٌ ثقيلة تحملها بيدين صغيرتين.
تتذكّر طفلًا نظيفَ الهيئة يبكي لأمّه، متذمّرًا من منظرها القذر والمخيف.
وتتذكّر تلك “الأم” وهي تضمّ طفلها وتحميه منها… منها هي، التي تحمل السلاح.
ذلك المشهد الذي شعرت حياله بحسدٍ لا يُحتمل.
ذكرى قديمة جدًّا.
ارتفع صوتُ ريتا وقد غصّ صدرها:
“عائلة؟
لا أعرف!
ولِمَ أُتعب نفسي بتذكّر أناسٍ تخلّوا عنّي أصلًا؟”
لمح ليونهارت في لحظةٍ تعبيرًا حزينًا، ثم استعاد هدوءَه وأجاب بصوتٍ متزن:
“أتفهّم أنّها فترةٌ صعبة ولا تريدين استعادتها.
لكن إن كنتِ لا تتذكّرين عائلةً على الإطلاق…
إن كنتِ يتيمةً منذ البداية…
فأريدكِ أن تفكّري باحتمالٍ واحد.”
“ما هو؟”
“احتمال أنّكِ فقدتِ ذاكرتك.
وإن لم يكن قدومكِ من عالمٍ آخر إلى جسدِ ليليتا محضَ صدفة؟ ربّما نكون نحن عائلتكِ التي نسيتِها.
وربّما حين عدتِ إلى وطنكِ، استعدتِ جسدكِ الأصليّ.”
وأخرج شيئًا من جيبه ووضعه على الطاولة، وهو يتابع:
“ريتا، لا أعرف كيف كان الأمر في المكان الذي جئتِ منه،لكن في هذا العالم، حلولُ روحٍ في جسدِ شخصٍ آخر ليس أمرًا سهلًا.
توجد شائعات عن سحرٍ أسود قادر على ذلك، لكن……
لو حدث، فلا بدّ أن يشعر المرءُ بنفورٍ أو غرابةٍ ما.”
ما وضعه ليونهارت على الطاولة كان علبةَ أعوادِ ثقابٍ صغيرة، بحجم راحة اليد.
علبةٌ بنّيّة مسطّحة، مزخرفة بحوافّ مذهّبة، بالية كأنّها عاشت سنواتٍ طويلة.
“أن يكون داخلكِ شخصٌ آخر؟
ريتا، لا أظنّ أنّني قد أخطئ في التعرّف على أختي الوحيدة.
لو تغيّر جوهرُكِ، لكنتُ لاحظتُ ذلك حتمًا.”
دفع علبةَ الثقاب قليلًا نحو ليليتا، ثم نهض.
“فكّري مرّةً واحدة فقط.
في احتمال أنّكِ الحقيقيّة.”
“……!”
ظلّت ريتا متجمّدة في مكانها حتّى خرج ليونهارت من الغرفة تمامًا.
احتمالُ أن تكون هي الحقيقيّة.
لم يخطر ببالها هذا الاحتمال ولو مرّة.
فالجسد مختلفٌ تمامًا.
‘بمَ استندَ في ذلك أصلًا……؟’
تردّدت قليلًا، ثم التقطت علبةَ الثقاب القديمة بحذر وفتحتها.
في الداخل، بطاقةٌ صغيرة، مُلصَقٌ عليها برسيمٌ رباعيّ الأوراق جافّ.
وجدتُها!
الأخ ليون، لا تنسَ أن تنجح في الاختبار!
خطُّ طفلٍ مستدير، محفور بعناية حول البرسيم الباهت المتشقّق.
كانت تفوح منه رائحةُ الزمن والذكريات.
هل أهدت ليليتا هذا إلى ليونهارت؟
وهل احتفظ به كلّ هذه السنوات؟
أكثر من عشر سنوات؟
“…….”
حدّقت ريتا فيه طويلًا.
لسببٍ ما، شعرت بحنينٍ جارح.
شعورٍ دافئ، أليف، مؤثّر.
كأنّها فتحت رسالةً قديمة.
اضطرب شيءٌ عميق في قلبها.
لكن لم تطفُ أيّ ذكرى واضحة.
كلّ شيءٍ كان ضبابيًّا، خانقًا.
—
“أنتِ ‘ريتا’.
اليتيمة التي التقطتُها، بلا والدين ولا عائلة.”
—
بدلًا من ذلك، برزت فجأةً ذكرى الساحر الأعظم باسكال، وهو يضع يده على رأسها، مغطّى بالعباءة.
—
“والآن، ستتذكّرين بوضوحٍ كم كنتِ جائعةً ومتعبة.
فاشكري من أنقذكِ من ذلك، واشكريني أنا.”
—
كلّما فكّرت بالأمر…
كانت تلك الكلمات تحمل نبرةً غريبة.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 7"